شرح دعاء يوم الأربعاء
الحَمْدُ للهِ
على ما أولانا من هذا الضوء الذي امتدَّ في الكون، فأعطاه إشراقه من خلال خيوط النور الذهبية المنبعثة من عيون الشمس، فأشرقت حياتنا في حركيتها فيه. وأطلق قبل ذلك الزمنَ الممتدَّ في ظلامه الذي يوحي لنا بالسكينة في الليل.
الذِي جَعَلَ الليْلَ لِبَاسَاً (1)
يغطي بظلمته عوراتنا، تماماً كما لو كان يلبسنا أو نلبسه، وكما ورد في الدعاء: "لنلبس من راحته ومنامه، فيكون لنا جماماً وقوة، ولننال به لذةً وشهوةً"(2).
وَالنَّوْمَ سُبَاتاً (3)
أي قطعاً؛ فكأن الانسان إذا نام انقطع عن الناس. وقال الزجّاج:"السبات: أن ينقطع عن الحركة، والروحُ في بدنه" (4)، وهذا ما يجعل منه راحةً للجسد.
وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورا (5)
أي بعثاً، تماماً كما هو البعث بعد الموت. وقد جاء في الحديث المرويّ عن النبي محمد (ص): "إنكم لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون" (6).
ومن خلال ذلك كان النهار الذي يتخفّف فيه الأنسان من حالة النوم الذي يستغرق الإنسان في الليل، كما هي حالة البعث والنشور إلى الله بعد الموت.
لَكَ الحَمْدُ أنْ بَعَثْتَنِي مِنْ مَرْقَدِي وَلَوْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ سَرْمَدَاً، حَمْدَاً دَائِمَاً لا يَنْقَطِعُ أبَدَاً وَلا يُحْصِي لَهُ الخَلائِقُ عَدَدَاً (7)
إنّه البعث اليومي الجديد الذي يعيش الإنسان في ليله ما يشبه الموت المؤقت الذي يفقد فيه إحساسه الواعي بالحياة، وقد يمتدّ به الأمر ـ كما في بعض الحالات ـ إلى فقدان الحياة بالكلية لولا أن الله لم يقدّر له الموت؛ لأن هناك أجلاً مسمَّى مما قدره الله لعمره ولم يحن وقته الآن، كما جاء في قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (8). فلك الحمد على هذا العمر المنفتح على الحياة في هذا اليوم، بإرادتك التقديرية، ولو شئت ـ وأنت المالك للحياة والموت ـ جعلته موتاً أبديّاً. إنها نعمة الحياة المتجدّدة في أيامي كلها، وأيَّةُ نعمة أعظم من نعمة الحياة!
اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أنْ خَلَقْتَ فَسَوَّيْتَ
فأنت الخالق الذي خلق الإنسان، فسوّاه بشراً في أحسن تقويم، وقد تمدّحت في كتابك فقلت: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثمّ جعلناه نطفة في قرار مكين، ثمّ خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثمّ أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) (9)، وقُلت: (سبّح اسم ربّك الأعلى، الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهدى) (10).
وَقَدَّرْتَ وَقَضَيْتَ (11)
فأنت الذي قدّرتَ الأمور حين خلقت الخلق كلّه، فمنحت كل مخلوق عناصر هدايته، وألهمته كيف يمارس دوره الذي قدّرته لقيامه بمسؤولياته في الحياة، وجعلت لكلّ شيء قدراً، وقد قلت في كتابك: (إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر) (12)، وقلت: (إنّ الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً) (13)، وقلت: (وكان أمر الله قدراً مقدوراً) (14).
وَأمْرَضْتَ وَشَفَيْتَ
فأنت الذي خلق للمرض عناصره في جسد الانسان، من خلال اختياره السيِّئ تارة، وتأثره بالظروف المحيطة به أخرى، ثمّ ألهمته أسباب الشفاء، بما أودعته في وعيه لذلك، وبما هيأته من الوسائل من ذلك، مما أردته أن يأخذ بها كدواء وكعلاج لمرضه.
وَعَافَيْتَ وَأبْلَيْتَ
فمنك البلاء، ومنك العافية، في الأمور كلّها، من خلال السنن الكونية والإنسانية التي تنتج البلاء تارةً بما كسبت أيدي الناس، والعافية أخرى التي يسعون إليها من خلال ما يكتشفونه من عناصرها في حياتهم الخاصة والعامة.
وَعَلَى العَرْشِ اسْتَوَيْتَ (15)
في سيطرتك المطلقة على مواقع السلطة في الكون الذي خلقته، من موقع القدرة المهيمنة ـ في أعلى درجاتها، وأرفع أوضاعها ـ على الأمر كله.
وَعَلَى المُلْكِ احْتَوَيْتَ
فأنت المالك لكل مخلوقاتك، فهي صَنعتُك، ونتيجة قوّة الإيجاد عندك. وبذلك احتويت الملك كله في ذاتك، من دون تمليكٍ من أحدٍ؛ لأنه لا يملك شيء شيئاً إلا من خلال ملكك.
أدْعُوكَ دُعَاءَ مَنْ ضَعُفَتْ وَسِيلَتُهُ (16)
دعاء الذي لا يملك الوسائل التي يقدّمها بين يديه للحصول على رضاك وعفوك، ولا لأيٍّ ممّا يريده على مستوى الدنيا والآخرة؛ لأنه الفقير الذي لا يملك أية وسيلة ذاتية من حالة القدرة عندها. ولذلك أطلب الوسيلة منك ـ يا ربّ ـ، وأنت الذي تمنّ بالعطيّات على أهل مملكتك.
وَانْقَطَعَتْ حِيلَتُهُ (17)
فلا حيلة لديه للوصول الى ما يريده منك في ذاتياته الخاصة؛ لأنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً إلا بك.
وَاقْتَرَبَ أجَلُهُ، وَتَدَانَى فِي الدُّنْيَا أمَلُهُ (18)
لأن عمره ما زال يتناقص في كل يوم، ويذوب شيئاً فشيئاً، في استهلاك الساعات والأيام، مما يؤذن بدنوّ أجله الذي لا يعرف مداه. ولذلك، فإنّ أمله في الدنيا في خطّ تنازليّ أمام خفاء أجله الذي قدّرته له،
وأنت قلت في كتابك: (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي ارض تموت) (19).
وَاشْتَدَّتْ إلى رَحْمَتِكَ فَاقَتُهُ (20)
فهو الفقير إليك في كل حاجاته، كما هو الفقير اليك في وجوده، في البداية والنهاية. فإليك ـ يا ربّه ـ يرفع ابتهالاته من موقع فاقته، لتمنحه الغنى من رحمتك وجودك.
وَعَظُمَتْ لِتَفْرِيطِهِ حَسْرَتُهُ (21)
فهو النادم المتحسّر على ما فرط في جنب الله، على كلّ الفرص التي كان يُمكن أن يملأها بالطاعة، وما يقرّبه منك، ولكنّه ألقى بنفسه إلى الذنوب والمعاصي، وهو يعلم أنّ في ذلك سوء المصير في الآخرة ما لم تتداركه رحمتُك وعفوك.
وَكَثُرَتْ زَلَّتُهُ وَعَثْرَتُهُ (22)
مما جعله يعيش الموقف بالحياء النفسي الذي يجعله في موقع السقوط أمامك، ليتفادى النتائج الصعبة التي يواجهها من خلال ذلك، فيأخذ بما علّمته إيّاه في مثل هذه الحالة؛ من الندم على ما فات، والعزم على السلامة فيما بقي، بالتوبة الخالصة النصوح.
وَخَلُصَتْ لِوَجْهِكَ تَوْبَتُهُ
ليعود إليك خالصاً مخلصاً، طاهراً نقياً، يرتفع بروحه إليك، ليقترب منك، في مواقع القرب إليك.
إنّها الدعوة المنبعثة من عمق الروح، وأفق العقل، وانفتاح العبودية المخلصة أمام الالوهية الرحيمة.
صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، وَارْزُقْنِي شَفَاعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَلا تَحْرِمْنِي صُحْبَتَهُ، إنَّكَ أَنْتَ أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ
فقد أذنتَ له بالشفاعة، وارتضيتها له، فأْذن له بأن يشفع لي، وشفِّعْه فيّ، وأسعدني بصحبته في درجات الجنة، واجعلني ـ يا ربّ ـ ممن يستحق ذلك، بانفتاحه على الرسالة بالدعوة إليها، والعمل في سبيلها.
اللهُمَّ اقْضِ لِي فِي الأرْبَعَاءِ أرْبَعاً؛ اجْعَلْ قُوَّتِي فِي طَاعَتِكَ
لأني أريد أن توفّقني للأخذ بأسباب القوّة الواعية المنفتحة على كل التزاماتي في خط المسؤولية، لتتحرّك في كياني بالأخذ بكل الوسائل التي تحقق موارد الطاعة، بامتثال أوامرك ونواهيك؛ لأنّ القوّة التي أعطيتَني ـ يا ربّ ـ هي أمانتك عندي، في أن أحرّكها في خطّ طاعتك، وقد أشار إلى ذلك عليّ (ع) عندما قال: "أقلُّ ما يلزمكم لله أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه" (23)
وَنَشَاطِي فِي عِبَادَتِكَ
لتكون كل عناصر النشاط في جسدي حيويةً في حركيتها، بما يجعلني في اندفاع كل طاقتي لعبادتك في كل فروضها ونوافلها، وقد قلتَ في كتابك العزيز: (وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدون) (24)، وقلت: (إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين) (25)، وأنا أعلم ـ يا ربّ ـ أن الخضوع لك، والتذلّل بين يديك، سموٌّ في ذاتي، وبين الناس.
وَرَغْبَتِي فِي ثَوَابِكَ
فالرغبة في ثوابك هي التي تحثّني على الحركة في سبيل الحصول عليه، من خلال ما يوحي إليّ برضوانك، وأنت قلتَ في كتابك: (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقّاها إلا الصابرون) (26)، وقلت: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيّبة في جنّات عدن ورضوانٌ من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) (27).
وَزُهْدِي فِي مَا يُوجِبُ لِي ألِيمَ عِقَابِكَ (28)
لا تجعل ـ يا ربّ ـ في نفسي رغبةً في ما حرمته عليّ، وأبعدتني عنه، فلا آخذ به، ولا أرغب فيه، بل أنظر إليه نظرة الزاهد فيه مهما أثار من الرغبات والشهوات؛ لأن عقابك يمثّل الشقاء الدائم والحسرة الطويلة.
إنَّكَ لَطِيفٌ لِمَا تَشَاءُ (29)
فأعطني من لطفك ما يقرّبني من طاعتك، ويبعدني عن معصيتك، ويرتفع بي إلى مواقع الرضوان لديك، والقرب منك، يا أرحم الراحمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] لباساً: أي تسكنون فيه، وهو مشتمل عليكم كاللباس.
[2] زين العابدين (ع)، الصحيفة السجاديّة، من دعائه عند الصباح والمساء،
[3] السبات: النوم، وأصله الراحة. وسُباتاً: أي قطعاً.
[4] ابن منظور، لسان العرب، ج2، ص37.
[5] النشور: البعث من جديد، أي المبعث لطلب الرزق.
[6] المجلسي، بحار الأنوار، ج7، ص47.
[7] مرقدي: الرقاد هو النوم بالليل والنهار عند العرب، والمرقد هو الموضع، وهو القبر، والنوم أخو الموت. سرمداً: دوام الزمان من ليل أو نهار. يحصي: من حصى، أي حسِبَ وعدَّ.
[8] سورة الزمر، الآية 43.
[9] سورة المؤمنون، الآيات 12-15.
[10] سورة الأعلى، الآيات 1-3.
[11] قدّرت: قضيتَ القضاء الموفّق، والله مقدّر كلّ شيء وقاضيه. قضيت: أنفذت حكمك بالشيء.
[12]سورة القمر، الآية 79.
[13] سورة الطلاق، الآية 3.
[14] سورة الأحزاب، الآية 38.
[15] استوى: جلس وارتقى، وقد استعير اللفظ للهيمنة والسلطة، ومنه قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى).
[16] وسيلته: ما يحتاجه الإنسان في سعيه لتنفيذ مأربه وغايته.
[17] حيلته: الحَيْل القوّة، ويُقال: لا حيْلَ ولا قوّة إلا بالله.
[18] أجله: غاية الوقت في الموت وحلول الدين، ونحو ذلك من مدّة الشيء. تدانى: من دنا يدنو، أي اقترب كثيراً.
[19] سورة لقمان، الآية 34.
[20] الفاقة: الحاجة إلى الشيء، وهو ما ينقص المرء.
[21] لتفريطه: لإسرافه في العمل. والمفرّط ـ بالتشديد ـ المقصّر فيه. وفي حديث عليّ (ع): "لا يُرى الجاهل إلا مفرِطاً أو مفرِّطاً".
[22] الزلّة: الخطيئة، وكذلك العثرة، وجمعها عثرات وزلاّت.
[23] الإمام عليّ بن أبي طالب (ع)، نهج البلاغة، ج4، الحكمة رقم 330.
[24] سورة الذاريات، الآية: 56.
[25] سورة غافر، الآية 60.
[26] سورة القصص، الآية 80.
[27] سورة التوبة، الآية 72.
[28] زهِدَ بالشيء: لم يرغب به، أو لم يردْه.
[29] اللطيف: الرفيق بعباده، واللطيف هو الذي اجتمع له الرفق في الفعل، والعلم بدقائق المصالح وإيصالها إلى من قدّرها له من خلقه.
الحَمْدُ للهِ
على ما أولانا من هذا الضوء الذي امتدَّ في الكون، فأعطاه إشراقه من خلال خيوط النور الذهبية المنبعثة من عيون الشمس، فأشرقت حياتنا في حركيتها فيه. وأطلق قبل ذلك الزمنَ الممتدَّ في ظلامه الذي يوحي لنا بالسكينة في الليل.
الذِي جَعَلَ الليْلَ لِبَاسَاً (1)
يغطي بظلمته عوراتنا، تماماً كما لو كان يلبسنا أو نلبسه، وكما ورد في الدعاء: "لنلبس من راحته ومنامه، فيكون لنا جماماً وقوة، ولننال به لذةً وشهوةً"(2).
وَالنَّوْمَ سُبَاتاً (3)
أي قطعاً؛ فكأن الانسان إذا نام انقطع عن الناس. وقال الزجّاج:"السبات: أن ينقطع عن الحركة، والروحُ في بدنه" (4)، وهذا ما يجعل منه راحةً للجسد.
وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورا (5)
أي بعثاً، تماماً كما هو البعث بعد الموت. وقد جاء في الحديث المرويّ عن النبي محمد (ص): "إنكم لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون" (6).
ومن خلال ذلك كان النهار الذي يتخفّف فيه الأنسان من حالة النوم الذي يستغرق الإنسان في الليل، كما هي حالة البعث والنشور إلى الله بعد الموت.
لَكَ الحَمْدُ أنْ بَعَثْتَنِي مِنْ مَرْقَدِي وَلَوْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ سَرْمَدَاً، حَمْدَاً دَائِمَاً لا يَنْقَطِعُ أبَدَاً وَلا يُحْصِي لَهُ الخَلائِقُ عَدَدَاً (7)
إنّه البعث اليومي الجديد الذي يعيش الإنسان في ليله ما يشبه الموت المؤقت الذي يفقد فيه إحساسه الواعي بالحياة، وقد يمتدّ به الأمر ـ كما في بعض الحالات ـ إلى فقدان الحياة بالكلية لولا أن الله لم يقدّر له الموت؛ لأن هناك أجلاً مسمَّى مما قدره الله لعمره ولم يحن وقته الآن، كما جاء في قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (8). فلك الحمد على هذا العمر المنفتح على الحياة في هذا اليوم، بإرادتك التقديرية، ولو شئت ـ وأنت المالك للحياة والموت ـ جعلته موتاً أبديّاً. إنها نعمة الحياة المتجدّدة في أيامي كلها، وأيَّةُ نعمة أعظم من نعمة الحياة!
اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أنْ خَلَقْتَ فَسَوَّيْتَ
فأنت الخالق الذي خلق الإنسان، فسوّاه بشراً في أحسن تقويم، وقد تمدّحت في كتابك فقلت: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثمّ جعلناه نطفة في قرار مكين، ثمّ خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثمّ أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) (9)، وقُلت: (سبّح اسم ربّك الأعلى، الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهدى) (10).
وَقَدَّرْتَ وَقَضَيْتَ (11)
فأنت الذي قدّرتَ الأمور حين خلقت الخلق كلّه، فمنحت كل مخلوق عناصر هدايته، وألهمته كيف يمارس دوره الذي قدّرته لقيامه بمسؤولياته في الحياة، وجعلت لكلّ شيء قدراً، وقد قلت في كتابك: (إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر) (12)، وقلت: (إنّ الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً) (13)، وقلت: (وكان أمر الله قدراً مقدوراً) (14).
وَأمْرَضْتَ وَشَفَيْتَ
فأنت الذي خلق للمرض عناصره في جسد الانسان، من خلال اختياره السيِّئ تارة، وتأثره بالظروف المحيطة به أخرى، ثمّ ألهمته أسباب الشفاء، بما أودعته في وعيه لذلك، وبما هيأته من الوسائل من ذلك، مما أردته أن يأخذ بها كدواء وكعلاج لمرضه.
وَعَافَيْتَ وَأبْلَيْتَ
فمنك البلاء، ومنك العافية، في الأمور كلّها، من خلال السنن الكونية والإنسانية التي تنتج البلاء تارةً بما كسبت أيدي الناس، والعافية أخرى التي يسعون إليها من خلال ما يكتشفونه من عناصرها في حياتهم الخاصة والعامة.
وَعَلَى العَرْشِ اسْتَوَيْتَ (15)
في سيطرتك المطلقة على مواقع السلطة في الكون الذي خلقته، من موقع القدرة المهيمنة ـ في أعلى درجاتها، وأرفع أوضاعها ـ على الأمر كله.
وَعَلَى المُلْكِ احْتَوَيْتَ
فأنت المالك لكل مخلوقاتك، فهي صَنعتُك، ونتيجة قوّة الإيجاد عندك. وبذلك احتويت الملك كله في ذاتك، من دون تمليكٍ من أحدٍ؛ لأنه لا يملك شيء شيئاً إلا من خلال ملكك.
أدْعُوكَ دُعَاءَ مَنْ ضَعُفَتْ وَسِيلَتُهُ (16)
دعاء الذي لا يملك الوسائل التي يقدّمها بين يديه للحصول على رضاك وعفوك، ولا لأيٍّ ممّا يريده على مستوى الدنيا والآخرة؛ لأنه الفقير الذي لا يملك أية وسيلة ذاتية من حالة القدرة عندها. ولذلك أطلب الوسيلة منك ـ يا ربّ ـ، وأنت الذي تمنّ بالعطيّات على أهل مملكتك.
وَانْقَطَعَتْ حِيلَتُهُ (17)
فلا حيلة لديه للوصول الى ما يريده منك في ذاتياته الخاصة؛ لأنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً إلا بك.
وَاقْتَرَبَ أجَلُهُ، وَتَدَانَى فِي الدُّنْيَا أمَلُهُ (18)
لأن عمره ما زال يتناقص في كل يوم، ويذوب شيئاً فشيئاً، في استهلاك الساعات والأيام، مما يؤذن بدنوّ أجله الذي لا يعرف مداه. ولذلك، فإنّ أمله في الدنيا في خطّ تنازليّ أمام خفاء أجله الذي قدّرته له،
وأنت قلت في كتابك: (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي ارض تموت) (19).
وَاشْتَدَّتْ إلى رَحْمَتِكَ فَاقَتُهُ (20)
فهو الفقير إليك في كل حاجاته، كما هو الفقير اليك في وجوده، في البداية والنهاية. فإليك ـ يا ربّه ـ يرفع ابتهالاته من موقع فاقته، لتمنحه الغنى من رحمتك وجودك.
وَعَظُمَتْ لِتَفْرِيطِهِ حَسْرَتُهُ (21)
فهو النادم المتحسّر على ما فرط في جنب الله، على كلّ الفرص التي كان يُمكن أن يملأها بالطاعة، وما يقرّبه منك، ولكنّه ألقى بنفسه إلى الذنوب والمعاصي، وهو يعلم أنّ في ذلك سوء المصير في الآخرة ما لم تتداركه رحمتُك وعفوك.
وَكَثُرَتْ زَلَّتُهُ وَعَثْرَتُهُ (22)
مما جعله يعيش الموقف بالحياء النفسي الذي يجعله في موقع السقوط أمامك، ليتفادى النتائج الصعبة التي يواجهها من خلال ذلك، فيأخذ بما علّمته إيّاه في مثل هذه الحالة؛ من الندم على ما فات، والعزم على السلامة فيما بقي، بالتوبة الخالصة النصوح.
وَخَلُصَتْ لِوَجْهِكَ تَوْبَتُهُ
ليعود إليك خالصاً مخلصاً، طاهراً نقياً، يرتفع بروحه إليك، ليقترب منك، في مواقع القرب إليك.
إنّها الدعوة المنبعثة من عمق الروح، وأفق العقل، وانفتاح العبودية المخلصة أمام الالوهية الرحيمة.
صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، وَارْزُقْنِي شَفَاعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَلا تَحْرِمْنِي صُحْبَتَهُ، إنَّكَ أَنْتَ أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ
فقد أذنتَ له بالشفاعة، وارتضيتها له، فأْذن له بأن يشفع لي، وشفِّعْه فيّ، وأسعدني بصحبته في درجات الجنة، واجعلني ـ يا ربّ ـ ممن يستحق ذلك، بانفتاحه على الرسالة بالدعوة إليها، والعمل في سبيلها.
اللهُمَّ اقْضِ لِي فِي الأرْبَعَاءِ أرْبَعاً؛ اجْعَلْ قُوَّتِي فِي طَاعَتِكَ
لأني أريد أن توفّقني للأخذ بأسباب القوّة الواعية المنفتحة على كل التزاماتي في خط المسؤولية، لتتحرّك في كياني بالأخذ بكل الوسائل التي تحقق موارد الطاعة، بامتثال أوامرك ونواهيك؛ لأنّ القوّة التي أعطيتَني ـ يا ربّ ـ هي أمانتك عندي، في أن أحرّكها في خطّ طاعتك، وقد أشار إلى ذلك عليّ (ع) عندما قال: "أقلُّ ما يلزمكم لله أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه" (23)
وَنَشَاطِي فِي عِبَادَتِكَ
لتكون كل عناصر النشاط في جسدي حيويةً في حركيتها، بما يجعلني في اندفاع كل طاقتي لعبادتك في كل فروضها ونوافلها، وقد قلتَ في كتابك العزيز: (وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدون) (24)، وقلت: (إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين) (25)، وأنا أعلم ـ يا ربّ ـ أن الخضوع لك، والتذلّل بين يديك، سموٌّ في ذاتي، وبين الناس.
وَرَغْبَتِي فِي ثَوَابِكَ
فالرغبة في ثوابك هي التي تحثّني على الحركة في سبيل الحصول عليه، من خلال ما يوحي إليّ برضوانك، وأنت قلتَ في كتابك: (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقّاها إلا الصابرون) (26)، وقلت: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيّبة في جنّات عدن ورضوانٌ من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) (27).
وَزُهْدِي فِي مَا يُوجِبُ لِي ألِيمَ عِقَابِكَ (28)
لا تجعل ـ يا ربّ ـ في نفسي رغبةً في ما حرمته عليّ، وأبعدتني عنه، فلا آخذ به، ولا أرغب فيه، بل أنظر إليه نظرة الزاهد فيه مهما أثار من الرغبات والشهوات؛ لأن عقابك يمثّل الشقاء الدائم والحسرة الطويلة.
إنَّكَ لَطِيفٌ لِمَا تَشَاءُ (29)
فأعطني من لطفك ما يقرّبني من طاعتك، ويبعدني عن معصيتك، ويرتفع بي إلى مواقع الرضوان لديك، والقرب منك، يا أرحم الراحمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] لباساً: أي تسكنون فيه، وهو مشتمل عليكم كاللباس.
[2] زين العابدين (ع)، الصحيفة السجاديّة، من دعائه عند الصباح والمساء،
[3] السبات: النوم، وأصله الراحة. وسُباتاً: أي قطعاً.
[4] ابن منظور، لسان العرب، ج2، ص37.
[5] النشور: البعث من جديد، أي المبعث لطلب الرزق.
[6] المجلسي، بحار الأنوار، ج7، ص47.
[7] مرقدي: الرقاد هو النوم بالليل والنهار عند العرب، والمرقد هو الموضع، وهو القبر، والنوم أخو الموت. سرمداً: دوام الزمان من ليل أو نهار. يحصي: من حصى، أي حسِبَ وعدَّ.
[8] سورة الزمر، الآية 43.
[9] سورة المؤمنون، الآيات 12-15.
[10] سورة الأعلى، الآيات 1-3.
[11] قدّرت: قضيتَ القضاء الموفّق، والله مقدّر كلّ شيء وقاضيه. قضيت: أنفذت حكمك بالشيء.
[12]سورة القمر، الآية 79.
[13] سورة الطلاق، الآية 3.
[14] سورة الأحزاب، الآية 38.
[15] استوى: جلس وارتقى، وقد استعير اللفظ للهيمنة والسلطة، ومنه قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى).
[16] وسيلته: ما يحتاجه الإنسان في سعيه لتنفيذ مأربه وغايته.
[17] حيلته: الحَيْل القوّة، ويُقال: لا حيْلَ ولا قوّة إلا بالله.
[18] أجله: غاية الوقت في الموت وحلول الدين، ونحو ذلك من مدّة الشيء. تدانى: من دنا يدنو، أي اقترب كثيراً.
[19] سورة لقمان، الآية 34.
[20] الفاقة: الحاجة إلى الشيء، وهو ما ينقص المرء.
[21] لتفريطه: لإسرافه في العمل. والمفرّط ـ بالتشديد ـ المقصّر فيه. وفي حديث عليّ (ع): "لا يُرى الجاهل إلا مفرِطاً أو مفرِّطاً".
[22] الزلّة: الخطيئة، وكذلك العثرة، وجمعها عثرات وزلاّت.
[23] الإمام عليّ بن أبي طالب (ع)، نهج البلاغة، ج4، الحكمة رقم 330.
[24] سورة الذاريات، الآية: 56.
[25] سورة غافر، الآية 60.
[26] سورة القصص، الآية 80.
[27] سورة التوبة، الآية 72.
[28] زهِدَ بالشيء: لم يرغب به، أو لم يردْه.
[29] اللطيف: الرفيق بعباده، واللطيف هو الذي اجتمع له الرفق في الفعل، والعلم بدقائق المصالح وإيصالها إلى من قدّرها له من خلقه.