الولاء والبراءة في مرآة عاشوراء
* توحيد الولاء
* البراءة والمفاصلة
* التحدّي والصراع
* عاشوراء يوم الفرقان
* البراءة
* انتصار الثورة الإسلامية منطلق
ثوري ، وقِيمة حضارية
الولاء والبراءة في مرآة عاشوراء
لـ ( عاشوراء ) علاقة وثيقة بـ ( الولاء ) و ( البراءة ) .
فهي حركة سياسية كبرى في هذه الأُمّة في مواجهة الطاغوت نهض بها ابن بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) .
ولهذه الحركة عُمق وامتداد . عُمْقٌ في حركة الأنبياء ( عليهم السلام ) في مواجهة طُغاة عصرهم ، وامتداد في مواجهة الصالحين مِن هذه الأمّة ضدّ أئمّة الكفر .
وهذه الحركة بما لَها مِن عُمق وامتداد محفوفة بـ ( الولاء ) و ( البراءة ) .
وفيما يلي توضيح لعلاقة ( عاشوراء ) بـ ( الولاء والبراءة ) .
توحيد الولاء :
قبل أن ندخل في تفاصيل الكلام عن الولاء والبراءة ، نقول : إنّ الولاء مِن مقولة التوحيد دائماً ، فلا يقبل الولاء الشِرك مطلقاً ، وتوحيد الولاء من أهمّ مقولات التوحيد .
وليس من الممكن أن يجمع الإنسان إلى ولاء الله ولاءً آخَر ، مهما كان ذلك الولاء...
وأيّ ولاء آخَر غير ولاء الله ، فهو لا محالة يقع في مقابل ولاء الله .
وإنّ أكثر مصاديق الشِرك الذي كان يحاربه الأنبياء ( عليهم السلام ) ، وينقله
القرآن الكريم ، هو مِن شِرك الولاء ، وليس من الشِرك بالخالق .
فقليل من الناس الذين يُشركون بالخالق ، ويعتقدون بوجود إله خالق غير الله لهذا الكون... ولكن الكثير من الناس مَن يُشرك بالله في الولاء ، ويُشرك غير الله تعالى مع الله في ولائه ، ويوزّع ولاءه وطاعتهُ لله تعالى ولغير الله معاً ، ويعطي للطاغوت حظّاً من وَلائه . وصراع التوحيد والشِرك في حياة الأنبياء ، في هذا الأمر بالذات في أغلب الحالات .
وهذا الصراع في جوهره صراع عقائدي حضاري .
والبشرية تنشطر شطْرَين حَول هذه المسألة :
ـ شطْر يوحّد الله بالولاء والطاعة ، ولا يقبل لله تعالى شريكاً في الولاية و الحاكمية .
ـ وشطْر آخَر يتّخذ في الحياة محاور أخرى للولاية ، وينقاد لها...
وقد يكون الولاء للهوى ، وقد يكون الولاء للطاغوت... ولا يختلف الأمر كثيراً .
والصراع بين هذين الشطرَين في حياة البشرية يعتبر كبرى قضايا الإنسان ، وأهمّ الأحداث التي عاشتها البشرية على وجه الأرض في التاريخ .
عناصر الولاء :
الولاء : هو الارتباط بالله سبحانه وتعالى ، وأهمّ عناصر الولاء هو :
أوّلاً : في الطاعة والانقياد والتسليم .
( إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنَا ) (1) .
ـــــــــــــــــ
(1) النور / 51 .
( وَإِن تُطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) .
( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ) (2) .
( قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَالرّسُولَ )(3) .
( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَالرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ )(4) .
( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (5) .
( قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ )(6) .
وكما إنّ الولاء لله يتطلّب الطاعة لله وللرسول والانقياد والتسليم... كذلك يتطلّب رفْض الطاعة لغير الله .
( فَاتّقُوا اللّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ) (7) .
ثانياً : الحبّ والإخلاص لله سبحانه وتعالى .
( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبّ إِلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (8) .
( وَمِنَ النّاسِ مَن يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ وَالّذِينَ آمَنُوا
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) الحجرات / 14 .
(2) النساء / 13 .
(3) آل عمران / 32 .
(4) آل عمران / 132 .
(5) النساء / 59 .
(6) النور / 54 .
(7) الشعراء / 150 و151 .
(8) التوبة / 24 .
أَشَدّ حُبّاً للّهِ )ِ (1) .
ثالثاً : النُصرة لله ولرسوله وللمؤمنين .
( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ )(2) .
( وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيٌ عَزِيزٌ ) (3) .
قِيمة الولاية :
عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : ( بُنيَ الإسلام على خمسٍ على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ، ولم يناد بشيء ، كما نوديَ بالولاية ) (4) .
وعن عجلان أبي صالح قال : ( قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) أَوقِفْني على حدود الإيمان . فقال : بشهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأن محمّداً رسول الله ، والإقرار بما جاء مِن عند الله ، وصلاة الخَمس ، وأداء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحجّ البيت ، وولاية وليّنا ، وعداوة عدوّنا ، والدخول مع الصادقين ) (5) .
وعن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : ( بُنيَ الإسلام على خمسة أشياء : على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ) .
قال زرارة ( راوي الحديث ) : فقلت : وأيّ شيء مِن ذلك أفضل ؟ قال : الولاية أفضل ؛ لأنّها مفتاحُهنَّ ، والوالي هو الدليل عليهنّ ... ثمّ قال : ذروَة الأمر ، وسنامه ومفتاحه ، وباب الأشياء ، ورضى الرحمن ، الطاعة للإمام بعد معرفته .
ــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة / 165 .
(2) محمّد / 7 .
(3) الحج / 40 .
(4) أصول الكافي 2 / 18 .
(5) نفس المصدر السابق .
إنّ الله عزّ وجلّ يقول : ( مَن يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً )(1) .
أما لو أنّ رجُلاً قام ليله ، وصام نهاره ، وتصدّق بجميع مالِه ، وحجّ بجميع دهره ، ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله حقّ في ثوابه ولا كان مِن أهل الإيمان . ثمّ قال : ( أولئك المحسن منهم يدخله الله الجنّة بفضل رحمته ) (2) .
وهذا الحديث يوقِف الإنسان للتأمّل طويلاً ، فمَن قام ليله وصام نهاره ... ولم يعرف وليّ الله لم يكن له على الله حقّ في ثواب ، ولا كان من أهل الإيمان .
الولاية ومسألة الحاكمية والسيادة :
ولا تتمّ الولاية ، من دون ممارسة فِعلية للحاكمية والسيادة في حياة الناس .
فإنّ الإسلام شريعة قائدة في حياة الإنسان يتولّى تنظيم وإدارة المجتمع ، وتوجيه المجتمع الإسلامي باتّجاه تحقيق أهداف الدعوة وغاياتها ، ولا يمكن أن يتحقّق شيء من ذلك دون وجود ممارسة فِعلية للقيادة والحاكمية في المجتمع الإسلامي .
وهذه القيادة و الحاكمية هي التي يسمّيها القرآن الكريم بـ ( الإمامة ) .
وهي شيء آخَر غير الجانب التشريعي من هذا الدِين ، فإنّ الطاعة فيما يبّلغ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) من أحكام وتشريعات ، إنّما هي طاعة لله تعالى ، وليس للأنبياء في ذلك دَور غير التبليغ والتوجيه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) آل عمران : 79 .
(2) أصول الكافي : ج2 ص18 ، وبحار الأنوار 68 : 332 ـ 333 .
والقرآن يصرّح بوجوب طاعة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) وطاعة أُولي الأمر من بعد الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) في امتداد طاعة الله ومِن بعد طاعة الله .
( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) .
وهذه الطاعة ليست هي طاعة الله في امتثال أحكامه ، والالتزام بالحلال والحرام ؛ وإلاّ لم يكن شيئاً آخَر غير طاعة الله .. ولم يكن معنى لطاعة الرسول وأُولي الأمر ، بعد طاعة الله تعالى وفي امتداده .
فهي طاعة أخرى إذن غير طاعة الله ، وإن كانت في امتدادها ... تأتي في مساحة الفراغ التي تتركها الشريعة لأولياء أمور المسلمين ، وتتطلّبه مصلحة الأمّة والإسلام ، ممّا لا يمكن ضبطها في الشريعة بأحكام ثابتة ؛ ولأجْل أن يمارس هذا الدِين دَوره في حياة الإنسان ، لابدّ مِن وجود ممارسة فِعلية لهذه القيادة و الحاكمية في حياة الناس .
البراءة والمفاصلة :
إنّ طبيعة هذا الدِين طبيعة حرَكية جهادية ؛ ذلك أنَّ مهمّة هذا الدِين إبلاغ رسالة التوحيد إلى البشرية جميعاً ، وتحرير الإنسان من الطاغوت ، وتعبيده لله تعالى . وتقرير إلوهية الله في حياة الناس . وهذا كلّه ممّا يغيظ الكفر ، ويصادر نفوذهم وسلطانهم ، ويدفعهم إلى عرقلة مسيرة هذا الدين وتطويقه وإعاقة حركته...
ولكي تستطيع هذه الأمّة أن تحتفظ بأصالتها في هذا الصراع الحضاري ، وبموقعها الحضاري على وجه الأرض في الدعوة إلى الله ، لابدّ لها من أن تقاوم كيد أئمّة الكفر ومكرهم ، وتدخل معهم في مواجهة حقيقية أوّلاً ، وتُعلن المفاصلة عنهم ثانياً . والأوّل ( الجهاد ) ، والثاني ( البراءة ) .
وهذه المفاصلة هي التي يقول تعالى عنها : ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ
عَاهَدْتُم مِنَ الْمُشْرِكِينَ... وَأَذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الأَكْبَرِ أَنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ )
(1) .
المواصلة والمفاصلة في المجتمع الإسلامي :
إنّ طبيعة هذا الدِين الحرَكية ورسالته تتطلّبان مِن الأمّة حالتين في الداخل والخارج :
التماسك والترابط في الداخل ، ( الّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (2) .
( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ ) (3) .
حتّى كأنَّ الأمّة جسم واحد متضامن الأعضاء والأطراف .
( مثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى ) (4) .
( المؤمن للمؤمن كالبنيان ، يشدُّ بعضه بعضاً ) (5) .
( تواصلوا وتبارّوا وتراحموا وكونوا إخْوة بَرَرة ، كما أمركم الله ) (6) .
هذا فيما يتعلّق بالعلاقة بين أطراف هذه الأمّة من الداخل ، وأمّا العلاقة مع الخارج ، مع أعداء الله ورسوله وأئمّة الكفر وقادة الاستكبار ، فهي المفاصلة
ـــــــــــــــــ
(1) التوبة / 1 و3 .
(2) الأنفال / 72 .
(3) التوبة / 71 .
(4) رواهما عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) مسلم في صحيحه 8 / 4 ، دار الفكر .
(5) رواهما عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) مسلم في صحيحه 8 / 4 ، دار الفكر .
(6) بحار الأنوار 74 / 399 .
والبراءة . وتحريم موالاتهم ومودّتهم والتحبّب إليهم .
( لاَ يَتّخِدِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .
( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ )(2) .
( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُم مِنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ )(3) .
( لاَ تَتّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ ) (4) .
وهاتان الحالتان : الترابط والتماسك من الداخل والمفاصلة من الخارج ، يتطلّبان وجود قيادة مركزية ، تربط هذه الأمّة بعضها ببعض في كُتلة متراصّة واحدة من الداخل ، وتفصلها عن أعدائها الذين يريدون بها سوءاً من الخارج (5) .
ثمّ تُوَجّه هذه الكُتلة المجتمعة باتّجاه تحقيق الأهداف الكبرى لهذه الدعوة على وجه الأرض .
وهذه القيادة المركزية التي تمتلك من الأمّة الطاعة والنصرة والحبّ ( العناصر الثلاثة للولاء ) ... هي التي يصطلح عليها القرآن الكريم باسْم ( الوليّ ) أو ( الإمام ) .
وولايته على الأمّة امتداد لولاية الله ورسوله ، وطاعته ونصرته وحبّه امتداد لِما يجب على المؤمنين مِن الطاعة والحبّ والنصرة لله تعالى ، وليس محوَراً آخَر في عرْض هذا المحوَر .
ــــــــــــــــــــــ
(1) آل عمران / 28 .
(2) النساء / 144 .
(3) المائدة / 51 .
(4) التوبة / 23 .
(5) راجع البحث القيّم الذي كتَبه سماحة آية الله السيد عليّ الخامنئي وليّ أ مر المسلمين حفظه الله . بعنوان (الولاية) .
التوحيد والشِرك في الولاء :
ذلك أنّ الولاء من مقولة التوحيد ، ولا ولاية لأحد إلاّ في امتداد ولاية الله وبأمْرٍ وإذنٍ مِن الله .
والولاء لله إمّا أن يكون أو لا يكون... فإذا كان فلابدّ أن يكون بوجْهَيه الإيجابي والسلبي ، ولا تقلّ قِيمة الوجه السلبي عن الوجه الإيجابي... والوجه السلبي هنا رفْض الولاء لغير الله... ولا يتمّ الولاء لله تعالى إلاّ برفض أيّ ولاء آخَر من دون إذن الله .
وقبول أيّ ولاء بغير إذن الله يعني الشِرك بالله العظيم ، وأكثر مصاديق الشِرك في القرآن ليس هو الشِرك بالخالق ، وإنّما هو الشِرك في الولاء .
تأمّلوا في قوله تعالى :
( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مَتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً... ) (1) .
يضرب الله لنا مثلاً في التوحيد والشِرك برجُلين : رجُل يتنازعه شركاء متشاكسون ، كلٌّ له ولاية وسلطان عليه ، وهُم فيما بينهم متشاكسون مختلفون ، وهو موزّع بين هؤلاء الشركاء المشاكسين . ورجلٌ قد أسلَم أمره إلى رجُل واحد آخَر ( ورجُلاً سَلماً لرجُل ) يطيعه في كلّ شيء ، وينقاد له ، ويتقبّل ولايته و حاكميته .
كذلك التوحيد والشِرك ، فالموحّدون من الناس كالرجُل الذي أسلم أمره لرجُل آخَر في راحةٍ مِن أمْره . والمشركون مِن الناس كالذي يتنازعه شركاء
ــــــــــــــــــــ
(1) الزمر / 29 .
متشاكسون... وواضح مِن هذا المثال أنّ المقصود بالشِرك والتوحيد ، الشِرك في الولاء ، والتوحيد في الولاء .
يقول القرآن عن لسان يوسف ( عليه السلام ) :
( يَا صَاحِبَيِ السّجْنِ أَأَرْبَابٌ مّتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ ) (1) .
إنّ صاحبَي يوسف ( عليه السلام ) لم يكونوا يُنكرون الله الواحد القهّار ، وإنّما كانوا يُشركون أرباباً متفرّقين مع الله في الولاية و الحاكمية ، فيُنكر عليهم يوسف ( عليه السلام ) ذلك ؛ لأنّهم لم يُسلموا أمْرهم كلّه لله الواحد القهار .
يقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في أسباب البِعثة : ( بعَث الله محمّداً ( صلّى الله عليه وآله ) ؛ ليُخرج عباده من عبادة عِباده ، إلى عبادته ، ومِن عهود عِباده إلى عهده ، ومن طاعة عِباده إلى طاعته ، ومن ولاية عباده إلى ولايتـه ) (2) .
فالولاية إذن لله سبحانه وتعالى ، وتمتدُّ الولاية الإلهية إلى مَن يشاء ومَن يرتضي مِن عِباده ، فلن تكون ولاية في قِبال ولاية الله ، ولن تكون ولاية بغير إذن الله .
مصدر الحاكمية في حياة الإنسان هو الله :
ويجب أن نقف عند هذه النقطة قليلاً ، فإنّ الولاية المشروعة في حياة الأمّة لمّا كانت امتداداً لولاية الله ، لابدّ أن تكون الولاية بإذن الله وأمْره ، وما لم يأذن الله لأحد بأن يلي أمْر عباده ، لن يكون له الحقّ في أن يتولّى شيئاً مِن أمور الأُمّة .
وبمراجعة القرآن الكريم نجد هذه الحقيقة واضحة ، فيما يحكي الله تعالى لنا
ــــــــــــــــــــ
(1) يوسف / 39 .
(2) الوافي 3 / 22 .
مِن تنصيب عِبادٍ له ؛ ليكونوا أولياء وأئمّة على الناس ، ولا تتمّ لهم إمامة وولاية على الناس ، لولا أنّ الله تعالى قد خصّهم بذلك ، وأناط إليهم هذا الأمر . ففي قضية إبراهيم يقول تعالى :
( قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (1) .
والإمامة هنا بمعنى الولاية... وقد جعل الله تعالى إبراهيم ( عليه السلام ) إماماً بعد أن كان نبيّاً .
وفي قصّة داود ( عليه السلام ) يقول تعالى :
( يَا دَاوُدُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقّ ) (2) .
والخلافة هنا بقرينة ( فاحكم بين الناس بالحقّ ) هي الولاية و الحاكمية .
ويقول تعالى في ذرّية إبراهيم لمّا نجّاه الله تعالى مِن القوم الظالمين :
( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (3) .
ولسنا نريد أن نُسْهب هنا في هذا القول ، فله مجاله الخاصّ به في البحث ، وإنّما نريد أن نشير إشارة سريعة فقط إلى أنّ مصدر الحاكمية والسلطان في حياة الإنسان هو الله تعالى ، وليست الأمّة كما تُفسّر ذلك النُظُم والاتّجاهات الديمقراطية... فليس لأحد من دون إرادة الله أن يتولّى أمراً من أمور المسلمين .
والله عزّ وجلّ هو مصدر السلطة و الحاكمية في حياة الناس ، ولا يقتصر أمر
ـــــــــــــــــــــ
(1) البقرة / 124 .
(2) ص / 26 .
(3) الأنبياء / 72 و73 .
ولاية الله في حياة الناس على نفوذ الأحكام الشرعية المحدّدة مِن قِبَل الله في عباده ، وإنّما تشمل الممارسة الفعلية للحاكميـة ، والأمر والنهي في حياة الإنسان من خلال الذين اتّخذهم الله أولياء وجعَلَهم أئمّة وخلفاء على الناس .
التحدّي والصراع :
وهذه الحقيقة تُقرِّر حتميّة الصراع بين محورَي الولاية والطاغوت بشكلٍ دائم في تاريخ الإنسان .
إنّ هذين المحورَين يعملان باتّجاهين متعاكسين في حياة الإنسان ، وكلّ منهما يعمل لاستقطاب ولاء الناس ، وقطع الإنسان من المحوَر الآخَر .
إنّ مهمّة هذا الدِين ورسالته هي استقطاب ولاء الناس لله تعالى ، وإنقاذ الناس من التشتّت والتَيْه والضياع والاختـلاف ، وتحرير الإنسان من عبودية الطاغوت والهوى ، وإزالة العقَبات من أمام طريق الإنسان إلى الله تعالى . وربط الإنسان بالله وتعبيده لله تعالى ، وإخراجه من الظلمات إلى النور .
وفي قِبال هذا المحور الربّاني ، يعمل الطاغوت على استقطاب ولاء الناس ، ووضع الحواجز والعقبات في طريق الناس إلى الله تعالى ، واستعباد الإنسان وإخراجه من النور إلى الظلمات .
وإلى هذا الصراع بين المحورَين ، تشير الآية الكريمة :
( اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَالّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النّورِ إِلَى الظّلُمَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (1) .
ــــــــــــــــــــ
المصدر في رحاب عاشوراء للمؤلف الشيخ محمد مهدي الآصفي