علي (ع) لا يعرف حكم المذي؟!!
مرسل: الثلاثاء يوليو 22, 2008 10:43 pm
علي (ع) لا يعرف حكم المذي؟!!
المسألة:
ما مدى صحة ما ورد في بعض كتب السنة من انَّ الأمام علي (ع) كان لا يعلم بحكم المذي؟
الجواب:
وردت روايات عديدة في طرقنا وفي طرق العامّة مفادها أنَّ عليًّا (ع) أمر المقداد أنْ يسأل النبيّ (ص) عن حكم المذي لأنَّه يستحي أن يسأل رسول الله (ص) عن ذلك لمكان فاطمة (ع) وورد في بعض الروايات أنَّ عليًّا (ع) كان مذَّاءً أي أنه كثير المذي، وأنَّه كان يغتسل عنه في الشتاء حتى تشقَّق ظهره.
ولا ريب أنَّ هذه الروايات موضوعة أو مصاغة بما ينافي الواقع، ويمكن تأييد ذلك مضافًا إلى الأدلَّة القطعيَّة المقتضية لنقيض ذلك بأمور:
الأمر الأول: أنَّ نزول المذي ليس من الحالات النادرة الوقوع، وإنَّما هي من الحالات التي يبتلي بها عموم النّاس في كلِّ يوم، فليس من المعقول أن يظلَّ عليّ (ع) غير عارف بحكمها إلى ما بعد زواجه من السيِّدة فاطمة (ع) بزمن، فلو سلَّمنا أنَّ عليًّا امتنع عن سؤال رسول الله (ص) حياءً لكونه متزوّجًا من ابنته فاطمة (ع) فلماذا لم يكن قد سأله عن حكم المذي قبل زواجه منها، إذ أنَّ نزول المذي لا يتفق وقوعه بعد الزواج فحسب بل لعلَّ وقوعه قبل الزواج أكثر، فمن المستبعد جدًا إغفال علي (ع) لهذه المسألة وعدم مبادرته لسؤال رسول الله (ص) عنها بعد أن كانت من المسائل التي تعمّ بها البلوى كيف وقد ثبت عنه (ع) أنَّه قال: "إنَّ الله وهب لي لسانًا سؤولاً وقلبًا عقولاً".
فحرص عليٍّ (ع) على التفقه في الدين وكون المسألة من المسائل الابتلائية يُنتجان القطع بامتناع الإمام (ع) عن السؤال عن حكم المسألة إلى ما بعد زواجه من السيدة فاطمة (ع) لو كان لا يعلم بحكمها.
وإذا سلَّمنا جدلاً أنَّ عليًّا (ع) لم يسأل عن حكم المذي رغم أنَّه من المسائل الابتلائيّة فكيف نتفهّم إغفال النبيّ (ص) لذلك وعدم مبادرته لتعليم علي (ع) حكمها وهو المتصدّي لتنشأته وإعداده منذ نعومة أظفاره وكيف نتفهّم إغفال النبيّ (ص) لبيان حكم هذه المسألة الابتلائية لعلي (ع) خصوصًا بناءً على دعوى العامَّة بأنَّ المذي نجس وأنَّه من نواقض الوضوء فهل يصحّ القبول بأنَّ رسول الله (ص) ترك عليًّا (ع) يصلّي على غير طهور واقعي سنين.
على أنَّ ذلك منافٍ لما ثبت من أنَّ عليًّا كان يبادر رسول الله (ص) بالسؤال فإذا سكت بادره رسول الله (ص) بالعلم وكان ملازمًا لرسول الله (ص) وكانت له معه خلوات في كلّ يوم وليلة.
فمما ورد في ذلك ما رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك بسندٍ وصفه بالصحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم عن عمر بن هند الجملي قال سمعت عليًّا (ع) يقول: (كنت إذا سألت رسول الله (ص) أعطاني وإذا سكتّ ابتدأني).
وروى هذا الحديث الترمذي ووصفه بالحسن، قال ابن حجر وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه وروى النسائي في السنن الكبرى بسنده عن أبي البختري عن عليّ (ع)، قال: "كنت إذا سألت أُعطيت وإذا سكتّ ابتُدِيت".
ورواه أيضًا بسندٍ آخر عن زاذان.
وروى ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق بسنده عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه أنّه قيل لعلي (ع) مالك أكثر أصحاب رسول الله (ص) حديثًا، فقال: "إني كنت إذا سألت أنبأني وإذا سكتّ ابتدأني".
وروى ذلك ابن سعد في الطبقات وغيرهما.
ومنها: ما رواه النسائي في خصائص أمير المؤمنين بسنده عبد الله بن يحيى قال: قال علي(ع): "كان لي ساعة من السحر أدخل فيها على رسول الله (ص) فإن كان في صلاته سبَّح وان لم يكن في صلاته أذن لي"، وفي رواية أخرى ورد في ذيلها "وإذا أتيته استأذنته فإن وجدته يصلي سبَّح وان وجدته فارغاً أذن لي" روى هذا الحديث بتفاوت يسير في مسنده ورواه البيهقي في السنن الكبرى وكذلك النسائي في السنن الكبرى ورواه أيضاً ابن حجر في الخيرات الحسان بتفاوت يسير.
ومنها: ما رواه النسائي أيضاً في الخصائص بسنده إلى أبي يحيى قال: قال عليٌّ: "كان لي من النبي (ص) مدخلان: مدخل بالليل ومدخل بالنهار، إذا دخلت بالليل تنحنح لي". ورواه أيضاً في السنن الكبرى ورواه ابن أبي شيبة في المصنَّف وغيرهما.
ومنها: ما رواه النسائي أيضاً بسنده عن عبد لله بن بحر الحضرمي عن أبيه قال: قال علي(ع): "كانت لي منزلة من رسول الله (ص) لم تكن لأحدٍ من الخلائق فكنت آتيه كل سحر فأقول: السلام عليك يا نبي الله فإن تنحنح انصرفت إلى أهلي وإلا دخلت عليه".
ورواه أيضاً في السنن الكبرى ورواه ابن خزيمة في صحيحه ورواه المزي في تهذيب الكمال ورواه الاربلي في كشف الغمة، وروايات أخرى كثيرة تُعطي نفس المفاد إلا أننا أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة، ومعها كيف يتم القبول بأن لم علياً (ع) لم يكن يعلم بحكم المذي لأنه لم يسأل رسول الله (ص) عنه حياءً وكيف يتم القبول بأن رسول الله (ص) لم يتصد لبيان حكمه إليه وهو الذي إذا سكت عليٌ (ع) بدأه، وهل يُتعقل إغفاله بيان هذه المسألة الإبتلائية وهو الذي كان يعلِّمه دقائق المسائل وعويصاتها كما سنبين ذلك فيما بعد.
على أن دعوى امتناع عليٍّ عن السؤال للرسول (ص) حياءً إنما يتم لو كان عرض المسألة منحصراً بكيفيةٍ يظهر منها ابتلاء عليٍّ نفسه بها فإن ذلك قد يقتضي الامتناع عن السؤال حياءً إلا أن عرض المسألة لا ينحصر بذلك فيمكن أن يُصاغ السؤال بنحوٍ لا يظهر من ابتلاء السائل بما يسأل عنه بل كثير ما يكون الأمر كذلك خصوصاً في مثل هذه المسائل، وهل تنقص علياً بلاغةٌ تمنعه من بلوغ غايته مع التحفُّظ على كمال الأدب واللياقة وهو أمير البلغاء بإجماع الأمة. ثم انه كيف لم يتفق تصدي أحد الصحابة أو غيرهم لسؤال الرسول (ص) في محضر علي (ع) والحال ان المسألة من المسائل الإبتلائية، وقد كان علي (ع) شديد الملازمة لرسول الله (ص) وهل منع الحياء كلَّ الصحابة عن السؤال، فلو كان الأمر كذلك لما بلغنا شيء من مسائل الحيض والنفاس والجنابة وغيرها من المسائل التي هي أدعى للحياء من مسألة المذي وقد كان الصحابة ونساء الصحابة يسئلون رسول الله (ص) عن دقائق المسائل التي كانت أدعى للحياء من مسألة المذي.
ثم انه لو قبلنا بصحة هذه الرواية لكان علينا أن نرتاب في الكثير من الروايات التي اشتملت على سؤال عليٍّ لرسول الله (ص) عن مسائل هي أدعى للحياء من مسألة المذي أو نقول أن علياً (ع) قد تخلَّى فيها عن خلق الحياء !!
كل هذه المبعدات تؤكد بمستوى القطع ما ذكرناه من أن روايات المذي إما أن تكون موضوعة أو مصاغة بما ينافي الواقع أو وقع في نقلها اشتباه.
الأمر الثاني: اضطراب الروايات الواردة من طرق العامة، فبعضها اشتملت على أنًّ علياً (ع) كان مذّاءً وكان يستحي أن يسأل رسول الله (ص) عن حكم المذي لمكان ابنته فأمر المقداد ان يسأله، وفي بعضها أنه أمر عمار بن ياسر أن يسأله عن ذلك، وفي روايات أخرى أنه سأله بنفسه فأجابه النبي (ص) عن حكم المسألة، ثمّ أن الروايات اشتملت على اضطراب آخر فبعضها أفاد انه أرسل المقداد ليسأله عن حكم المسألة وفي بعضها أنه أمر رجلاً جالساً إلى جنبه فسأله وعليٌّ يسمع الجواب، وأفاد بعضها أنه أرسل رجلاً ليسأله عن ذلك ولم يكن قد سمع الجواب من النبي (ص) شفاهاً. وأفاد بعضها الترديد بين عمار والمقداد وأفاد بعضها ان كلاً منهما سأل النبي (ص) وفي بعضها أن الذي سأله أحدهما دون الآخر.
ثمّ ان بعض الروايات أفادت ان رسول الله (ص) هو مَن ابتدأ علياً (ع) ببيان المسألة دون أن يسأله بنفسه أو يسأله رجل آخر أو يسأله المقداد أو عمار، وأفاد بعضها الآخر إن رسول الله (ص) رأى أثر الشحوب على وجه عليٍّ (ع) فسأل علياً عن ذلك فأخبره فعلَّمه رسول الله (ص) حكم المسألة، ثم إنَّ بعض الروايات اشتملت على أمرٍ مُستغرَب وهو أنَّ علياً بلغ به الحرج من كثرة نزول المذي حدّاً دفعه إلى أن يجعل فتيلة في احليله ليمنع من نزول المذي، وكان يغتسل كلما نزل عليه المذي حتى تشقق ظهره من كثرة الغسل في الشتاء.
هذا الاضطراب الشديد والتهافت الواقع في الروايات يورثان الاطمئنان باختلاقها او تدليسها، وقد تصدى الكثير من علماء السنة لمعالجة هذا الاضطراب إلا أنهم لم يُفلحوا في ذلك كما سيتضح ذلك إن شاء الله تعالى.
فقد ذكر ابن حجر في كتابه فتح الباري: إن ابن حبَّان "جمع بين هذا الاختلاف بأن علياً (ع) أمر عماراً أن يسأل ثم أمر المقداد بذلك ثمّ سأل بنفسه" قال ابن حجر: وهو جمع جيد إلا بالنسبة إلى آخره لكونه مغايراً لقوله استحيى عن السؤال بنفسه لأجل فاطمة فيتعيَّن حمله على المجاز، أُطلق أنَّه سأل لكونه الآمر بذلك، وبهذا جزم الاسماعيلي ثم النووي، ويؤيد أنه أمر كلاً من المقداد وعماراً بالسؤال عن ذلك ما رواه عبد الرزاق من طريق عائش بن أنس قال: تذاكر علي والمقداد وعمار المذي، فقال علي: إنني رجل مذَّاء فاسئلا عن ذلك النبي (ص) فسأله أحد الرجلين وصحَّح ابن بشكوال ان الذي تولَّى السؤال عن ذلك هو المقداد، وعلى هذا فنسبة عمار إلى أنَّه سأل عن ذلك محمولة على المجاز أيضاً لكونه قصده لكن تولّى المقداد الخطاب دونه والله أعلم. فتح الباري ج1 / ص326.
والجواب عمّا ذكره ابن حجر من جودة الجمع الأول الذي أفاده ابن حبَّان وهو أن علياً امر عماراً بأن يسأل النبي (ص) ثمّ أمر المقداد أن يسأل النبي (ص) ثم سأل هو بنفسه. والجواب ان هذا الجمع لا ينفي الاضطراب من هذه الجهة وذلك لأنه إذا كان قد أمر الأول فما هو المبرِّر لأمر الثاني وإذا كان قد أمرهما بسؤال النبي (ص) فما هو المبرِّر لسؤال النبي (ص) بعد ذلك بنفسه والحال أنه قد اعتذر عن سؤاله بالحياء.
فالمبرِّرات المحتملة لأمر الثاني بعد أمر الأول وللتصدي للسؤال بنفسه بعد أمرهما هي ما يلي:
الاحتمال الأول: إن كلاً من عمار والمقداد لم يسئلا النبي (ص) فتصدّى عليٌّ لسؤال النبي (ص) بنفسه، وهو ينافي -كما أفاد ابن حجر- اعتذاره عن سؤال النبي (ص) بالحياء فكان ذلك يقتضي أن يأمر غيرهما بسؤال النبي (ص) بعد افتراض عدم سؤالهما. على إن هذا الاحتمال ساقط قطعاً لأن الروايات أفادت أن عماراً سأل النبي (ص) فأجابه، وإن المقداد سأل النبي (ص) فأجابه، فأيُّ معنىً بعد ذلك لسؤال علي (ع) للنبي (ص) وأيُّ معنى لأمر الثاني بعد أمر الأول.
الاحتمال الثاني: إن منشأ سؤال عليٍّ للنبي (ص) بعد أمر عمار ثم أمر المقداد هو أنه بعث الأول فأبطأ فأمر الثاني فأبطأ فاضطر للسؤال عن حكم المذي بنفسه، وهذا الاحتمال ساقط أيضاً لأنه لو كان الأمر كذلك لاقتضى أن يأمر ثالثاً ورابعاً لافتراض أنَّ ما يمعنه من السؤال هو الحياء ولا يرفعه إبطاء عمار والمقداد في السؤال والرجوع بالجواب، على إن ذلك منافٍ لما يظهر من الروايات من أنَّه اعتمد على الجواب الذي جاء به عمار واعتمد على الجواب الذي جاء به المقداد وكان ينقل جواب النبي (ص) عن المقداد تارة وعن عمار تارة أخرى.
الاحتمال الثالث: أنَّهما لم يُبطئا ولكنه لم يثق بالجواب الذي جاء به عمار فبعث المقداد، وبعد ما جاءه بالجواب لم يثق بنقله فلجأ بعد ذلك لسؤال النبي (ص) بنفسه.
وهذا الاحتمال ساقط أيضاً لأمرين:
الأول: انه لم يكن مبرر لبعث كلِّ منهما على حدة لو لم يكن واثقاً بصدقهما ولو كان واثقاً بصدقهما، فما هو المبرر لسؤال النبي (ص) بعد مجيئهما له بالجواب إلا أن يكون منشأ عدم وثوقه بالجواب الذي جاءا به هو التشكيك في فهمهما له وهو مستبعد جداً لأنه لو لم يكن يثق بجودة فهمهما لما بعثهما، على ان المسألة ليست من التعقيد بحيث يكون استيعابهما لها بحاجةٍ إلى جودةٍ في الفهم، ثمّ انَّ توافق الجواب الذي جاءا به ينبغي ان يدفع احتمال الخطأ في الفهم، فبعد ان كان الجواب متطابقاً وبعد ان لم تكن المسألة من المسائل المعقدة وبعد ان لم يكن الرجلان معروفين بسوء الفهم ولا بالتساهل في الدين بل المقطوع به خلاف ذلك فأيُّ مبررٍ بعد ذلك لسؤال النبي (ص) إلا أن يكون قد أراد ان يسمع الجواب بنفسه فكان عليه ان يُبادر إلى ذلك من أول الأمر وإذا كان قد منعه الحياء فهل تخلَّى بعد ذلك عن خُلق الحياء؟!
وإذا لم يكن قد تخلّى عن خلق الحياء ولم يكن قد وثق بالجواب الذي جاء به المقداد وعمار ألم يكن يقتضي ذلك أن يبعث رجلاً آخر ورجلاً آخر حتى يطمئن إلى الجواب.
الثاني: إنَّ الروايات صريحة في انه اعتمد الجواب الذي جاء به عمار وروايات أخرى صريحة في انه اعتمد الجواب الذي جاء به المقداد وذلك ينافي احتمال عدم الوثوق بالجواب الذي جاءا به.
الاحتمال الرابع: ان الإمام علي (ع) وإن كان يثق بالجواب الذي جاء به كلٌّ من المقداد وعمار إلا إن منشأ سؤاله بعد ذلك هو انه نسي الجواب لذلك تصدّى لسؤال النبي (ص) بنفسه.
وهذا الاحتمال ساقط قطعاً لأمور:
الأول: ما عُرِف عن علي (ع) -بقطع النظر عن عصمته- بأنَّه كان يتميَّز بحافظةٍ وذكاءٍ منقطع النظير.
الثاني: ان المفترض هو ان المسألة كانت مورداً لابتلائه وكان بأمس الحاجة إلى الجواب، وطبع ذلك يقتضي عدم النسيان، على انَّها لم تكن من المسائل المتشعبة والمعقدة حتى يحتاج استيعابها وحفظها إلى عناية زائدة وتميِّزٍ في الفهم والحافظة.
الثالث: إنَّ نسيانه للجواب لا يقتضي التصدي بعد ذلك لسؤال النبي (ص) بنفسه، إذ ان المانع من سؤال النبي (ص) هو الحياء وهو لا ينتفي بنسيانه للجواب، فكان مقتضى هذا الفرض هو مراجعة المقداد أو عمار أو بعث رجل آخر لسؤال النبي (ص).
الرابع: ان هذا الفرض يُنافي صريح الروايات التي أفادت انه اعتمد على ما جاء به المقداد وعمار من جواب وكان ينقل جواب الرسول (ص) عنهما كلاً على حدة.
هذا فيما يتصل بالجمع الذي نقله ابن حجر عن ابن حبَّان، وأما الجواب عن الجمع الثاني وهو انَّ الإمام علي (ع) لم يسأل النبي (ص) عن حكم المسألة وإنما قال: إنَّه سأل النبي (ص) باعتباره كان قد أمر المقداد وعمار أن يسألاه فكأنه قد سأله بنفسه، وهذا هو ما صحح له أن يقول سألت النبي (ص) أو ان الإمام لم يقل أنه سأل النبي (ص) ولكن الرواة نسبوا السؤال إليه، وهذا الاحتمال الأخير نقله ابن حجر عن الاسماعيلي وعن النووي وأفاد ان الاسماعيلي جزم به.
إلا انَّ هذا الجمع باحتماليه ساقط أيضاً فهو مضافاً إلى مخالفته لصريح الروايات التي أفادت أنَّ علياً سأل النبي (ص) بنفسه وانه أجابه عن حكم المسألة فإنه مضافاً إلى ذلك يكون مقتضى هذا الاحتمال الأول هو اتهام علي (ع) بالتدليس، إذ أنَّه أوهم السامع بأنه سأل النبي (ص) وتلقّى الجواب عنه بنفسه والواقع انه لم يسأل ولم يتلقَ الجواب عنه بنفسه. وإنما تلقاه بواسطةٍ لم يذكرها وهو من أقبح صور التدليس، ولا أدري كيف يتجرأ أحد على نسبة ذلك لمثل علي بن أبي طالب (ع).
ولو صحَّ هذا الجمع لكان علينا ان نقبل من النساء اللاتي كنَّ يأمرن أزواجهن بسؤال النبي (ص) لكان علينا ان نقبل منهنَّ نسبة السؤال لأنفسهن دون الإشارة إلى الواسطة والحال ان أحداً لا يقبل بذلك لا من العقلاء ولا من علماء الرجال والأصول ويعتبرونه من التدليس في النقل.
وأما الاحتمال الثاني للجمع فهو لا يختلف عن الاحتمال الأول إلا من جهة إلقاء تهمة التدليس لعلي (ع) على الرواة الذين نقلوا عن علي (ع) انَّه سأل النبي (ص) بنفسه، فحينما ينقل الرواة ان علياً قال انه سأل النبي (ص) وهو لم يسئل واقعاً فهم قد اتهموا علياً بأنه دلَّس في نقله للخبر أو أنهم دلَّسوا فنقلوا عن علي (ع) غير ما سمعوا منه، فهم قد سمعوا منه أنه أمر عماراً أو المقداد بأن يسأل فنقلوا عنه أنه هو مَن سأل النبي (ص).
وتبرير ذلك بأن المصحِّح لنسبة السؤال لعلي (ع) هو انه الآمر بالسؤال وإنَّهم قد نسبوا السؤال لعلي مجازاً لا يمكن قبوله بعد ان لم تكن الروايات التي ذكرت ان علياً سأل النبي (ص) مشتملة حتى على ما يُشعر بأن السائل غيره وإنَّه لم يتلقَ الجواب شفاهاً أصلاً، فلم يذكروا مثلاً ان الإمام استحى ان يسأل النبي (ص) أو غير ذلك من القرائن وإنما ذكروا ان علياً سأل النبي (ص) فأجابه، وهذا ليس من المجاز في شيء وإنما هو من التدليس المُستقبَح الذي لا ينبغي حمل الرواة عليه جزافاً فيتعيَّن من ذلك ان يكون علي (ع) هو المدلِّس وليبوء من جزم بذلك أو احتمل بوزرٍ عظيم أو ان الرواة قد دلَّسوا وليقبل من جزم بذلك أو احتمل بالتكلُّف والمجازفة والقول بغير دليل أو نقبل بالاضطراب بين الروايات فبعضها نسبت السؤال لعلي (ع) وبعضها الآخر نسبته لعمار وبعضها نسبته للمقداد فنكون قد عدنا إلى ما خرجنا عنه.
ثم إن الاضطراب يظلُّ مرواحاً على أي تقدير فمن الذي بعثه علي لسؤال النبي (ص) فهل هو عمار أو المقداد، ومَن الذي سأله وتلقّى الجواب من النبي (ص) فما ذكره ابن حجر من ان السائل والمتلقي للجواب هو المقداد وانَّ نسبة السؤال لعمار مجازية لأن عمار قصد النبي (ص) ليسأله فسأله المقداد، هذا الجمع يواجه نفس الإشكالات السابقة فبعض الروايات صريحة في انَّ علياً بعث عماراً وان عماراً سأل النبي (ص) وجاء لعليٍّ بالجواب، وبعضها أفاد ان المبعوث هو المقداد وانَّه مَن سأل وهو مََن تلقّى الجواب وجاء به لعلي (ع).
فهنا احتمالات:
الاحتمال الأول: إنَّ الإمام علي (ع) بعث عماراً ولم يبعث المقداد وان الذي سأل وجاءه بالجواب هو عمار وليس المقداد وهذا الاحتمال لو صحَّ فهو يقضي بكذب الروايات التي أفادت ان المبعوث والسائل والمتلقي والجائي بالجواب هو المقداد ولو عكسنا الاحتمال لكان مقتضى ذلك هو تكذيب الروايات التي نسبت الأمر لعمار.
الاحتمال الثاني: أنَّه بعثهما معاً فكان السائل هو المقداد والجائي بالجواب هو المقداد أيضاً وان نسبة نقل الجواب إلى عمار مجازية، وهذا الاحتمال هو الذي استجوده ابن حجر إلا أن مقتضاه نسبة التدليس لعليٍّ (ع) لأنه نسب نقل الجواب لعمار في بعض الروايات أو يكون المدلِّس هم الرواة الذين نسبوا القول لعليِّ بأن عمار هو من نقل الجواب إليه.
الاحتمال الثالث: إنَّ كلاً منهما بعثه على حدة وكلاهما جاءه بالجواب، وهذا الاحتمال ينافي أولاً ما ورد من التصريح بأن أحدهما جاءه بالجواب ولكن علياً نسيه أو أن الراوي هو من نسي الجائي بالجواب.
وثانياً: هو منافٍ لما يظهر من بعض الروايات ان المبعوث والسائل والجائي بالجواب هو خصوص المقداد كما إنه منافٍ لما يظهر من بعضها ان ذلك وقع لعمار، وهو منافٍ أيضاً للروايات التي أفادت انه بعث رجلاً فجاءه بالجواب فإن حملنا الرجل على أحدهما ولم نحمله على شخص ثالث فذلك يقتضي أن المبعوث هو إما عمار أو المقداد وإن الجائي بالجواب هو أحدهما، ودعوى أن الاختلاف في متن السؤال والجواب قرينة على أنه بعث كلاً منهما على حدة لا تصح لأن ذلك ليس مطرداً في تمام الروايات، على ان الاختلاف في بعضها إنما هو في نقل الروايات بالمعنى كما هو المتعارف فالحاصل من مجموعها واحد أو أنه متلائم. فلا يصح ذلك قرينة على تعدد الواقعة على أنه لا مبرِّر لتعددها كما اتضح مما تقدم.
الاحتمال الرابع: أنَّ علياً لم يبعث واقعاً إلا أحد الرجلين إما عماراً أو المقداد فوقع النسيان من الرواة فبعضهم ذكر أنه بعث عماراً وذكر البعض الآخر أنه بعث المقداد، وهذا الاحتمال ساقط أيضاً لاستبعاد ان يتفق النسيان لمجموعة من الرواة، فلم يكن مَن نقل ان المبعوث والسائل هو المقداد واحد أو اثنين وكذلك مَن نَقل أنه عمار، على أن النسيان يقتضي عادةً التفات الناسي إلى أنه قد نسي الاسم فإما أن يذكر الاسم بنحو الاحتمال أو الظن أو أنه يستعيض عن ذكر الاسم بعنوان يشمل المنسي كعنوان رجل أو شخص أو ما شابه ذلك أما أن يُذكر الاسم بنحو الجزم فذلك لا يتفق للناسي ولو اتفق فهو نادر لا يصح البناء عليه خصوصاً مع تعدد مَن نقل الاسم بنحو الجزم فلو كان النسيان أو الاشتباه هو المتعيّن واقعاً لاقتضى ذلك تعدد الأسماء لا أن ينسى جماعة من الرواة فينسبون لعلي أنه أمر عماراً وينسب آخرون لعلي أنه أمر المقداد فذلك يعزِّز الارتياب في مجموع هذه الروايات.
ثمّ ان الارتياب لا يقف عند حدِّ ما ذكرناه من مناشئ رغم كفايتها فثمة مناشئ أخرى للارتياب:
منها: ما ورد في بعض هذه الروايات مِنَ أنَّ علياً كان يُكثر من الغسل كلما أمذى حتى تشقق ظهره من كثرة الغسل في الشتاء وفي ذلك إساءة واضحة لعلي (ع) تناسب الإساءات التي توالت عليه من قبل أعدائه والحاسدين له.
فما معنى أن يُكثر الغسل كلَّما أمذى فهل كان يعتقد أن تلك هي وظيفته الشرعية والحال أنه لم يسأل رسول الله (ص) بحسب الزعم عن حكم المسألة ولم يسمع منه حكمها، فلو قَبِل أحد بهذا الاحتمال فإنه ينسب إلى علي (ع) الجهل المركب وهو أنه يجهل بحكم المسألة ويجهل بأنه يجهلها وذلك لا يتفق إلا لذوي العقول الضعيفة جداً، فالعقلاء حينما يجهلون بشيء فأنهم يُدركون أنهم يجهلونه أو تقبلون على علي (ع) ابتداع حكمٍ لنفسه بعد القبول بأنه لم يسمع حكم المسألة من رسول الله (ص).
ويحتمل أن يكون منشأ الإكثار من الغسل هو الاحتياط، فلأنه كان يستحي من السؤال لذلك رجَّح الاحتياط بالغسل على السؤال.
وهذا الاحتمال بعيد غايته ولا يخلو في ذات الوقت من إساءة للإمام علي (ع) فإذا كان المانع من السؤال هو الحياء فذلك إنما يمنع عن مشافهة الرسول (ص) بالسؤال والأمر لا ينحصر بهذه الوسيلة فله أن يتوسَّل إلى معرفة حكم المسألة بإرسال من يسأل الرسول (ص) أما أن يتبرع من نفسه فيغتسل حتى يصل الأمر به إلى حد الحرج فيتشقق ظهره من كثرة الغسل ثم يأمر من يسأل النبي (ص) فهذا ما لا يصح قبوله على عاقل خصوصاً مع احتمال أن ثمّة رخصة ومندوحة، ثمّ ألم يكن عليٌّ في وسط الصحابة حتى يعرف ماذا يفعلون لو اتفق لهم ذلك أم لم يكن يُمذي في الخلائق إلا علي؟! وإذا كان يمنعه الحياء من سؤال الصحابة فما الذي حصل بعد ذلك، فأخذ يُخبر عماراً والمقداد والرواة وعموم الناس أنَّه كان مذّاء بل أخبر عن ذلك بزعم بعضهم وهو على المنبر. فهل يستقيم ذلك من رجل كان يستحي من سؤال رسول الله (ص) وسؤال مَن كان معه من الصحابة.
ثمّ إنه قد نتفهم أن يغتسل المؤمن احتياطاً لدينه في ظرف الجهل أما ان يُكثر مِن الغسل مع قدرته على التعلّم بيسر فذلك لا يمكن تفُّهمه من سَوقةِ الناس كيف والمدَّعى عليه ذلك هو مثل عليٍّ (ع) الذي كان شديد الملازمة لرسول الله (ص) وكان شديد الحرص على التفقه في الدين.
ثمّ ألم يكن يَحتمِل ان الغسل قد لا يكفي عن الوظيفة الشرعية وأنَّ الوظيفة عند نزول المذي ليست هي الغسل فيكون ما أراد الاحتياط به لم يكن احتياطاً بل هو تجاوز للوظيفة الواقعية شرعاً فيكون قد تجاوز الواقع وأسرف في الماء وأضرَّ بنفسه وخالف السنة القطعية باستحباب أو وجوب السؤال.
فهل يصح قبول كلِّ ذلك على مثل علي (ع)؟! سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
ومنها: ما ورد في بعض هذه الروايات أن علياً كان مذاءً فكان يأخذ الفتيلة فيُدخلها في احليله، فقد بلغ الحرجُ بعليٍّ -بناء على هذا الزعم - غايته فلجأ إلى عمل لا يقبله أحد من عاقل، ولا أدري كيف قبلوا نسبته إلى عليٍّ (ع) فلم يكن علي مضطراً إلى ذلك لو كان قد سأل عن حكم المذي أيلجأ أحد إلى ذلك ليتحاشى كثرة الاغتسال الذي تسبب في تشقق ظهره وهو لا يدري بعدُ ان تلك هي وظيفته شرعاً أو لا، ألم يكن بوسعه أن يسأل أحداً فيكفي نفسه مؤنة الغسل الكثير الذي أوقعه في الحرج الشديد ويتحاشى بذلك ألم الفتيلة الذي أظن أنه لا يُطاق. ألم يتناهى إلى سمعه وهو الأذن الواعية كما وصفه القرآن أنه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾( ).
ثمّ إن هذه الروايات تتحدث عن علي (ع) وكأنه يعيش في منأىً عن موضع سكنى رسول الله (ص) ألم تكن حجرته ملاصقة لحجرات الرسول (ص) قبل زواجه وبعده، ألم تصرِّح الروايات المتظافرة أن رسول الله (ص) سدَّ الأبواب عن المسجد إلا بابه وباب عليٍّ (ع) فلِمَ لمْ يُلاحظ رسول الله (ص) من عليٍّ ما يُريبه من كثرة الاغتسال وهو الفطن اللبيب وقد تناهت فطنته إلى كمالها، وهل يخفى على المربِّي ما ينتاب عياله، وهل يخفى مثل هذا الحال الذي يصفه الرواة خصوصاً عند من تعيش في داره وكنفه وهو الرحيم الشفيق على عياله وذويه فلِمَ لمْ يبادره بالسؤال عن شأنه وهو أحبُّ الناس إليه وأشدهم به لصوقاً إلى أن لحق الرسول (ص) بربِّه، ولا يتنكر لذلك إلا مكابر.
الأمر الثالث:
نذكر فيه بعض ما ورد من طرق العامة من روايات كثيرة ومعتبرة وصريحة في تميّز عليٍّ (ع) في العلم وشدة اتصاله برسول الله (ص) ليتضح بذلك منافاة روايات المذي للروايات المقطوعة الصدور عن النبي (ع) وهو ما يقتضي الجزم بسقوطها عن الاعتبار:
منها: ما رواه الحاكم النيسابوري بسندٍ وصفه بالصحيح عن النبي (ص): "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب". قال السيوطي: كنت أجيب دهراً عن هذا الحديث بانه حسن إلى أن وقفت على تصحيح ابن جرير لحديث عليٍّ في تهذيب الآثار مع تصحيح الحاكم لحديث ابن عباس فاستخرت الله وجزمت بارتقاء الحديث من مرتبة الحسن إلى مرتبة الصحيح.
ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري بسندٍ وصفه بالصحيح عن أنس بن مالك أن النبي (ص) قال لعلي: "أنت تُبيّن لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي".
ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري بسندٍ وصفه بالصحيح عن عباد بن عبد الله عن علي (ع): ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾( ) قال علي (ع): "رسول الله المنذر وأنا الهادي" قال السيوطي في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة والديلمي وابن عساكر وابن النجار لما نزلت ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ وضع رسول الله (ص) يده على صدره وقال: "انا المنذر وأومأ بيده إلى منكبي علي فقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون" قال: وأخرج ابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي سمعت رسول الله (ص) يقول" إنما أنت منذر ووضع يده على صدر نفسه ثم وضعها على صدر علي ويقول ولكلِّ قوم هاد.
ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري بسندٍ وصفه بالصحيح عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله (ص): "علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض". قال الخطيب التبريزي في كتابه الإكمال في أسماء الرجال: هذا حديث حسن صحيح وقد صحّحه الذهبي والحاكم وحسّنه السيوطي.
ومنها: ما رواه أحمد في مسنده بسنده إلى معقل بن يسار قال: قال النبي (ص) لفاطمة (ع): "أو ما ترضين إني زوجتك أقدم أمتي سلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً" رواه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال رواه أحمد والطبراني وفيه خالد بن طهمان وثّقه أبو حاتم وبقية رجاله ثقات. وبهذا المضمون وردت روايات كثيرة وبطرق متعددة.
ومنها: ما رواه الزرندي الحنفي عن أبي الطفيل قال: شهدت علياً وهو يخطب ويقول: "سلوني عن كتاب الله عزّ وجل ما منه آية إلا وأنا اعلم بليلٍ أو نهارٍ أم سهلٍ نزلت أم بجبل" قال وفي رواية قال: "ما نزلت آية إلا وعلمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى مَن نزلت إنَّ ربي عز وجل وهب لي قلباً عقولاً ولساناً ناطقاً" ورواه ابن حجر في الإصابة قال: وقال وهب بن عبد الله عن أبي الطفيل، ورواه القندوزي عن المناقب بسنده عن عامر بن واثلة إلا أن فيها اختلاف يسير قال: خطبنا علي (ع) على منبر الكوفة فقال: "أيها الناس سلوني سلوني فوالله لا تسألوني عن آية من كتاب الله إلا حدثتكم عنها متى نزلت بليل أو نهار وفي مقامٍ أو مسير في سهلٍ أم في جبل وفيمَن نزلت في مؤمن أو منافق وما عنى الله بها أو عام أم خاص"
ومنها: ما رواه الترمذي في سننه بسنده عن الصنابجي عن علي (ع) قال: قال رسول الله (ص): "أنا دار الحكمة وعلي بابها".
وروي بسندٍ آخر عن مجاهد عن ابن عباس وعلّق أحمد بن الصديق المغربي على السند الأول فقال: قال ابن حجر هذا خبر عندنا صحيح وقد يكون على مذهب آخرين سقيماً غير صحيح. قال المغربي: أصاب ابن حجر في تصحيح الحديث. فتح الملك العلي / 53.
وقال الخطيب التبريزي في كتابه الإكمال في أسماء الرجال: هذا حديث حسن صحيح وقد حسّنه ابن حجر والعلائي وجماعة وقد صحّحه ابن جرير والحاكم والسيوطي والهندي، وأخرج أحمد بن حنبل في المناقب بسنده عن حميد بن عبد الله بن الزبير قال: ذكر عند النبي (ص) قضاء قضى به عليُّ بن أبي طالب فأعجب النبي (ص) فقال: "الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت".
ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري بسندٍ وصفه بالصحيح عن ابن عباس قال: كان علي يقول في حياة رسول الله (ص): "... والله إني لأخوه ووليُّه وابن عمه ووارث علمه فمن أحق به مني".
وروى النيسابوري أيضاً بسندٍ وصفه بالصحيح عن أبي اسحاق قال: سألت قثم بن العباس كيف ورث علي رسول الله (ص) دونكم؟، قال: "لأنه كان أولنا به لحوقاً وأشدنا به لزوقاً". قال الحاكم سمعت قاضي القضاة أبا الحسن محمد بن صالح الهاشمي يقول: سمعت أبا اسحاق القاضي يقول وذُكر له قول قثم هذا فقال: إنما يرث الوارث بالنسب وبالولاء ولا خلاف بين أهل العلم ان ابن العم لا يرث مع العم فقد ظهر بهذا الإجماع أن علياً ورث العلم من النبي (ص) دونهم.
وروى المحبُّ الطبري في الرياض النضرة قال: عن معاذ قال علي (ع): "يا رسول الله ما أرث منك؟، قال: ما يرث النبيون بعضهم من بعض كتاب الله وسنة نبيه" أخرجه الحضرمي.
وروى الطبري في المعجم الكبير بسنده عن زيد بن أبي أوفى -بعد أن آخى رسول الله بين أصحابه- قال رسول الله (ص): "والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلا لنفسي فأنت عندي بمنزلة هارون من موسى ووارثي" ، فقال: "يا رسول الله ما أرث منك؟"، قال (ص): "ما أورثت الأنبياء"، قال (ص) لعلي: "وما أورثت الأنبياء قبلك كتاب الله وسنة نبيهم وأنت معي قي قصري في الجنة مع ابنتي فاطمة" ثم تلا رسول الله الآية : ﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾( ) الأخلاء في الله ينظر بعضهم لبعض".
ورواه السيوطي في الدر المنثور وقال: أخرجه البغوي في معجمه والبارودي وابن قافع والطبراني وابن عساكر عن زيد بن أبي أوفى، ورواه ابن حبّان في الثقات.
منها: ما رواه الحكام الحسكاني في شواهد التنزيل بسنده إلى ابن عباس قال: سمعت أسماء بن عميس تقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: "اللهم إني أقول كما قال موسى بن عمران اللهم اجعل لي وزيراً من أهلي علي بن أبي طالب اشدد به ازري -يعني ظهري- وأشركه في أمري ويكون لي صهراً وختناً".
قال الحسكاني: وفي تثبيت الوزارة لعلي وتحققها له جاءت عدة روايات عن عدةٍ من الصحابة منها رواية ابن عباس عن علي (ع).
وروى قريباً منها في الرياض النضرة وقال: أخرجه أحمد في المناقب.
قال ابن الجوزي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا﴾( ) قال: قال الماوردي: إنما سأل الله أن يجعل له وزيراً لأنه لم يُرد أن يكون مقصوراً على الوزارة حتى يكون شريكاً في النبوة ولولا ذاك لجاز أن يستوزر من غير مسألة.
ومنها: ما رواه الحاكم الحسكاني بسنده عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: كنت عند رسول الله (ص) فسئل عن علي (ع) فقال: "قُسِّمت الحكمة عشرة أجزاء، فأُعطي عليٌّ تسعة أجزاء وأعطي الناس جزءاً".
ورواه أحمد بن الصديق المغربي ولم يرتضِ بتضعيف الذهبي للسند وقال: لو وثَّقه كلُّ الناس لقال الذهبي: إنه كذب، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق بسندين وأفاد أن أحمد بن عمران بن سلمة الوارد في السند كان ثقة عدلاً مرضياً، ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء، وابن المغازلي في مناقب أمير المؤمنين وغيرهم.
ومنها: ما رواه النيسابوري في المستدرك بسندٍ وصفه بالصحيح عن قيس بن أبي حازم قال: كنت بالمدينة فبينا أنا أطوف في السوق إذ بلغت أحجاز الزيت فرأيت حواليه قوماً مجتمعين على فارس قد ركب دابته وهو يشتم علي بن أبي طالب والناس وقوف حواليه إذ أقبل سعد بن أبي وقاص فوقف عليهم فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجل يشتم علي بن أبي طالب، فتقدم سعد فأفرجوا له حتى وقف عليه فقال: يا هذا على ما تشتم علي بن أبي طالب ألم يكن أول من أسلم؟ ألم يكن أول من صلَّّى مع رسول الله (ص)؟ ألم يكن أزهد الناس؟، ألم يكن أعلم الناس؟ وذكر حتى قال: ألم يكن ختن رسول الله (ص) على ابنته؟ ألم يكن صاحب راية رسول الله (ص) في غزواته؟، ثم استقبل القبلة ورفع يديه: اللهم إن هذا يشتم ولياً من أوليائك فلا تفرِّقْ هذا الجمع حتى تُريهم قدرتك، قال قيس: فوالله ما تفرقنا حتى ساخت به دابته فرمته على هامته في تلك الأحجار فانفلق دماغه ومات.
وقد صححه الذهبي في التلخيص على شرط البخاري ومسلم.
ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري في حديث طويل بسندٍ وصفه بالصحيح الاسناد عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس ورد فيه: "وخرج رسول الله (ص) في غزوة تبوك وخرج الناس معه قال: فقال له علي (ع) أخرجُ معك، قال: فقال النبي (ص): لا، فبكى عليٌّ فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بعدي نبي، إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي، قال ابن عباس: وقال له رسول الله (ص): أنت وليُّ كل مؤمن بعدي ومؤمنة، قال ابن عباس: وسدَّ رسول الله (ص) أبواب المسجد غير باب علي".
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بلج الفزاري وهو ثقة وفيه لين.
ومنها: ما رواه أبو نعيم في حلية الأولياء بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: "إن القرآن نزل على سبعة أحرف ما منها إلا له ظهر وبطن وإنَّ علي بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن". ورواه أبو اسحاق الثعلبي في تفسيره ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.
وعن الشعبي قال: "ما كان أحد من هذه الأمة اعلم بما بين اللوحين وبما أُنزل على محمد (ص) من علي" رواه الزرندي.
وروى ابن عبد البر في الاستيعاب بسنده عن ابن عباس: "والله لقد أُعطي عليٌّ تسعة أعشار العلم، وأيمُ الله لقد شارككم في العشر العاشر".
وروى المتقي الهندي في كنز العمال قال: قال رسول الله (ص): "أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب" قال: رواه الديلمي عن سلمان.
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة: "عليٌّ أعلم الناس بالسنة".
وروى الحسكاني بسنده عن ابن عمر: "عليٌّ أعلم الناس بما أُنزل على محمد".
وروى المناوي في فيض القدير بسنده عن ابن عباس عن النبي (ص): "عليٌّ عيبةُ علمي".
قال المناوي في شرح الحديث: "أي مظنة استفصاحي وخاصتي وموضع سري ومعدن نفائسي، والعيبة ما يُحرِز الرجل فيه نفائسة، قال ابن دريد: وهذا من كلامه (ص) الموجز الذي لم يسبق ضرب المثل به في إرادة اختصاصه بالأمور الباطنة التي لا يطّلع عليها أحد غيره، وذلك غاية في مدح علي.."
وروى ابن عساكر بسنده عن أنس بن مالك عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله (ص): "صاحب سرِّي علي بن أبي طالب". ورواه القندوزي وقال: وأخرجه الديلمي ورواه المناوي القاهري في كنوز الحقائق.
هذه مجموعة من الروايات الواردة من طرق العامة وهي بالقياس إلى ما ورد في طرقهم مما يتصل بموضوع هذه الروايات ليست سوى نزرٍ يسير ورغم ذلك فهي تكوّن بمجموعها أعني مجموع ما ذكرناه فقط تواتراً إجمالياً يُنتج القطع بصدورها في الجملة، على أن فيها الصحيح والحسن والمتواتر في نفسه والمستفيض في نفسه، وهي مع ذلك معتضدة بعشراتٍ مثلها في المضمون أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة أكثر.
وبأدنى تأملٍ في مضامين هذه الروايات يحصل الجزم بكذب ما ورد في روايات المذي والتي لا تعدو أن تكون روايات آحاد مضطربة في نفسها ومنافية للمضامين الواردة في هذه الروايات، إذ من غير الممكن أن يكون علياً باب مدينة علم النبي (ص) والمبيِّن لأمته ما تختلف فيه من بعده ثم نقبل عليه الجهل بحكم مسألة ابتلائية ميسورة الفهم والتحصيل.
وكيف يصح أن نقبل على عليٍّ ذلك بعد أن شهد النبي (ص) باستيعابه لدقائق ما ورد في القرآن، كما هو مقتضى قوله: "علي مع القرآن والقرآن مع علي"، ألا تتنافى هذه المعيَّة التي لم تتفق لأحد مع مثل هذه الروايات الآحاد، ثمّ هو المعنيُّ بقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ كما روى ذلك النيسابوري وغيره عن النبي (ص) بأسانيد صحيحة.
فإذا كان عليٌّ أعلم الأمة كما هو مقتضى صحيحة معقل بن يسار وغيره وهو أعلم الناس كما في صحيحة سعد بن أبي وقاص وهو وراث علم النبي (ص) كما في صحيحة ابن عباس وغيره وهو الذي ورَّثه النبي (ص) علم الكتاب والسنة كما في رواية زيد بن أبي أوفى ومعاذ بن جبل وهو أعلم الناس بالسنة كما في صحيحة البخاري عن عائشة، وهو أعلم الناس بما أنزل على محمد (ص) كما في رواية ابن عمر وهو أعلم بما بين اللوحين كما في رواية الشعبي فإذا كان عليٌّّ كذلك فهل ينتظر حتى يبتلي بمسألة ثم يسأل عنها، وهل شأن العلماء أن يبتلوا أولاً بشيء حتى يتعلموه، على أن روايات المذي أفادت أن علياً رغم طول ابتلائه لم يتصدَّ للتعلُّم إلى أن تزوَّج واشتدَّ ابتلاؤه بعث من يسأل له عن حكم المذي وكأنه ورث علم النبي (ص) في يومٍ أو يومين أو سنةٍ أو سنتين ولم تكن هذه الوراثة مقتضية للتحصيل الدؤوب والملازمة الشديدة للرسول (ص).
وإذا كان رسول الله (ص) اختار علياً أخاً أفلا يكون له ملازماً فهو أخوه بالتواتر وهو وزيره كما عن ابن عباس وغيره وقد صرّح أن منزلته منه منزلة هارون من موسى في مواطن عديدة وصلتنا بالأسانيد الصحاح والمتواترة وهو صاحب سرِّه كما في رواية سلمان وغيره وهو نجيُّه الذي قال: "ما أنا انتجيته ولكنَّ الله انتجاه"، وهو عيبةُ علمه كما عن ابن عباس وهو مَن عاش معه في داره وقد سدَّ الأبواب إلا بابه كما ثبت بالتواتر فإذا كان علي (ع) كذلك وهو كذلك دون ريب فكيف يصح القبول بروايات آحاد مفادها أن علياً ابتُلي بالمذي حتى اشتدَّ بلاؤه وكثر غسله فلم يتفطن الرسول (ص) لذلك حتى بعد زواج عليٍّ (ع) من فاطمة (ع).
فعليٌّ الذي أُعطي تسعة أعشار العلم وتسعة أعشار الحكمة وشارك مَن سواه في العُشر العاشر،ٍ وكان باب الحكمة وكان من أهل بيت مُنحت لهم الحكمة كما أفاد الرسول (ص) ثم يظلُّ متحيراً لا يدري أيَّ شيء يصنع في بلاء هو أحقر شيء يبتلي به مكلَّف، فلا يسعه إلا أن يُكثر من الغسل حتى يتشقق ظهره ويُدخل الفتيلة في احليله، وكان أهون عليه أن يتجاوز حياءه أو يبعث من يسأله عن حكم هذه المسألة أو يصوغها بما يُوحي بعدم ابتلائه بها فلا يختار شيئاً من ذلك ويظلّ في غسله وعنائه سنين متطاولة!!
أيصحُّ أن نقبل ذلك على رجلٍ أعدَّه رسول الله (ص) ليكون وراثاً لعلمه والمبيِّن لأمته ما اختلفوا فيه من بعده والهادي الذي يهتدي به المهتدون والولي لكلِّ مؤمن ومؤمنة بعده ووصفه بأنه كنفسه.
ثمّ إنَّ ذلك كله إنما هو بقطع النظر عن دلالات حديث الثقلين وحديث السفينة وحديث الغدير وآية التطهير وآية المباهلة وآية الولاية وغيرها من الآيات والروايات.
فبأدنى تأملٍ في دلالات هذه الآيات والروايات المتواترة ومقتضياتها يحصل القطع بكذب روايات المذي وأنها اختُلقت لغرض النيل من المقام السامي لعليٍ بن أبي طالب (ع). كما اختُلف غيرها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والله المستعان على ما يصفون.
وأما الروايات الواردة من طرقنا فهي أيضاً ساقطة عن الحجيِّة، فلا يصح التعويل عليها لأنها إمَّا أن تكون قد صدرت تقية لمجاراة العامة أو أنَّها قد دُسَّت في كتب أصحاب الأئمة (ع) باسنادها، والجزم بذلك ينشأ عن استلزامها لبقاء عليٍّ دون علم بحكم المذي برهة من الزمن ليست بقصيرة رغم ابتلائه بالمسألة، فمقتضى ما ورد في رواية اسحاق بن عمار من أن علياً (ع) كان مذّاء وإنه استحى أن يسأل رسول الله (ص) لمكان فاطمة (ع) فأمر المقداد، مقتضى هذه الرواية أن علياً لم يتعرَّف على حكم المسألة إلا بعد زواجه من فاطمة (ع) فيكون من حين بلوغه إلى حين سؤاله للنبي (ص) بواسطة المقداد غير عارف بحكم المذي والحال أنَّ الرواية أفادت أنه كان مذَاءً وذلك يقتضي أن يكون كذلك قبل الزواج، فماذا كان علي (ع) يصنع حين ابتلائه بنزول المذي، فهو أما انْ لا يعتني به ولا يبالي بنزوله أو انه يغتسل وهو يستلزم كثرة الغسل أو يتوضأ أو يطهر الموضع دون أن يغتسل أو يتوضأ.
وكل هذه الفروض ساقطة جزماً، وذلك لان الافتراض الأول لو قبلنا به فمقتضاه أن نقبل على عليٍّ عد المبالات بالدين، لأن نزول المذي يستوجب احتمال أن يكون للشريعة فيه حكم فإذا لم يكن يعلم به فهذا يستوجب السؤال عنه مباشرة أو بالواسطة، فعدم الاعتناء تهاون بلا ريب.
وأما الفروض الثلاثة فيردُ عليها ما أوردناه على بعض روايات العامة فلاحظ، وبذلك يتعين فرض خامس هو أن عليّاً كان يعلم بحكم المذي من حين شرّع الله له حكماً أو على أقلِّ تقدير من حين ابتلائه به. فإما أن يكون قد سأل رسول الله (ص) حينذاك أو يكون رسول الله (ص) هو من بادره ببيان حكم المسألة، وذلك ما ينافي ظاهر رواية اسحاق فيلزم إسقاطها عن الحجية والاعتبار.
وأما رواية محمد بن اسماعيل عن الرضا (ع) فهي كذلك ساقطة الحجيَّة لعين ما ذكرناه في رواية اسحاق بن عمار، فهي وإن لم تذكر أن علياً كان مذّاءً إلا أن مقتضاها أن علياً ظلَّ غير عارف بحكم المذي إلى ما بعد زواجه من فاطمة (ع) وذلك ما لا يصح قبوله جزماً لاستبعاد أن لا يكون قد ابتُلي بنزول المذي ولو لمرةٍ واحدة، فما الذي يمنع علياً حينذاك من سؤاله لرسول الله (ص) إذا لم يكن قد تزوج من فاطمة (ع)، والقبولُ بأنه لم يبالِ قبولٌ بعدم مبالاة عليٍّ (ع) بالدين وافتراض أنه توضأ أو أنه طهر الموضع دون أن يغتسل منافٍ لمقتضى الاحتياط لاحتمال أن الواجب هو الغسل وإذا افترضنا أنه توضأ واغتسل عنه فلم يسأل بعده ولو بالواسطة إلى أن تزوج فذلك ينافي ما هو معلوم بالقطع من حرص عليٍّ على التفقه في الدين، وافتراض أنه لم يبتلِ قبل زواجه بالمذي وإن كان مستبعداً إلا أن افتراض عدم سماعه عنه طوال هذه الفترة الزمنية الطويلة أيضاً يُعزِّز الاستبعاد إلى مستوى القطع بعد العلم بأن علياً كان بين الناس وكان شديد الملازمة لرسول الله (ص) فإذا كان قد سمع عنه وكان شديد الحرص على التفقه في الدين فما هو المبرر لتأخر علمه بحكمه إلى ما بعد زواجه وسؤال المقداد لرسول الله (ص).
هذا كله بقطع النظر عن الروايات الواردة من طرقنا التي تفوق مستوى التواتر بمراتب والتي تحَّدثت عن مقامات الأئمة (ع) فإنه بمجرد الوقوف على هذه الروايات لا يبقى مجالاً لتوهّم عدم مطابقة روايات المذي للواقع، فهي أما أن تكون قد صدرت مجاراة للعامة نظراً لظروف التقية والتي اقتضت في أحيان كثيرة مجاراة العامة فيما يروون أو أنها اختُلقت ودُسَّت في كتب أصحاب الأئمة (ع) وكلٌّ من الاحتمالين له مصاديق كثيرة في الروايات الواردة من طرقنا ويتم تمييزها بمجموعة من الضوابط التي ثبتت حجيتها بالأدلة القطعية عندنا، ومن هذه الضوابط منافاة مدلول ومقتضى روايات الآحاد للروايات القطعية الصدور والتي ثبت صدورها بالتواتر، فلأنَّ روايات المذي والتي هي روايات آحاد منافية لصريح ما دلَّت عليه الروايات المتواترة والقطعية الصدور والتي تصدَّت لبيان مقام الأئمة (ع) لذلك لزم طرحها والبناء على سقوطها عن الحجيَّة. إذ أنها وإن كان بعضها معتبراً سنداً بحسب الضوابط الرجالية إلا أن ذلك لا يصحِّح اعتمادها بعد أن كانت منافية لصريح ما قام الدليل القطعي على ثبوته.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
15 / رجب / 1429
ما مدى صحة ما ورد في بعض كتب السنة من انَّ الأمام علي (ع) كان لا يعلم بحكم المذي؟
الجواب:
وردت روايات عديدة في طرقنا وفي طرق العامّة مفادها أنَّ عليًّا (ع) أمر المقداد أنْ يسأل النبيّ (ص) عن حكم المذي لأنَّه يستحي أن يسأل رسول الله (ص) عن ذلك لمكان فاطمة (ع) وورد في بعض الروايات أنَّ عليًّا (ع) كان مذَّاءً أي أنه كثير المذي، وأنَّه كان يغتسل عنه في الشتاء حتى تشقَّق ظهره.
ولا ريب أنَّ هذه الروايات موضوعة أو مصاغة بما ينافي الواقع، ويمكن تأييد ذلك مضافًا إلى الأدلَّة القطعيَّة المقتضية لنقيض ذلك بأمور:
الأمر الأول: أنَّ نزول المذي ليس من الحالات النادرة الوقوع، وإنَّما هي من الحالات التي يبتلي بها عموم النّاس في كلِّ يوم، فليس من المعقول أن يظلَّ عليّ (ع) غير عارف بحكمها إلى ما بعد زواجه من السيِّدة فاطمة (ع) بزمن، فلو سلَّمنا أنَّ عليًّا امتنع عن سؤال رسول الله (ص) حياءً لكونه متزوّجًا من ابنته فاطمة (ع) فلماذا لم يكن قد سأله عن حكم المذي قبل زواجه منها، إذ أنَّ نزول المذي لا يتفق وقوعه بعد الزواج فحسب بل لعلَّ وقوعه قبل الزواج أكثر، فمن المستبعد جدًا إغفال علي (ع) لهذه المسألة وعدم مبادرته لسؤال رسول الله (ص) عنها بعد أن كانت من المسائل التي تعمّ بها البلوى كيف وقد ثبت عنه (ع) أنَّه قال: "إنَّ الله وهب لي لسانًا سؤولاً وقلبًا عقولاً".
فحرص عليٍّ (ع) على التفقه في الدين وكون المسألة من المسائل الابتلائية يُنتجان القطع بامتناع الإمام (ع) عن السؤال عن حكم المسألة إلى ما بعد زواجه من السيدة فاطمة (ع) لو كان لا يعلم بحكمها.
وإذا سلَّمنا جدلاً أنَّ عليًّا (ع) لم يسأل عن حكم المذي رغم أنَّه من المسائل الابتلائيّة فكيف نتفهّم إغفال النبيّ (ص) لذلك وعدم مبادرته لتعليم علي (ع) حكمها وهو المتصدّي لتنشأته وإعداده منذ نعومة أظفاره وكيف نتفهّم إغفال النبيّ (ص) لبيان حكم هذه المسألة الابتلائية لعلي (ع) خصوصًا بناءً على دعوى العامَّة بأنَّ المذي نجس وأنَّه من نواقض الوضوء فهل يصحّ القبول بأنَّ رسول الله (ص) ترك عليًّا (ع) يصلّي على غير طهور واقعي سنين.
على أنَّ ذلك منافٍ لما ثبت من أنَّ عليًّا كان يبادر رسول الله (ص) بالسؤال فإذا سكت بادره رسول الله (ص) بالعلم وكان ملازمًا لرسول الله (ص) وكانت له معه خلوات في كلّ يوم وليلة.
فمما ورد في ذلك ما رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك بسندٍ وصفه بالصحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم عن عمر بن هند الجملي قال سمعت عليًّا (ع) يقول: (كنت إذا سألت رسول الله (ص) أعطاني وإذا سكتّ ابتدأني).
وروى هذا الحديث الترمذي ووصفه بالحسن، قال ابن حجر وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه وروى النسائي في السنن الكبرى بسنده عن أبي البختري عن عليّ (ع)، قال: "كنت إذا سألت أُعطيت وإذا سكتّ ابتُدِيت".
ورواه أيضًا بسندٍ آخر عن زاذان.
وروى ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق بسنده عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه أنّه قيل لعلي (ع) مالك أكثر أصحاب رسول الله (ص) حديثًا، فقال: "إني كنت إذا سألت أنبأني وإذا سكتّ ابتدأني".
وروى ذلك ابن سعد في الطبقات وغيرهما.
ومنها: ما رواه النسائي في خصائص أمير المؤمنين بسنده عبد الله بن يحيى قال: قال علي(ع): "كان لي ساعة من السحر أدخل فيها على رسول الله (ص) فإن كان في صلاته سبَّح وان لم يكن في صلاته أذن لي"، وفي رواية أخرى ورد في ذيلها "وإذا أتيته استأذنته فإن وجدته يصلي سبَّح وان وجدته فارغاً أذن لي" روى هذا الحديث بتفاوت يسير في مسنده ورواه البيهقي في السنن الكبرى وكذلك النسائي في السنن الكبرى ورواه أيضاً ابن حجر في الخيرات الحسان بتفاوت يسير.
ومنها: ما رواه النسائي أيضاً في الخصائص بسنده إلى أبي يحيى قال: قال عليٌّ: "كان لي من النبي (ص) مدخلان: مدخل بالليل ومدخل بالنهار، إذا دخلت بالليل تنحنح لي". ورواه أيضاً في السنن الكبرى ورواه ابن أبي شيبة في المصنَّف وغيرهما.
ومنها: ما رواه النسائي أيضاً بسنده عن عبد لله بن بحر الحضرمي عن أبيه قال: قال علي(ع): "كانت لي منزلة من رسول الله (ص) لم تكن لأحدٍ من الخلائق فكنت آتيه كل سحر فأقول: السلام عليك يا نبي الله فإن تنحنح انصرفت إلى أهلي وإلا دخلت عليه".
ورواه أيضاً في السنن الكبرى ورواه ابن خزيمة في صحيحه ورواه المزي في تهذيب الكمال ورواه الاربلي في كشف الغمة، وروايات أخرى كثيرة تُعطي نفس المفاد إلا أننا أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة، ومعها كيف يتم القبول بأن لم علياً (ع) لم يكن يعلم بحكم المذي لأنه لم يسأل رسول الله (ص) عنه حياءً وكيف يتم القبول بأن رسول الله (ص) لم يتصد لبيان حكمه إليه وهو الذي إذا سكت عليٌ (ع) بدأه، وهل يُتعقل إغفاله بيان هذه المسألة الإبتلائية وهو الذي كان يعلِّمه دقائق المسائل وعويصاتها كما سنبين ذلك فيما بعد.
على أن دعوى امتناع عليٍّ عن السؤال للرسول (ص) حياءً إنما يتم لو كان عرض المسألة منحصراً بكيفيةٍ يظهر منها ابتلاء عليٍّ نفسه بها فإن ذلك قد يقتضي الامتناع عن السؤال حياءً إلا أن عرض المسألة لا ينحصر بذلك فيمكن أن يُصاغ السؤال بنحوٍ لا يظهر من ابتلاء السائل بما يسأل عنه بل كثير ما يكون الأمر كذلك خصوصاً في مثل هذه المسائل، وهل تنقص علياً بلاغةٌ تمنعه من بلوغ غايته مع التحفُّظ على كمال الأدب واللياقة وهو أمير البلغاء بإجماع الأمة. ثم انه كيف لم يتفق تصدي أحد الصحابة أو غيرهم لسؤال الرسول (ص) في محضر علي (ع) والحال ان المسألة من المسائل الإبتلائية، وقد كان علي (ع) شديد الملازمة لرسول الله (ص) وهل منع الحياء كلَّ الصحابة عن السؤال، فلو كان الأمر كذلك لما بلغنا شيء من مسائل الحيض والنفاس والجنابة وغيرها من المسائل التي هي أدعى للحياء من مسألة المذي وقد كان الصحابة ونساء الصحابة يسئلون رسول الله (ص) عن دقائق المسائل التي كانت أدعى للحياء من مسألة المذي.
ثم انه لو قبلنا بصحة هذه الرواية لكان علينا أن نرتاب في الكثير من الروايات التي اشتملت على سؤال عليٍّ لرسول الله (ص) عن مسائل هي أدعى للحياء من مسألة المذي أو نقول أن علياً (ع) قد تخلَّى فيها عن خلق الحياء !!
كل هذه المبعدات تؤكد بمستوى القطع ما ذكرناه من أن روايات المذي إما أن تكون موضوعة أو مصاغة بما ينافي الواقع أو وقع في نقلها اشتباه.
الأمر الثاني: اضطراب الروايات الواردة من طرق العامة، فبعضها اشتملت على أنًّ علياً (ع) كان مذّاءً وكان يستحي أن يسأل رسول الله (ص) عن حكم المذي لمكان ابنته فأمر المقداد ان يسأله، وفي بعضها أنه أمر عمار بن ياسر أن يسأله عن ذلك، وفي روايات أخرى أنه سأله بنفسه فأجابه النبي (ص) عن حكم المسألة، ثمّ أن الروايات اشتملت على اضطراب آخر فبعضها أفاد انه أرسل المقداد ليسأله عن حكم المسألة وفي بعضها أنه أمر رجلاً جالساً إلى جنبه فسأله وعليٌّ يسمع الجواب، وأفاد بعضها أنه أرسل رجلاً ليسأله عن ذلك ولم يكن قد سمع الجواب من النبي (ص) شفاهاً. وأفاد بعضها الترديد بين عمار والمقداد وأفاد بعضها ان كلاً منهما سأل النبي (ص) وفي بعضها أن الذي سأله أحدهما دون الآخر.
ثمّ ان بعض الروايات أفادت ان رسول الله (ص) هو مَن ابتدأ علياً (ع) ببيان المسألة دون أن يسأله بنفسه أو يسأله رجل آخر أو يسأله المقداد أو عمار، وأفاد بعضها الآخر إن رسول الله (ص) رأى أثر الشحوب على وجه عليٍّ (ع) فسأل علياً عن ذلك فأخبره فعلَّمه رسول الله (ص) حكم المسألة، ثم إنَّ بعض الروايات اشتملت على أمرٍ مُستغرَب وهو أنَّ علياً بلغ به الحرج من كثرة نزول المذي حدّاً دفعه إلى أن يجعل فتيلة في احليله ليمنع من نزول المذي، وكان يغتسل كلما نزل عليه المذي حتى تشقق ظهره من كثرة الغسل في الشتاء.
هذا الاضطراب الشديد والتهافت الواقع في الروايات يورثان الاطمئنان باختلاقها او تدليسها، وقد تصدى الكثير من علماء السنة لمعالجة هذا الاضطراب إلا أنهم لم يُفلحوا في ذلك كما سيتضح ذلك إن شاء الله تعالى.
فقد ذكر ابن حجر في كتابه فتح الباري: إن ابن حبَّان "جمع بين هذا الاختلاف بأن علياً (ع) أمر عماراً أن يسأل ثم أمر المقداد بذلك ثمّ سأل بنفسه" قال ابن حجر: وهو جمع جيد إلا بالنسبة إلى آخره لكونه مغايراً لقوله استحيى عن السؤال بنفسه لأجل فاطمة فيتعيَّن حمله على المجاز، أُطلق أنَّه سأل لكونه الآمر بذلك، وبهذا جزم الاسماعيلي ثم النووي، ويؤيد أنه أمر كلاً من المقداد وعماراً بالسؤال عن ذلك ما رواه عبد الرزاق من طريق عائش بن أنس قال: تذاكر علي والمقداد وعمار المذي، فقال علي: إنني رجل مذَّاء فاسئلا عن ذلك النبي (ص) فسأله أحد الرجلين وصحَّح ابن بشكوال ان الذي تولَّى السؤال عن ذلك هو المقداد، وعلى هذا فنسبة عمار إلى أنَّه سأل عن ذلك محمولة على المجاز أيضاً لكونه قصده لكن تولّى المقداد الخطاب دونه والله أعلم. فتح الباري ج1 / ص326.
والجواب عمّا ذكره ابن حجر من جودة الجمع الأول الذي أفاده ابن حبَّان وهو أن علياً امر عماراً بأن يسأل النبي (ص) ثمّ أمر المقداد أن يسأل النبي (ص) ثم سأل هو بنفسه. والجواب ان هذا الجمع لا ينفي الاضطراب من هذه الجهة وذلك لأنه إذا كان قد أمر الأول فما هو المبرِّر لأمر الثاني وإذا كان قد أمرهما بسؤال النبي (ص) فما هو المبرِّر لسؤال النبي (ص) بعد ذلك بنفسه والحال أنه قد اعتذر عن سؤاله بالحياء.
فالمبرِّرات المحتملة لأمر الثاني بعد أمر الأول وللتصدي للسؤال بنفسه بعد أمرهما هي ما يلي:
الاحتمال الأول: إن كلاً من عمار والمقداد لم يسئلا النبي (ص) فتصدّى عليٌّ لسؤال النبي (ص) بنفسه، وهو ينافي -كما أفاد ابن حجر- اعتذاره عن سؤال النبي (ص) بالحياء فكان ذلك يقتضي أن يأمر غيرهما بسؤال النبي (ص) بعد افتراض عدم سؤالهما. على إن هذا الاحتمال ساقط قطعاً لأن الروايات أفادت أن عماراً سأل النبي (ص) فأجابه، وإن المقداد سأل النبي (ص) فأجابه، فأيُّ معنىً بعد ذلك لسؤال علي (ع) للنبي (ص) وأيُّ معنى لأمر الثاني بعد أمر الأول.
الاحتمال الثاني: إن منشأ سؤال عليٍّ للنبي (ص) بعد أمر عمار ثم أمر المقداد هو أنه بعث الأول فأبطأ فأمر الثاني فأبطأ فاضطر للسؤال عن حكم المذي بنفسه، وهذا الاحتمال ساقط أيضاً لأنه لو كان الأمر كذلك لاقتضى أن يأمر ثالثاً ورابعاً لافتراض أنَّ ما يمعنه من السؤال هو الحياء ولا يرفعه إبطاء عمار والمقداد في السؤال والرجوع بالجواب، على إن ذلك منافٍ لما يظهر من الروايات من أنَّه اعتمد على الجواب الذي جاء به عمار واعتمد على الجواب الذي جاء به المقداد وكان ينقل جواب النبي (ص) عن المقداد تارة وعن عمار تارة أخرى.
الاحتمال الثالث: أنَّهما لم يُبطئا ولكنه لم يثق بالجواب الذي جاء به عمار فبعث المقداد، وبعد ما جاءه بالجواب لم يثق بنقله فلجأ بعد ذلك لسؤال النبي (ص) بنفسه.
وهذا الاحتمال ساقط أيضاً لأمرين:
الأول: انه لم يكن مبرر لبعث كلِّ منهما على حدة لو لم يكن واثقاً بصدقهما ولو كان واثقاً بصدقهما، فما هو المبرر لسؤال النبي (ص) بعد مجيئهما له بالجواب إلا أن يكون منشأ عدم وثوقه بالجواب الذي جاءا به هو التشكيك في فهمهما له وهو مستبعد جداً لأنه لو لم يكن يثق بجودة فهمهما لما بعثهما، على ان المسألة ليست من التعقيد بحيث يكون استيعابهما لها بحاجةٍ إلى جودةٍ في الفهم، ثمّ انَّ توافق الجواب الذي جاءا به ينبغي ان يدفع احتمال الخطأ في الفهم، فبعد ان كان الجواب متطابقاً وبعد ان لم تكن المسألة من المسائل المعقدة وبعد ان لم يكن الرجلان معروفين بسوء الفهم ولا بالتساهل في الدين بل المقطوع به خلاف ذلك فأيُّ مبررٍ بعد ذلك لسؤال النبي (ص) إلا أن يكون قد أراد ان يسمع الجواب بنفسه فكان عليه ان يُبادر إلى ذلك من أول الأمر وإذا كان قد منعه الحياء فهل تخلَّى بعد ذلك عن خُلق الحياء؟!
وإذا لم يكن قد تخلّى عن خلق الحياء ولم يكن قد وثق بالجواب الذي جاء به المقداد وعمار ألم يكن يقتضي ذلك أن يبعث رجلاً آخر ورجلاً آخر حتى يطمئن إلى الجواب.
الثاني: إنَّ الروايات صريحة في انه اعتمد الجواب الذي جاء به عمار وروايات أخرى صريحة في انه اعتمد الجواب الذي جاء به المقداد وذلك ينافي احتمال عدم الوثوق بالجواب الذي جاءا به.
الاحتمال الرابع: ان الإمام علي (ع) وإن كان يثق بالجواب الذي جاء به كلٌّ من المقداد وعمار إلا إن منشأ سؤاله بعد ذلك هو انه نسي الجواب لذلك تصدّى لسؤال النبي (ص) بنفسه.
وهذا الاحتمال ساقط قطعاً لأمور:
الأول: ما عُرِف عن علي (ع) -بقطع النظر عن عصمته- بأنَّه كان يتميَّز بحافظةٍ وذكاءٍ منقطع النظير.
الثاني: ان المفترض هو ان المسألة كانت مورداً لابتلائه وكان بأمس الحاجة إلى الجواب، وطبع ذلك يقتضي عدم النسيان، على انَّها لم تكن من المسائل المتشعبة والمعقدة حتى يحتاج استيعابها وحفظها إلى عناية زائدة وتميِّزٍ في الفهم والحافظة.
الثالث: إنَّ نسيانه للجواب لا يقتضي التصدي بعد ذلك لسؤال النبي (ص) بنفسه، إذ ان المانع من سؤال النبي (ص) هو الحياء وهو لا ينتفي بنسيانه للجواب، فكان مقتضى هذا الفرض هو مراجعة المقداد أو عمار أو بعث رجل آخر لسؤال النبي (ص).
الرابع: ان هذا الفرض يُنافي صريح الروايات التي أفادت انه اعتمد على ما جاء به المقداد وعمار من جواب وكان ينقل جواب الرسول (ص) عنهما كلاً على حدة.
هذا فيما يتصل بالجمع الذي نقله ابن حجر عن ابن حبَّان، وأما الجواب عن الجمع الثاني وهو انَّ الإمام علي (ع) لم يسأل النبي (ص) عن حكم المسألة وإنما قال: إنَّه سأل النبي (ص) باعتباره كان قد أمر المقداد وعمار أن يسألاه فكأنه قد سأله بنفسه، وهذا هو ما صحح له أن يقول سألت النبي (ص) أو ان الإمام لم يقل أنه سأل النبي (ص) ولكن الرواة نسبوا السؤال إليه، وهذا الاحتمال الأخير نقله ابن حجر عن الاسماعيلي وعن النووي وأفاد ان الاسماعيلي جزم به.
إلا انَّ هذا الجمع باحتماليه ساقط أيضاً فهو مضافاً إلى مخالفته لصريح الروايات التي أفادت أنَّ علياً سأل النبي (ص) بنفسه وانه أجابه عن حكم المسألة فإنه مضافاً إلى ذلك يكون مقتضى هذا الاحتمال الأول هو اتهام علي (ع) بالتدليس، إذ أنَّه أوهم السامع بأنه سأل النبي (ص) وتلقّى الجواب عنه بنفسه والواقع انه لم يسأل ولم يتلقَ الجواب عنه بنفسه. وإنما تلقاه بواسطةٍ لم يذكرها وهو من أقبح صور التدليس، ولا أدري كيف يتجرأ أحد على نسبة ذلك لمثل علي بن أبي طالب (ع).
ولو صحَّ هذا الجمع لكان علينا ان نقبل من النساء اللاتي كنَّ يأمرن أزواجهن بسؤال النبي (ص) لكان علينا ان نقبل منهنَّ نسبة السؤال لأنفسهن دون الإشارة إلى الواسطة والحال ان أحداً لا يقبل بذلك لا من العقلاء ولا من علماء الرجال والأصول ويعتبرونه من التدليس في النقل.
وأما الاحتمال الثاني للجمع فهو لا يختلف عن الاحتمال الأول إلا من جهة إلقاء تهمة التدليس لعلي (ع) على الرواة الذين نقلوا عن علي (ع) انَّه سأل النبي (ص) بنفسه، فحينما ينقل الرواة ان علياً قال انه سأل النبي (ص) وهو لم يسئل واقعاً فهم قد اتهموا علياً بأنه دلَّس في نقله للخبر أو أنهم دلَّسوا فنقلوا عن علي (ع) غير ما سمعوا منه، فهم قد سمعوا منه أنه أمر عماراً أو المقداد بأن يسأل فنقلوا عنه أنه هو مَن سأل النبي (ص).
وتبرير ذلك بأن المصحِّح لنسبة السؤال لعلي (ع) هو انه الآمر بالسؤال وإنَّهم قد نسبوا السؤال لعلي مجازاً لا يمكن قبوله بعد ان لم تكن الروايات التي ذكرت ان علياً سأل النبي (ص) مشتملة حتى على ما يُشعر بأن السائل غيره وإنَّه لم يتلقَ الجواب شفاهاً أصلاً، فلم يذكروا مثلاً ان الإمام استحى ان يسأل النبي (ص) أو غير ذلك من القرائن وإنما ذكروا ان علياً سأل النبي (ص) فأجابه، وهذا ليس من المجاز في شيء وإنما هو من التدليس المُستقبَح الذي لا ينبغي حمل الرواة عليه جزافاً فيتعيَّن من ذلك ان يكون علي (ع) هو المدلِّس وليبوء من جزم بذلك أو احتمل بوزرٍ عظيم أو ان الرواة قد دلَّسوا وليقبل من جزم بذلك أو احتمل بالتكلُّف والمجازفة والقول بغير دليل أو نقبل بالاضطراب بين الروايات فبعضها نسبت السؤال لعلي (ع) وبعضها الآخر نسبته لعمار وبعضها نسبته للمقداد فنكون قد عدنا إلى ما خرجنا عنه.
ثم إن الاضطراب يظلُّ مرواحاً على أي تقدير فمن الذي بعثه علي لسؤال النبي (ص) فهل هو عمار أو المقداد، ومَن الذي سأله وتلقّى الجواب من النبي (ص) فما ذكره ابن حجر من ان السائل والمتلقي للجواب هو المقداد وانَّ نسبة السؤال لعمار مجازية لأن عمار قصد النبي (ص) ليسأله فسأله المقداد، هذا الجمع يواجه نفس الإشكالات السابقة فبعض الروايات صريحة في انَّ علياً بعث عماراً وان عماراً سأل النبي (ص) وجاء لعليٍّ بالجواب، وبعضها أفاد ان المبعوث هو المقداد وانَّه مَن سأل وهو مََن تلقّى الجواب وجاء به لعلي (ع).
فهنا احتمالات:
الاحتمال الأول: إنَّ الإمام علي (ع) بعث عماراً ولم يبعث المقداد وان الذي سأل وجاءه بالجواب هو عمار وليس المقداد وهذا الاحتمال لو صحَّ فهو يقضي بكذب الروايات التي أفادت ان المبعوث والسائل والمتلقي والجائي بالجواب هو المقداد ولو عكسنا الاحتمال لكان مقتضى ذلك هو تكذيب الروايات التي نسبت الأمر لعمار.
الاحتمال الثاني: أنَّه بعثهما معاً فكان السائل هو المقداد والجائي بالجواب هو المقداد أيضاً وان نسبة نقل الجواب إلى عمار مجازية، وهذا الاحتمال هو الذي استجوده ابن حجر إلا أن مقتضاه نسبة التدليس لعليٍّ (ع) لأنه نسب نقل الجواب لعمار في بعض الروايات أو يكون المدلِّس هم الرواة الذين نسبوا القول لعليِّ بأن عمار هو من نقل الجواب إليه.
الاحتمال الثالث: إنَّ كلاً منهما بعثه على حدة وكلاهما جاءه بالجواب، وهذا الاحتمال ينافي أولاً ما ورد من التصريح بأن أحدهما جاءه بالجواب ولكن علياً نسيه أو أن الراوي هو من نسي الجائي بالجواب.
وثانياً: هو منافٍ لما يظهر من بعض الروايات ان المبعوث والسائل والجائي بالجواب هو خصوص المقداد كما إنه منافٍ لما يظهر من بعضها ان ذلك وقع لعمار، وهو منافٍ أيضاً للروايات التي أفادت انه بعث رجلاً فجاءه بالجواب فإن حملنا الرجل على أحدهما ولم نحمله على شخص ثالث فذلك يقتضي أن المبعوث هو إما عمار أو المقداد وإن الجائي بالجواب هو أحدهما، ودعوى أن الاختلاف في متن السؤال والجواب قرينة على أنه بعث كلاً منهما على حدة لا تصح لأن ذلك ليس مطرداً في تمام الروايات، على ان الاختلاف في بعضها إنما هو في نقل الروايات بالمعنى كما هو المتعارف فالحاصل من مجموعها واحد أو أنه متلائم. فلا يصح ذلك قرينة على تعدد الواقعة على أنه لا مبرِّر لتعددها كما اتضح مما تقدم.
الاحتمال الرابع: أنَّ علياً لم يبعث واقعاً إلا أحد الرجلين إما عماراً أو المقداد فوقع النسيان من الرواة فبعضهم ذكر أنه بعث عماراً وذكر البعض الآخر أنه بعث المقداد، وهذا الاحتمال ساقط أيضاً لاستبعاد ان يتفق النسيان لمجموعة من الرواة، فلم يكن مَن نقل ان المبعوث والسائل هو المقداد واحد أو اثنين وكذلك مَن نَقل أنه عمار، على أن النسيان يقتضي عادةً التفات الناسي إلى أنه قد نسي الاسم فإما أن يذكر الاسم بنحو الاحتمال أو الظن أو أنه يستعيض عن ذكر الاسم بعنوان يشمل المنسي كعنوان رجل أو شخص أو ما شابه ذلك أما أن يُذكر الاسم بنحو الجزم فذلك لا يتفق للناسي ولو اتفق فهو نادر لا يصح البناء عليه خصوصاً مع تعدد مَن نقل الاسم بنحو الجزم فلو كان النسيان أو الاشتباه هو المتعيّن واقعاً لاقتضى ذلك تعدد الأسماء لا أن ينسى جماعة من الرواة فينسبون لعلي أنه أمر عماراً وينسب آخرون لعلي أنه أمر المقداد فذلك يعزِّز الارتياب في مجموع هذه الروايات.
ثمّ ان الارتياب لا يقف عند حدِّ ما ذكرناه من مناشئ رغم كفايتها فثمة مناشئ أخرى للارتياب:
منها: ما ورد في بعض هذه الروايات مِنَ أنَّ علياً كان يُكثر من الغسل كلما أمذى حتى تشقق ظهره من كثرة الغسل في الشتاء وفي ذلك إساءة واضحة لعلي (ع) تناسب الإساءات التي توالت عليه من قبل أعدائه والحاسدين له.
فما معنى أن يُكثر الغسل كلَّما أمذى فهل كان يعتقد أن تلك هي وظيفته الشرعية والحال أنه لم يسأل رسول الله (ص) بحسب الزعم عن حكم المسألة ولم يسمع منه حكمها، فلو قَبِل أحد بهذا الاحتمال فإنه ينسب إلى علي (ع) الجهل المركب وهو أنه يجهل بحكم المسألة ويجهل بأنه يجهلها وذلك لا يتفق إلا لذوي العقول الضعيفة جداً، فالعقلاء حينما يجهلون بشيء فأنهم يُدركون أنهم يجهلونه أو تقبلون على علي (ع) ابتداع حكمٍ لنفسه بعد القبول بأنه لم يسمع حكم المسألة من رسول الله (ص).
ويحتمل أن يكون منشأ الإكثار من الغسل هو الاحتياط، فلأنه كان يستحي من السؤال لذلك رجَّح الاحتياط بالغسل على السؤال.
وهذا الاحتمال بعيد غايته ولا يخلو في ذات الوقت من إساءة للإمام علي (ع) فإذا كان المانع من السؤال هو الحياء فذلك إنما يمنع عن مشافهة الرسول (ص) بالسؤال والأمر لا ينحصر بهذه الوسيلة فله أن يتوسَّل إلى معرفة حكم المسألة بإرسال من يسأل الرسول (ص) أما أن يتبرع من نفسه فيغتسل حتى يصل الأمر به إلى حد الحرج فيتشقق ظهره من كثرة الغسل ثم يأمر من يسأل النبي (ص) فهذا ما لا يصح قبوله على عاقل خصوصاً مع احتمال أن ثمّة رخصة ومندوحة، ثمّ ألم يكن عليٌّ في وسط الصحابة حتى يعرف ماذا يفعلون لو اتفق لهم ذلك أم لم يكن يُمذي في الخلائق إلا علي؟! وإذا كان يمنعه الحياء من سؤال الصحابة فما الذي حصل بعد ذلك، فأخذ يُخبر عماراً والمقداد والرواة وعموم الناس أنَّه كان مذّاء بل أخبر عن ذلك بزعم بعضهم وهو على المنبر. فهل يستقيم ذلك من رجل كان يستحي من سؤال رسول الله (ص) وسؤال مَن كان معه من الصحابة.
ثمّ إنه قد نتفهم أن يغتسل المؤمن احتياطاً لدينه في ظرف الجهل أما ان يُكثر مِن الغسل مع قدرته على التعلّم بيسر فذلك لا يمكن تفُّهمه من سَوقةِ الناس كيف والمدَّعى عليه ذلك هو مثل عليٍّ (ع) الذي كان شديد الملازمة لرسول الله (ص) وكان شديد الحرص على التفقه في الدين.
ثمّ ألم يكن يَحتمِل ان الغسل قد لا يكفي عن الوظيفة الشرعية وأنَّ الوظيفة عند نزول المذي ليست هي الغسل فيكون ما أراد الاحتياط به لم يكن احتياطاً بل هو تجاوز للوظيفة الواقعية شرعاً فيكون قد تجاوز الواقع وأسرف في الماء وأضرَّ بنفسه وخالف السنة القطعية باستحباب أو وجوب السؤال.
فهل يصح قبول كلِّ ذلك على مثل علي (ع)؟! سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
ومنها: ما ورد في بعض هذه الروايات أن علياً كان مذاءً فكان يأخذ الفتيلة فيُدخلها في احليله، فقد بلغ الحرجُ بعليٍّ -بناء على هذا الزعم - غايته فلجأ إلى عمل لا يقبله أحد من عاقل، ولا أدري كيف قبلوا نسبته إلى عليٍّ (ع) فلم يكن علي مضطراً إلى ذلك لو كان قد سأل عن حكم المذي أيلجأ أحد إلى ذلك ليتحاشى كثرة الاغتسال الذي تسبب في تشقق ظهره وهو لا يدري بعدُ ان تلك هي وظيفته شرعاً أو لا، ألم يكن بوسعه أن يسأل أحداً فيكفي نفسه مؤنة الغسل الكثير الذي أوقعه في الحرج الشديد ويتحاشى بذلك ألم الفتيلة الذي أظن أنه لا يُطاق. ألم يتناهى إلى سمعه وهو الأذن الواعية كما وصفه القرآن أنه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾( ).
ثمّ إن هذه الروايات تتحدث عن علي (ع) وكأنه يعيش في منأىً عن موضع سكنى رسول الله (ص) ألم تكن حجرته ملاصقة لحجرات الرسول (ص) قبل زواجه وبعده، ألم تصرِّح الروايات المتظافرة أن رسول الله (ص) سدَّ الأبواب عن المسجد إلا بابه وباب عليٍّ (ع) فلِمَ لمْ يُلاحظ رسول الله (ص) من عليٍّ ما يُريبه من كثرة الاغتسال وهو الفطن اللبيب وقد تناهت فطنته إلى كمالها، وهل يخفى على المربِّي ما ينتاب عياله، وهل يخفى مثل هذا الحال الذي يصفه الرواة خصوصاً عند من تعيش في داره وكنفه وهو الرحيم الشفيق على عياله وذويه فلِمَ لمْ يبادره بالسؤال عن شأنه وهو أحبُّ الناس إليه وأشدهم به لصوقاً إلى أن لحق الرسول (ص) بربِّه، ولا يتنكر لذلك إلا مكابر.
الأمر الثالث:
نذكر فيه بعض ما ورد من طرق العامة من روايات كثيرة ومعتبرة وصريحة في تميّز عليٍّ (ع) في العلم وشدة اتصاله برسول الله (ص) ليتضح بذلك منافاة روايات المذي للروايات المقطوعة الصدور عن النبي (ع) وهو ما يقتضي الجزم بسقوطها عن الاعتبار:
منها: ما رواه الحاكم النيسابوري بسندٍ وصفه بالصحيح عن النبي (ص): "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب". قال السيوطي: كنت أجيب دهراً عن هذا الحديث بانه حسن إلى أن وقفت على تصحيح ابن جرير لحديث عليٍّ في تهذيب الآثار مع تصحيح الحاكم لحديث ابن عباس فاستخرت الله وجزمت بارتقاء الحديث من مرتبة الحسن إلى مرتبة الصحيح.
ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري بسندٍ وصفه بالصحيح عن أنس بن مالك أن النبي (ص) قال لعلي: "أنت تُبيّن لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي".
ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري بسندٍ وصفه بالصحيح عن عباد بن عبد الله عن علي (ع): ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾( ) قال علي (ع): "رسول الله المنذر وأنا الهادي" قال السيوطي في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة والديلمي وابن عساكر وابن النجار لما نزلت ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ وضع رسول الله (ص) يده على صدره وقال: "انا المنذر وأومأ بيده إلى منكبي علي فقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون" قال: وأخرج ابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي سمعت رسول الله (ص) يقول" إنما أنت منذر ووضع يده على صدر نفسه ثم وضعها على صدر علي ويقول ولكلِّ قوم هاد.
ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري بسندٍ وصفه بالصحيح عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله (ص): "علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض". قال الخطيب التبريزي في كتابه الإكمال في أسماء الرجال: هذا حديث حسن صحيح وقد صحّحه الذهبي والحاكم وحسّنه السيوطي.
ومنها: ما رواه أحمد في مسنده بسنده إلى معقل بن يسار قال: قال النبي (ص) لفاطمة (ع): "أو ما ترضين إني زوجتك أقدم أمتي سلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً" رواه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال رواه أحمد والطبراني وفيه خالد بن طهمان وثّقه أبو حاتم وبقية رجاله ثقات. وبهذا المضمون وردت روايات كثيرة وبطرق متعددة.
ومنها: ما رواه الزرندي الحنفي عن أبي الطفيل قال: شهدت علياً وهو يخطب ويقول: "سلوني عن كتاب الله عزّ وجل ما منه آية إلا وأنا اعلم بليلٍ أو نهارٍ أم سهلٍ نزلت أم بجبل" قال وفي رواية قال: "ما نزلت آية إلا وعلمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى مَن نزلت إنَّ ربي عز وجل وهب لي قلباً عقولاً ولساناً ناطقاً" ورواه ابن حجر في الإصابة قال: وقال وهب بن عبد الله عن أبي الطفيل، ورواه القندوزي عن المناقب بسنده عن عامر بن واثلة إلا أن فيها اختلاف يسير قال: خطبنا علي (ع) على منبر الكوفة فقال: "أيها الناس سلوني سلوني فوالله لا تسألوني عن آية من كتاب الله إلا حدثتكم عنها متى نزلت بليل أو نهار وفي مقامٍ أو مسير في سهلٍ أم في جبل وفيمَن نزلت في مؤمن أو منافق وما عنى الله بها أو عام أم خاص"
ومنها: ما رواه الترمذي في سننه بسنده عن الصنابجي عن علي (ع) قال: قال رسول الله (ص): "أنا دار الحكمة وعلي بابها".
وروي بسندٍ آخر عن مجاهد عن ابن عباس وعلّق أحمد بن الصديق المغربي على السند الأول فقال: قال ابن حجر هذا خبر عندنا صحيح وقد يكون على مذهب آخرين سقيماً غير صحيح. قال المغربي: أصاب ابن حجر في تصحيح الحديث. فتح الملك العلي / 53.
وقال الخطيب التبريزي في كتابه الإكمال في أسماء الرجال: هذا حديث حسن صحيح وقد حسّنه ابن حجر والعلائي وجماعة وقد صحّحه ابن جرير والحاكم والسيوطي والهندي، وأخرج أحمد بن حنبل في المناقب بسنده عن حميد بن عبد الله بن الزبير قال: ذكر عند النبي (ص) قضاء قضى به عليُّ بن أبي طالب فأعجب النبي (ص) فقال: "الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت".
ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري بسندٍ وصفه بالصحيح عن ابن عباس قال: كان علي يقول في حياة رسول الله (ص): "... والله إني لأخوه ووليُّه وابن عمه ووارث علمه فمن أحق به مني".
وروى النيسابوري أيضاً بسندٍ وصفه بالصحيح عن أبي اسحاق قال: سألت قثم بن العباس كيف ورث علي رسول الله (ص) دونكم؟، قال: "لأنه كان أولنا به لحوقاً وأشدنا به لزوقاً". قال الحاكم سمعت قاضي القضاة أبا الحسن محمد بن صالح الهاشمي يقول: سمعت أبا اسحاق القاضي يقول وذُكر له قول قثم هذا فقال: إنما يرث الوارث بالنسب وبالولاء ولا خلاف بين أهل العلم ان ابن العم لا يرث مع العم فقد ظهر بهذا الإجماع أن علياً ورث العلم من النبي (ص) دونهم.
وروى المحبُّ الطبري في الرياض النضرة قال: عن معاذ قال علي (ع): "يا رسول الله ما أرث منك؟، قال: ما يرث النبيون بعضهم من بعض كتاب الله وسنة نبيه" أخرجه الحضرمي.
وروى الطبري في المعجم الكبير بسنده عن زيد بن أبي أوفى -بعد أن آخى رسول الله بين أصحابه- قال رسول الله (ص): "والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلا لنفسي فأنت عندي بمنزلة هارون من موسى ووارثي" ، فقال: "يا رسول الله ما أرث منك؟"، قال (ص): "ما أورثت الأنبياء"، قال (ص) لعلي: "وما أورثت الأنبياء قبلك كتاب الله وسنة نبيهم وأنت معي قي قصري في الجنة مع ابنتي فاطمة" ثم تلا رسول الله الآية : ﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾( ) الأخلاء في الله ينظر بعضهم لبعض".
ورواه السيوطي في الدر المنثور وقال: أخرجه البغوي في معجمه والبارودي وابن قافع والطبراني وابن عساكر عن زيد بن أبي أوفى، ورواه ابن حبّان في الثقات.
منها: ما رواه الحكام الحسكاني في شواهد التنزيل بسنده إلى ابن عباس قال: سمعت أسماء بن عميس تقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: "اللهم إني أقول كما قال موسى بن عمران اللهم اجعل لي وزيراً من أهلي علي بن أبي طالب اشدد به ازري -يعني ظهري- وأشركه في أمري ويكون لي صهراً وختناً".
قال الحسكاني: وفي تثبيت الوزارة لعلي وتحققها له جاءت عدة روايات عن عدةٍ من الصحابة منها رواية ابن عباس عن علي (ع).
وروى قريباً منها في الرياض النضرة وقال: أخرجه أحمد في المناقب.
قال ابن الجوزي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا﴾( ) قال: قال الماوردي: إنما سأل الله أن يجعل له وزيراً لأنه لم يُرد أن يكون مقصوراً على الوزارة حتى يكون شريكاً في النبوة ولولا ذاك لجاز أن يستوزر من غير مسألة.
ومنها: ما رواه الحاكم الحسكاني بسنده عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: كنت عند رسول الله (ص) فسئل عن علي (ع) فقال: "قُسِّمت الحكمة عشرة أجزاء، فأُعطي عليٌّ تسعة أجزاء وأعطي الناس جزءاً".
ورواه أحمد بن الصديق المغربي ولم يرتضِ بتضعيف الذهبي للسند وقال: لو وثَّقه كلُّ الناس لقال الذهبي: إنه كذب، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق بسندين وأفاد أن أحمد بن عمران بن سلمة الوارد في السند كان ثقة عدلاً مرضياً، ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء، وابن المغازلي في مناقب أمير المؤمنين وغيرهم.
ومنها: ما رواه النيسابوري في المستدرك بسندٍ وصفه بالصحيح عن قيس بن أبي حازم قال: كنت بالمدينة فبينا أنا أطوف في السوق إذ بلغت أحجاز الزيت فرأيت حواليه قوماً مجتمعين على فارس قد ركب دابته وهو يشتم علي بن أبي طالب والناس وقوف حواليه إذ أقبل سعد بن أبي وقاص فوقف عليهم فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجل يشتم علي بن أبي طالب، فتقدم سعد فأفرجوا له حتى وقف عليه فقال: يا هذا على ما تشتم علي بن أبي طالب ألم يكن أول من أسلم؟ ألم يكن أول من صلَّّى مع رسول الله (ص)؟ ألم يكن أزهد الناس؟، ألم يكن أعلم الناس؟ وذكر حتى قال: ألم يكن ختن رسول الله (ص) على ابنته؟ ألم يكن صاحب راية رسول الله (ص) في غزواته؟، ثم استقبل القبلة ورفع يديه: اللهم إن هذا يشتم ولياً من أوليائك فلا تفرِّقْ هذا الجمع حتى تُريهم قدرتك، قال قيس: فوالله ما تفرقنا حتى ساخت به دابته فرمته على هامته في تلك الأحجار فانفلق دماغه ومات.
وقد صححه الذهبي في التلخيص على شرط البخاري ومسلم.
ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري في حديث طويل بسندٍ وصفه بالصحيح الاسناد عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس ورد فيه: "وخرج رسول الله (ص) في غزوة تبوك وخرج الناس معه قال: فقال له علي (ع) أخرجُ معك، قال: فقال النبي (ص): لا، فبكى عليٌّ فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بعدي نبي، إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي، قال ابن عباس: وقال له رسول الله (ص): أنت وليُّ كل مؤمن بعدي ومؤمنة، قال ابن عباس: وسدَّ رسول الله (ص) أبواب المسجد غير باب علي".
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بلج الفزاري وهو ثقة وفيه لين.
ومنها: ما رواه أبو نعيم في حلية الأولياء بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: "إن القرآن نزل على سبعة أحرف ما منها إلا له ظهر وبطن وإنَّ علي بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن". ورواه أبو اسحاق الثعلبي في تفسيره ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.
وعن الشعبي قال: "ما كان أحد من هذه الأمة اعلم بما بين اللوحين وبما أُنزل على محمد (ص) من علي" رواه الزرندي.
وروى ابن عبد البر في الاستيعاب بسنده عن ابن عباس: "والله لقد أُعطي عليٌّ تسعة أعشار العلم، وأيمُ الله لقد شارككم في العشر العاشر".
وروى المتقي الهندي في كنز العمال قال: قال رسول الله (ص): "أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب" قال: رواه الديلمي عن سلمان.
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة: "عليٌّ أعلم الناس بالسنة".
وروى الحسكاني بسنده عن ابن عمر: "عليٌّ أعلم الناس بما أُنزل على محمد".
وروى المناوي في فيض القدير بسنده عن ابن عباس عن النبي (ص): "عليٌّ عيبةُ علمي".
قال المناوي في شرح الحديث: "أي مظنة استفصاحي وخاصتي وموضع سري ومعدن نفائسي، والعيبة ما يُحرِز الرجل فيه نفائسة، قال ابن دريد: وهذا من كلامه (ص) الموجز الذي لم يسبق ضرب المثل به في إرادة اختصاصه بالأمور الباطنة التي لا يطّلع عليها أحد غيره، وذلك غاية في مدح علي.."
وروى ابن عساكر بسنده عن أنس بن مالك عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله (ص): "صاحب سرِّي علي بن أبي طالب". ورواه القندوزي وقال: وأخرجه الديلمي ورواه المناوي القاهري في كنوز الحقائق.
هذه مجموعة من الروايات الواردة من طرق العامة وهي بالقياس إلى ما ورد في طرقهم مما يتصل بموضوع هذه الروايات ليست سوى نزرٍ يسير ورغم ذلك فهي تكوّن بمجموعها أعني مجموع ما ذكرناه فقط تواتراً إجمالياً يُنتج القطع بصدورها في الجملة، على أن فيها الصحيح والحسن والمتواتر في نفسه والمستفيض في نفسه، وهي مع ذلك معتضدة بعشراتٍ مثلها في المضمون أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة أكثر.
وبأدنى تأملٍ في مضامين هذه الروايات يحصل الجزم بكذب ما ورد في روايات المذي والتي لا تعدو أن تكون روايات آحاد مضطربة في نفسها ومنافية للمضامين الواردة في هذه الروايات، إذ من غير الممكن أن يكون علياً باب مدينة علم النبي (ص) والمبيِّن لأمته ما تختلف فيه من بعده ثم نقبل عليه الجهل بحكم مسألة ابتلائية ميسورة الفهم والتحصيل.
وكيف يصح أن نقبل على عليٍّ ذلك بعد أن شهد النبي (ص) باستيعابه لدقائق ما ورد في القرآن، كما هو مقتضى قوله: "علي مع القرآن والقرآن مع علي"، ألا تتنافى هذه المعيَّة التي لم تتفق لأحد مع مثل هذه الروايات الآحاد، ثمّ هو المعنيُّ بقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ كما روى ذلك النيسابوري وغيره عن النبي (ص) بأسانيد صحيحة.
فإذا كان عليٌّ أعلم الأمة كما هو مقتضى صحيحة معقل بن يسار وغيره وهو أعلم الناس كما في صحيحة سعد بن أبي وقاص وهو وراث علم النبي (ص) كما في صحيحة ابن عباس وغيره وهو الذي ورَّثه النبي (ص) علم الكتاب والسنة كما في رواية زيد بن أبي أوفى ومعاذ بن جبل وهو أعلم الناس بالسنة كما في صحيحة البخاري عن عائشة، وهو أعلم الناس بما أنزل على محمد (ص) كما في رواية ابن عمر وهو أعلم بما بين اللوحين كما في رواية الشعبي فإذا كان عليٌّّ كذلك فهل ينتظر حتى يبتلي بمسألة ثم يسأل عنها، وهل شأن العلماء أن يبتلوا أولاً بشيء حتى يتعلموه، على أن روايات المذي أفادت أن علياً رغم طول ابتلائه لم يتصدَّ للتعلُّم إلى أن تزوَّج واشتدَّ ابتلاؤه بعث من يسأل له عن حكم المذي وكأنه ورث علم النبي (ص) في يومٍ أو يومين أو سنةٍ أو سنتين ولم تكن هذه الوراثة مقتضية للتحصيل الدؤوب والملازمة الشديدة للرسول (ص).
وإذا كان رسول الله (ص) اختار علياً أخاً أفلا يكون له ملازماً فهو أخوه بالتواتر وهو وزيره كما عن ابن عباس وغيره وقد صرّح أن منزلته منه منزلة هارون من موسى في مواطن عديدة وصلتنا بالأسانيد الصحاح والمتواترة وهو صاحب سرِّه كما في رواية سلمان وغيره وهو نجيُّه الذي قال: "ما أنا انتجيته ولكنَّ الله انتجاه"، وهو عيبةُ علمه كما عن ابن عباس وهو مَن عاش معه في داره وقد سدَّ الأبواب إلا بابه كما ثبت بالتواتر فإذا كان علي (ع) كذلك وهو كذلك دون ريب فكيف يصح القبول بروايات آحاد مفادها أن علياً ابتُلي بالمذي حتى اشتدَّ بلاؤه وكثر غسله فلم يتفطن الرسول (ص) لذلك حتى بعد زواج عليٍّ (ع) من فاطمة (ع).
فعليٌّ الذي أُعطي تسعة أعشار العلم وتسعة أعشار الحكمة وشارك مَن سواه في العُشر العاشر،ٍ وكان باب الحكمة وكان من أهل بيت مُنحت لهم الحكمة كما أفاد الرسول (ص) ثم يظلُّ متحيراً لا يدري أيَّ شيء يصنع في بلاء هو أحقر شيء يبتلي به مكلَّف، فلا يسعه إلا أن يُكثر من الغسل حتى يتشقق ظهره ويُدخل الفتيلة في احليله، وكان أهون عليه أن يتجاوز حياءه أو يبعث من يسأله عن حكم هذه المسألة أو يصوغها بما يُوحي بعدم ابتلائه بها فلا يختار شيئاً من ذلك ويظلّ في غسله وعنائه سنين متطاولة!!
أيصحُّ أن نقبل ذلك على رجلٍ أعدَّه رسول الله (ص) ليكون وراثاً لعلمه والمبيِّن لأمته ما اختلفوا فيه من بعده والهادي الذي يهتدي به المهتدون والولي لكلِّ مؤمن ومؤمنة بعده ووصفه بأنه كنفسه.
ثمّ إنَّ ذلك كله إنما هو بقطع النظر عن دلالات حديث الثقلين وحديث السفينة وحديث الغدير وآية التطهير وآية المباهلة وآية الولاية وغيرها من الآيات والروايات.
فبأدنى تأملٍ في دلالات هذه الآيات والروايات المتواترة ومقتضياتها يحصل القطع بكذب روايات المذي وأنها اختُلقت لغرض النيل من المقام السامي لعليٍ بن أبي طالب (ع). كما اختُلف غيرها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والله المستعان على ما يصفون.
وأما الروايات الواردة من طرقنا فهي أيضاً ساقطة عن الحجيِّة، فلا يصح التعويل عليها لأنها إمَّا أن تكون قد صدرت تقية لمجاراة العامة أو أنَّها قد دُسَّت في كتب أصحاب الأئمة (ع) باسنادها، والجزم بذلك ينشأ عن استلزامها لبقاء عليٍّ دون علم بحكم المذي برهة من الزمن ليست بقصيرة رغم ابتلائه بالمسألة، فمقتضى ما ورد في رواية اسحاق بن عمار من أن علياً (ع) كان مذّاء وإنه استحى أن يسأل رسول الله (ص) لمكان فاطمة (ع) فأمر المقداد، مقتضى هذه الرواية أن علياً لم يتعرَّف على حكم المسألة إلا بعد زواجه من فاطمة (ع) فيكون من حين بلوغه إلى حين سؤاله للنبي (ص) بواسطة المقداد غير عارف بحكم المذي والحال أنَّ الرواية أفادت أنه كان مذَاءً وذلك يقتضي أن يكون كذلك قبل الزواج، فماذا كان علي (ع) يصنع حين ابتلائه بنزول المذي، فهو أما انْ لا يعتني به ولا يبالي بنزوله أو انه يغتسل وهو يستلزم كثرة الغسل أو يتوضأ أو يطهر الموضع دون أن يغتسل أو يتوضأ.
وكل هذه الفروض ساقطة جزماً، وذلك لان الافتراض الأول لو قبلنا به فمقتضاه أن نقبل على عليٍّ عد المبالات بالدين، لأن نزول المذي يستوجب احتمال أن يكون للشريعة فيه حكم فإذا لم يكن يعلم به فهذا يستوجب السؤال عنه مباشرة أو بالواسطة، فعدم الاعتناء تهاون بلا ريب.
وأما الفروض الثلاثة فيردُ عليها ما أوردناه على بعض روايات العامة فلاحظ، وبذلك يتعين فرض خامس هو أن عليّاً كان يعلم بحكم المذي من حين شرّع الله له حكماً أو على أقلِّ تقدير من حين ابتلائه به. فإما أن يكون قد سأل رسول الله (ص) حينذاك أو يكون رسول الله (ص) هو من بادره ببيان حكم المسألة، وذلك ما ينافي ظاهر رواية اسحاق فيلزم إسقاطها عن الحجية والاعتبار.
وأما رواية محمد بن اسماعيل عن الرضا (ع) فهي كذلك ساقطة الحجيَّة لعين ما ذكرناه في رواية اسحاق بن عمار، فهي وإن لم تذكر أن علياً كان مذّاءً إلا أن مقتضاها أن علياً ظلَّ غير عارف بحكم المذي إلى ما بعد زواجه من فاطمة (ع) وذلك ما لا يصح قبوله جزماً لاستبعاد أن لا يكون قد ابتُلي بنزول المذي ولو لمرةٍ واحدة، فما الذي يمنع علياً حينذاك من سؤاله لرسول الله (ص) إذا لم يكن قد تزوج من فاطمة (ع)، والقبولُ بأنه لم يبالِ قبولٌ بعدم مبالاة عليٍّ (ع) بالدين وافتراض أنه توضأ أو أنه طهر الموضع دون أن يغتسل منافٍ لمقتضى الاحتياط لاحتمال أن الواجب هو الغسل وإذا افترضنا أنه توضأ واغتسل عنه فلم يسأل بعده ولو بالواسطة إلى أن تزوج فذلك ينافي ما هو معلوم بالقطع من حرص عليٍّ على التفقه في الدين، وافتراض أنه لم يبتلِ قبل زواجه بالمذي وإن كان مستبعداً إلا أن افتراض عدم سماعه عنه طوال هذه الفترة الزمنية الطويلة أيضاً يُعزِّز الاستبعاد إلى مستوى القطع بعد العلم بأن علياً كان بين الناس وكان شديد الملازمة لرسول الله (ص) فإذا كان قد سمع عنه وكان شديد الحرص على التفقه في الدين فما هو المبرر لتأخر علمه بحكمه إلى ما بعد زواجه وسؤال المقداد لرسول الله (ص).
هذا كله بقطع النظر عن الروايات الواردة من طرقنا التي تفوق مستوى التواتر بمراتب والتي تحَّدثت عن مقامات الأئمة (ع) فإنه بمجرد الوقوف على هذه الروايات لا يبقى مجالاً لتوهّم عدم مطابقة روايات المذي للواقع، فهي أما أن تكون قد صدرت مجاراة للعامة نظراً لظروف التقية والتي اقتضت في أحيان كثيرة مجاراة العامة فيما يروون أو أنها اختُلقت ودُسَّت في كتب أصحاب الأئمة (ع) وكلٌّ من الاحتمالين له مصاديق كثيرة في الروايات الواردة من طرقنا ويتم تمييزها بمجموعة من الضوابط التي ثبتت حجيتها بالأدلة القطعية عندنا، ومن هذه الضوابط منافاة مدلول ومقتضى روايات الآحاد للروايات القطعية الصدور والتي ثبت صدورها بالتواتر، فلأنَّ روايات المذي والتي هي روايات آحاد منافية لصريح ما دلَّت عليه الروايات المتواترة والقطعية الصدور والتي تصدَّت لبيان مقام الأئمة (ع) لذلك لزم طرحها والبناء على سقوطها عن الحجيَّة. إذ أنها وإن كان بعضها معتبراً سنداً بحسب الضوابط الرجالية إلا أن ذلك لا يصحِّح اعتمادها بعد أن كانت منافية لصريح ما قام الدليل القطعي على ثبوته.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
15 / رجب / 1429