من على أعتاب الألم الجاثم في قلوب العاشقين الدامي بأشواك الاشتياق الهائج في عرين الصدر .. نقف نحني رؤوس الأوجاع ونُصغي لتلك التراتيل التي تقدست في عالم الملكوت ... تلك التي سعى أوغاد البشر لتلويثها بأراذل وخبائث ضمائرهم...ونعزف منها معزوفات الحب لذلك الشامخ بآلامه وآهاته التي ذابت منها عرصات الطف تروي جفاف الفؤاد في ترابها... تلك الأرض البعيدة التي تجسدت فيها أروع الملاحم القربانية ... ملاحم رسمتها أجساد تشرفت بالطهارة وتقدست بالعظمة بما حملت بين جنباتها من أنوار قدسها الرب في علاه وبراها على خلقه فجعل لها الشأن العالي...
وسنملئ من مداد الحب في قلوبنا أقلاماً تروي البطولات الهاشمية التي نشمها عبيراً فردوسياً يعبق بجنان الأرض نرويها بالأسى الحاني عليه ألم القلب ذاك الذي تعذب لمصابهم الفادح فكان هشيماً يتمرغ في منابع تلك الدماء الزاكية من تلك الشواهد المعفرة بحر الصحراء...
مهما مددنا الخط في الأحرف..ومهما مزجنا الآه بالأنة..ومهما صاغت أقلامنا من جُمل المواساة ستبقى المعاناة فوق التصور...وسيبقى الأثر أعظم من أن تطاله الأيام بالمسير فيه...
قد عرفناهم وشحذنا الهمم في ترسيخ معانيهم في أذهاننا حتى تشربت محبتهم والفخر بفعلهم في شرايين والله ما باتت إلا تنبض بآثارهم...وليس فينا محب لا يستطيع التعبير عن محبته لهم بعبرته كان ذلك أو بصرخته التي تشتاق لها النفس رغم الوجع حينما يصيح واحسيناه وازينباه واعباساه..وامظلوماه..
وبرفقة الطفولة البريئة المحروسة بتلك الخبرة الكبير المتمرسة في حب الحسين وقضيته الدامية الخالدة سنمضي في تعفير جبين الحرف بدم القلم لنروي الحكاية من جديد...مع جدتهم العجوز التي شربت حب الحسين من أوفى كاس فلا تظمأ من حبه أبداً!!!
وتعريفاً بأبطالنا الغالين الذين ليسوا بغرباء عنا وليسوا بمخترعين منا بل هم أي طفلٍ وأي عجوزٍ نراها في ملحمة الطف يروونها بعبرتهم وأنتهم ...
زينب وحُسين : في عمر الثانية عشرة..توأم..شقيقان من اب وأم واحدة...
عباس: في عمر التاسعة .. أخيهم غير الشقيق من أبيهم فقط..
الجدة: أم عليّ...بعمر الستين..حبيبة للقلب..حنونة الفؤاد...ربيبة أحضان العشق المحمدي..ترعى ايتام ولدها (( حُسين وزينب )) بأحسن التربية تراعي الله فيهم وفي إحتضان طفولتهم ليكونوا كما هي حينما زُرعت في تربة صالحة للزراعة البشرية...وأهم ما في تربيتها أنها تضم عباساً حفيدها الأصغر فلا تفرق بين الأخوة في التربية... حتى شبّ الثلاثة نفساً واحدة...
ولكن هل يخلوا الأمر من سقطات يلتقطها الطفل من هنا وهناك... فتترك أثراً ربما..فتُزعج من حوله وتسبب له المضايقة...
وهذا ما حدث...
فبينما كانت الجدة في محراب صلاتها تناجي الرب سبحانه تبتهل وتدعو..لها لأهلها ..لجيرانها ..وللمسلين بالفرج والرحمة..سمعت صرخة تدوي بالغضب من فم الصغيرة زينب ..تعلوا فتعلو..دون أن تفقه ما تردد الصغيرة..سجدت لربها تشكره وأطالت سجودها ولكن قلبها انجذب لتلك الصرخات واندهشت منها..تنستنكر من صغيرتها هذا الصراخ الذي لم تعتد عليه..فقررت الخروج من محرابها وفي القلب لهفة لمعانقته من جديد...مشت حتى الباب وقبل أن تفتحته كانت تسمع زينب تقول في صوتٍ متشنج مغبون النبرات:
_ والله لأشكوكم لجدتي.. والله والله لا تكلموني بعد اليوم.. ها أنا أذهب إليها وأُخبرها.. والله لا ينطق لساني بألسنتكم فلا تنادوني أُخية أبد.. وإني لأشكوكم وبالأخص حُسيناً أشكوه لأمي وأنا اليتيمة منها...
ثم تُجهش بالبكاء..تُنادي بعبرتها التي أنفطر لها قلب جدتها:
_ يا جدة..أفتحي لي الباب...والله لقد جرحوني وآلموني ... قاسية قلوبهم ..غليظة أفئدتهم أنا اليتيمة جرحوا شعوري..ياجدتاه أين أنتِ...
وكان من خلفها شابين صغيرين يافعين..يحاولان استمالتها عن عزمها ..وقد بهت اللون في وجهيهما وغابت النضرة منهما لخوف هب هبوب الريح المخيفة في قلبيهما الصغيرين...
لم تحتمل الجدة أنين اليتيمة أكثر ففتحت الباب بمصراعيه تسبقها ذراعيها لاحتضان الصغيرة تلويهما عليها بحنان تحدج الشابين بنظرة غضب ما أعتادوها منها تصيح بهما:
_ ماذا حدث يا جدتي ما بكِ لما كل هذا الوجع في كلماتكِ..ماذا جرى..حُسين أأتبكي أختك زينب وأنت خلفها والخوف يعلو وجهك..لابد أن الأمر أكبر من صرختها..
حاول الفتى أن ينطق..فسبقته زينب بشهقاتها تقول:
_ جرحاني بفعلهما وقولهما..لقد آلاماني بشدة..جعلاني أشعر بالحسرة واليتم الحقيقي من أمي..
_ حرامٌ عليكِ يا زينب أن تجمعي بالقول بيني وبين حُسين..فهو الذي تعرض لكِ بالقول ولستُ أنا...
دافع أصغر الشابين سناً وإن فارقه بالطول قليلاً عن نفسه وموقفه وهو عباس ...نظرت إليه زينب في حزن تقول بعتاب الأخوة:
_ لكنك وقفت صامتاً إزاء قوله ولم تفعل شيء..لا بل لم تحرك ساكناً..فكيف رضيت بأن يجري علي ما جرى..أهذا ترجمان حُبك لي؟؟ أهذه هي الأخوة...
_ وكيف تريدين مني أن أفعل وهو الكبير..خشيتُ أن أهضمه حقه ... بل خجلتُ أن يكون لي ردة فعلٍ وأنا تعودتُ احترامه بكل الأحوال..فهو أخي الكبير..
ونكس الصبي رأسه كما فعل الشاب الأكبر حُسين...
هنا ورغم أن الجدة لم تستشف تماماً أساس الحدث بين الأحفاد والذي أدى بالحال عند زينب للبكاء والحزن لكنها أيقنت أن المشكلة كبيرة بنظر زينب وتستدعي تدخلها...فخاطبت حُسيناً قائلة..
_ يا حُسين.. مالي أراك لا تنطق..أسمعني صوتك حبيبي..ما الذي صدر منك فأحزن شقيقتك وكاتمة سرك وتوأمك عزيزي؟؟ ماذا يمكن أن يكون قد سقط منك سهواً في حديثك فأفاض بعبرتها..
وحين لم يرفع الصبي راسه والفتاة تتنهد ترمق أخاها بنظرات ملؤها العتاب ... دنى عباس من جدته..يلمس أطراف ثوبها الأبيض..قال:
_ يا جده إن الذي جرى.......
_ ومال حُسين لا يتكلم...أصمت يا عباس أريد أن أسمع الحدث من فم أخيك..
اشاحت الجدة بيدها علامة لسكوت الصبي عباس فالتزم الصمت...ودنت هي من الحفيد حُسين..لمست كتفه وزينب تتخطى حواجب الثوب لتندس بين اردافه..تستشعر الدفء حيث هي..قالت الجدة بنبرة فيها من الأمر الشيء الكثير جعلت رأس حُسين يرتفع لتظهر خلف أحداقه نظرة اسف:
_ حُسين حبيبي.. لا يُعجزك النطق..فأسمعني صوتك حالاً...ماذا جرى بينكما؟؟
تنهد ليقول يُداري نظرته عن عيون أخته:
_ كل ما في الأمر يا جدتاه أنني أخبرتُ زينب بعزمي على المضي بالأسبوع القادم للمبيت مع الرفاق في مضارب التخييم الصيفي ضمن حملة النادي الرياضي ..فأزعجها ذلك كون أن ذهابنا سيكون مع بداية اول ايام محرم الحرام..وأنا قد وعدتها وأبي أن أُشارك في مواكب العزاء لهذا العام... وحين نهرتني غاضبة صحتُ بها أن ذلك لا شأن لها به وأنه غير مخول لها التدخل فيه وأنني حر التصرف بوقتي ... فزادت بعنادها ورفعت صوتها فرفعتُ صوتي..وكان أن خرجت مني كلمة نابية للأسف فجرح ذلك شعورها...
وعاد حُسين ينكس رأسه..تبسمت الجدة..لثمت جبين الطفلة..داعبت خد الصغير عباس برفق وحنان..ثم ألوت ذرعاها على كتف الشاب حُسين..وهتفت:
- هو كذلك والله يا جدة...إنما الغصب قد دفعني لذلك وليس القصد بالنية في جرحها..
_ وزينب تعلم يقيناً ان هذا هو واقع الأمر ولعل لها تفسيراً آخر لصراخها وعويلها ..أليس كذلك صغيرتي؟؟
اشاحت زينب بوجهها عن أخويها..غمرته بصدر الجدة..قالت:
_ لقد وعدنا والآن يخلف وعده.. لم يعدني وحدي..بل وعد ابي..بل هو وعد الإمام الحسين بالمشاركة في تنظيم الموكب العزائي..والآن يغير رأيه بعد أن عقد العزم..ليمضي للهو واللعب..
_ ليس للهو واللعب...بل سنجتمع هناك لنحيي الواقعة بما نستطيع..
قال حُسين وهو يدنو من أخته..وأردف يربت على كتفها في تودد :
_ والله ليس للعب..ولعلمكِ أنني حدثتُ ابي وقال أنه تارك الأمر لي..وثقته هذه هي من شجعتني على تغيير رأي..
_ ولكن المأتم أحق أن تمضي فيه وقتك..وهو أولى..بدل أن تضيع صيحاتكم هاتفين ياحسين في البراري تعالوا أهتفوا في صدر المأتم وفي المواكب ليكون الألم أبلغ في وصوله...
هتفت الجدة بكل هدوء..ثم ضمت الأطفال الثلاثة إليها..وأعقبت..توزع قبلاتها بعدل محبتها على رؤسهم...
_ يا حُسين...إني أرجو منك الإعتذار من رفاقك عن الذهاب معهم لتمضي أيام عاشوراء بيننا..فغياب أبيك يحتاج لمن يملئ فراغه..وأنت تعلم أن المأتم الحُسيني لم يُجهز بعد لأستقبال المعزين...وقد وعدتُ النسوة بأن ترافقني غداً بدلاً من ابيك لتساعدهن في تعليق السواد ... وهذا له ثواب عظيم بُني .. فما رأيك؟
_ وهل يكون لي رأي بعد رأيكِ جدتي..كما تشائين..(( وتبسم قانعاً ))
_ حسناً جداً...والآن يا زينب...أرضيتِ..
_ طبعاً يا جدة..فأخي لين يغيب عنا في براري تلك المناطق البعيدة وسيشاركنا العزاء وهذا يثلج الصدر..فأنا سأستوحش غيابه سيما أنني كنتُ أنتظر يوم قدوم محرم لأفتخر بأخي وهو يزف العرس الكربلائي بصوته الشجي...
نكس الصبي حُسين رأسه خجلاً وقد توردت وجنتاه وعباس يداعبه بالهمسات...فضحكت الجدة وتنهدت بارتياح تقول:
_ حسناً إذاً..ما دامت النفوس راضية والمشكلة حُلت عودوا لغرفكم...أراكم بعد قليل فلدي حديث طويل معكم...
تقدمت زينب وتبعها الشابين الصغيرين..تزفهم نظرات الجدة في حنان كبير...
بعد أن تفرغت الجدة من صلاتها وتهجدها...طوت مصلاها وغادرت غرفتها إلى حيث تناهي إلى سمعها أصوات أحفادها يتحدثون والمرح يغلف أجواءهم..دنت من باب الغرفة حيث هم جلوس فيها..وقبل أن تدخل سمعت زينب تقول في شيء من الإعتزاز بالنفس والفخر:
_ أتعلمون يا أخوتي الأعزاء أننا مباركون ..فلنا اسماء عظيمة دوماً حدثتنا عنها جدتي..
_ هو كذلك يا زينب.. فلكل أسم منا تقديسه وتعظيمه..وبالأخص أسم حُسين..
قال حُسيناً ذلك..وكأنما أستشعر عباس غروراً طفولياً بكلمات أخيه فغمزه يقول بمداعبة أخوية:
_ أتمدح الأسم لأنك سُميت به أم لما له من مكانة كما تقولان ...
فأجابه حُسين بثبات مسدداً لذراع أخيه لكمة خفيفة تعبره عن تبرمه من قوله:
_ رحم الله أمرءٍ عرف قدر نفسه لستُ أمتدح الأسم لأني سُميت به بل لمكانته عند الله...أتعلم أن اسم حُسين له تقديسه وتبجيله عند الله كما للقرآن تماماً...
_ كيف ذلك؟؟
سأل عباس..فقالت زينب وهي تنتقل للجلوس بجواره:
_ دعني أُجيب على هذا السؤال يا أخي حُسين...أسمع يا عباس..إن القرآن له حرمته وقدسيته ومكانته أليس كذلك؟؟(( وهز عباس رأسه يُصغي في اهتمام )) فلا يجوز أن نلمس القرآن على غير طهارة الله لا يرضى بذلك فالقرآن طاهر مطهر..وكذلك أسم حُسين لا يجوز أن نكتبه ونلمسه بغير طهارة أو نرميه وندوسه أو نحقر من شأنه ....
_ والقرآن حين يُقرأ يكون ذلك بمنهاج معين فيرتل ويُتلى وله قوانين وضوابط في القراءة تترك الأثر في النفس وتجذب الروح إليه...(( قال حُسين وأردف يتابع )) وكذلك أسم حُسين لو رددته تباعاً وتكراراً ستجد الروح تنجذب إليه بحلاوة مافي لفظه وهذا سر محبتنا لصرختنا يا حُسين وواحسيناه...أليس كذلك زينب...
_ نعم صدقت حبيبي هو كذلك...والأمر الآخر في تشبيه الاسم بالقرآن ..هو أن القرآن له تصور خاص بالفهم والعقل فحين نتكلم عنه ونذكره فإننا نتصور بذلك دستوراً وشريعة ربانية أُنزلت علينا من الله ولهذا الدستور مكانته وحرمته وهو المحافظة عليه بالعمل بما جاء فيه..كذلك أسم حُسين فحين نذكره نتذكر الإنسان الحي في قلوبنا إمامنا الحُسين ونتذكر ما قدمه لنا من تضحيات في حربه مع الكفر والكفار وحين نذكره يتوجب علينا أن نعمل بما تحثنا عليه قلوبنا فنستعبر ونتألم ونبكي لما اصابه...مارأيك يا حُسين بجوابي؟؟
_ أحسنتِ أُختي العزيزة....وأتذكر أيضاً ان والدي قال ذات مرة أن هناك شبه بين القرآن واسم حُسين من حيث المنزلة الرفيعة فالقرآن ليس مجرد حروف وتعاليم بل هو أبعد من ذلك عند الله مكانة ربما نعجز عن فهمها تماماً..كذلك الإمام الحُسين فهو له مكانة عالية المقام عند الله فقد قيل أن أمر الآخرة أُعطي للحُسين تكريماً وتشريفاً لما قدمه وضحى به...هل فهمت يا عباس واستوعبت..
_ نعم نعم...فهمتُ وأستوعبت..اشكركما كثيراً..
قال عباس وصمت قليلاً كأنه يسترجع شيء ما...ثم وحين تذكر صاح يقول..والجدة لا تزال بالخارج تستمع وفي القلب فرحة وغبطة لهذا الحوار الحُسيني الذي أثلج صدرها...
_ نعم لقد تذكرت.. أتعلمون شيئاً.. قبل يومين كنتُ عائداً من البقالة وقد أرسلتني أمي لأشتري بعض الحاجيات للمطبخ..وصادفتُ في طريق عودتي للمنزل رجلاً مسناً..قد سقط على الأرض ساعدته بالنهوض وأمسكتُ بيده حتى أوصلته لداره وفي الطريق سألني عن أسمي..فأخبرته..فقال ونعِم الأسماء فهو البطل الضرغام..ساقي العطاشى..ثم سألني إن كان لي أخوة فأخبرته باسمك يا حُسين وأسمكِ يا زينب..فما رأيت إلا دموعاً تخر على وجناته ثم رفع طرفه للسماء وناد...أيا زينب من لكِ من بعد الحُسين وعضيده..وأخذتني هيبة ورهبة ولم أسأله شيئاً عما قال..وحينما أوصلته لداره ألتفت إلي يشكرني ثم قال: لا تترك أختك في عرصات الحياة دون والي إياك بني كن أحرص عليها من الأم الرؤوف الحنون...بارك الله لكم فيها..
وأردتُ ان اساله لكنني ترددتُ وإلى الآن لستُ أدري معنى كلامه ولكن هل لذك علاقة بما ذكرتم....
_ لعل أسماءنا ذكرته بالأبطال الثلاثة..أنسيت يا عباس أننا سُمينا بأسماء أبناء علي بن أبي طالب عليه السلام.. عباس وحُسيناً وزينب..ولابد أن الأسماء أثارت شجون حبه لأهل البيت عليهم السلام ...
وحين صمت تلتقط أنفاسها..دخلت الجدة تقول وابتسامتها تلونت بعبرة أسترجعتها من ألم الذاكرة.....قالت:
_ أحسنتِ غاليتي ..بارك الله فيكِ.. أحسنتم أثلجتم صدري..طيب الله أنفاسكم...
نعم يا عباس يا ولدي الحبيب..وهل نجد خيراً من هذه الأسماء ...وما حوت..وما نثرت من عبيرها شذاً في أرجاء هذه الدنيا الفانية..إنهم الأسماء القدسية التي زينت بروج الحياة وسمواتها..
_ وماذا فعلوا ليستحقوا كل هذا جدتي؟؟ سأل عباس في دهشة وبرغبة في الاستزاده...
_ عباس واخجلي ألا تعلم؟؟
نهر حُسيناً أخاه..فخجل الأخير ونكس رأسه..فدنت الجدة تقول:
_ ليس عيباً أن لا يعلم..العيب لو ظل صامتاً لم يسأل كما فعل مع الرجل المسن فلوا سأله لأجابه بالشيء الكثير..عن تلك الحكاية التي لاتزال تُروى من أكثر من ألف عام..
_ وماذا يُحكى بتلك الحكاية جدتي..
_ يُحكى يا عباس..ان الذي سُميت باسمه كان رمزاً للإباء للإيثار..للتضحية الفدائية العملاقة..
_ حقاً..وهل هذا معناه أنني كما سُميتُ باسمه سأكون مثله..
_ لما لا يا صغيري..كُلنا نكون مثله لو مضينا كما مضى روحي فداه..أتعلمون ماذا يُحكى في حكايته...
فقال الأطفال بصوت واحد...تجذبهم الجدة إلى حديثها بأسلوبها الشيق الذي أعتادوه منها..
_ ماذا يُحكى يا جدة...
_ يُحكى الألم..الأسى..والذبح والتشريد..يُحكى أن حُسيناً رفض أن يمد يده لتلك الأيادي الآثمة..التي علت وتشامخت بفسقها وغرورها لتقضي على دين جده...ولمجرد أنه رفض البيعة ووضع يده بأيديهم...دفع الثمن غالياً باهضاً..ذُبح من وريديه..بعبرته..هناك في تلك الناحية البعيدة....قُتل وشُردت عياله..في مسيرة بطولية ما سبقها أعظم منها...
وتنهدت الجدة...وعبرة سبقت آهاتها تزفرها بحرارتها تتذكر سنوات الحزن والبكاء على ذاك المرمل بدمه في عرصات كربلاء...لمس الأطفال حرارة أنفاسها وقد اشفقوا على دمعتها..
عانقها عباس يقول:
يقول الراوي يا أولادي الصغار..في سجلات التاريخ..كما حدث في تلك الأيام...
أن حكاية الإمام الحسين "عليه السلام" بدات بين سطور حكاية أهل البيت ومنها رفض فقد ظل ملتزماً ببيعة معاوية إلى آخر يوم من حياة هذا الفاجر اللعين ، ورفض الإمام روحي فداه عرضاً من شيعة الكوفة بعد وفاة الإمام الحسن سلام الله عليه ...بأن يبايعوه لينصروه..فما كان إلا الخذلان منهم وا أسفي ولهفي على الإمامي من خذلانهم ونكثهم...
الي سكنه القلب لك يا إمامي بألف فدوه إلك وكانت غارقة فى دموعنا ليال طوال، لأجلك يابدر السما بالثورة على معاوية ، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له أن ينقضه ، ولم يدع إلى نفسه إلا بعد وفاة معاوية الذي خالف اتفاقية الصلح وعهد إلى ابنه يزيد اللاعب بالقردة والخازير شارب الخمر وفاعل المنكر بالخلافة بعده ، فرفض الإمام الحسين البيعة له ، وأصرّ على الخروج إلى العراق حيث استشهد في كربلاء عام 61 للهجرة وجرى ما جرى عليهم في تلك البوادي النائية..
ولا توجد أية آثار لنظرية النص في قصة كربلاء ، سواء في رسائل شيعة الكوفة إلى الإمام الحسين ودعوته للقدوم عليهم أو في رسائل الإمام الحسين لهم ، حيث يقول المفيد: إنّ الشيعة اجتمعت بالكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي فذكر هلاك معاوية . فحمدوا الله وأثنوا عليه ، فقال سليمان بن صرد: إنّ معاوية قد هلك وإنّ حسيناً قد تقبض على القوم ببيعة ، وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدوا عدوه وتُقتل أنفسنا دونه فاكتبوا إليه واعلموه ، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه ، قالوا: لا بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه ، قال: فاكتبوا إليه ، فكتبوا إليه:
للحسين بن علي ، من سليمان بن صرد والمسيب بن نجية ورفاعة بن شداد البجلي وحبيب بن مظاهر وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة : سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ... أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمر عليها بغير رضى منها ثم قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود. إنه ليس علينا إمام ، فاقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله.
فكتب إليهم ( من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين ... أما بعد فإنّ هانياً وسعيداً قدما علي بكتبكم ، وكان آخر من قدم علي من رسلكم ، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم ومقالة : ( أنه ليس علينا إمام فأقبل لهل الله أن يجمعنا بك على الحق والهدى ) وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل ، فإن كتب إلي أنّ قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم ، وقرأت في كتبكم فإني أقدم إليكم وشيكاً إن شاء الله ، فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الداين بدين الحق ، الحابس نفسه على ذات الله ، والسلام.
إذن فإنّ مفهوم ( الإمام ) عند الإمام الحسين لم يكن إلا ( الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الداين بدين الحق الحابس نفسه على ذات الله ) ولم يكن يقدم أية نظرية حول ( الإمام المعصوم المعين من قبل الله ) ولم يكن يطالب بالخلافة كحق شخصي له لأنه ابن الإمام علي أو أنه معيّن من قبل الله ، ولذلك فإنه لم يفكر بنقل ( الإمامة ) إلى أحد من ولده ، ولم يوص إلى ابنه الوحيد الذي ظل على قيد الحياة (علي بن زين العابدين) ، وإنما أوصى إلى أخته زينب أو ابنته فاطمة ، وكانت وصيته عادية جداً تتعلق بأموره الخاصة ، ولا تتحدث أبداً عن موضوع الإمامة والخلافة.
روحي فداك سيدي..رفضت البيعة للظلم وأبيت الحرب والقتال والخروج في طاعة الله ليكون جسدك الشريف..وقلذات أكبادك ..أطفالك..عيالك..قرابين تقدمها لله في محراب عبادتك السامية...شمخت وتعاليت بقدس أفعالك..أرادوا ببيعتهم ونكثهم وظلهم أن يطفئوا نورك سيدي..أن يغتالوا الأمل ويذبحوا النور في مشكاته..ولكن يأبى الله وقد ابى أن ينطفئ نوره...فمضوا خاسئين خاسرين مدحورين لا غاية لهم ولا أمل..وفنوا من الدنيا وبقيت سيدي..علماً شامخاً..رفضت البيعة لهم..فكتبت بذلك أعظم وأروع ملحمة..
يا نفـس مـن بعـد الحسيـن هونـي فبعده لا كنتِ أو تكوني
هــذا حـسـيـن وارد الـمـنـون وتشربيـن بـارد لمعيـنِ
_ عباس .. يا عباس..أما تسمعني..عباس..إني أُناديك منذ لحظات...يا عباس...
وأنتفض الصبي الصغير في جلسته حيث أستقر به المقام عند إحد نوافذ الغرفة المطلة على الحديقة عندما لمست أخته كتفه كأنه نائم مستغرق في سباته....نظر بتيه لأخته زينب التي غدت تناديه مرة أُخرى:
_ ما بك حبيبي..أُناديك منذ برهة وأنت شارد الذهن..خيراً مالي أرى وجهك مصفراً..أأنت مريض يا عباس..أجبني...
ومدت يدها الصغيرة بنعومتها ورقتها تتحسس جبينه..وجدته يتصبب عرقاً ..وفيه ارتجاف خفيف..فأوجست خيفة وبدى عليها القلق...سيما أن الطفل لا يُجيبها..فهرولت مسرعة تجري تُنادي جدتها وأخيها حُسين قائلة في فزع:
_ يا جدة..يا حُسين..جدتاه..تعالي مسرعة..إن عباس قد تغيرت أحوال صحته وأظنه مريضاً..
بينما عاد الطفل عباس ليستقر مكانه ويُسند خده على كفه عند حافة النافذة وعيناه تتوهان في فضاء هذا النهار والشمس قد لوحت صباحهم بإشراقة جميلة...
وجاءت الجدة على أثر الصوت العالي وقد سبقتها زينب وحُسين يتفقدان عباساً وقد بدى لهم مهموماً على غير عادته من المرح واللعب والضحك الذي لا ينقطع وتيره من البيت...دنت الجدة منه..تحسست بحنانها جبينه..مالت عليه بصدرها..ضمته ثم قالت تسأله تنظر في وجهه:
_ بُني حبيبي..ما بك..مما تشكو؟؟ ما الذي يُوجع طفلي الصغير..(( ثم وجهت حديثها لحُسيناً تُردف)) حُسين إذهب إلى زوجة أبيك وأخبرها أن تعود من المأتم بسرعة لنأخذ أخيك للمستشفى ..ولكن لا تُخبرها بمرضه فتُفزعها فقط أطلب منها الحضور..
_ حاضر يا جدة بأمركِ..رافقيني يا زينب..
_ لا..لا تذهبي..أخافُ عليكِ...لا داعي لاستدعاء والدتي..
صاح عباس ينتفض بين ذراعي جدته...اندهش الجميع من ردة فعله..وهو يُعقب في خوف ظاهر في عينيه:
_ لستُ مريضاَ ..إني على ما يرام.. ولكنني أفكر في حيرة من أمري..وقد شغلت زينب كل تفكيري..
_ أنا؟؟!! ولما؟؟ فيما تُفكر يا عباس؟؟
نظر الصغير في عيني أخته..ثم أدارها نحو جدته..وملامحه تنطق بما في قلبه من جزع..أمسك بيدي جدته بين كفيه وسألها:
_ يا جدة منذ حدثتني بحديث الإمام الحسين وأنا لا تفارق مخيلتي مقولة ذلك الرجل المسن...وبين برهة وأخرى اتصور أختي تتعرض للمشاكل وأنا لا أقدر على الدفاع عنها...
وأنهمرت دموعه..بكى الصغير بحرارة..فضمته جدته لصدرها ..وأخويه أنتابتهما دهشة كبيرة...تبسمت الجدة..لثمت تلك الدموع ...تمسح الرأس وتُدني الطفل منها حتى تنهد بارتياح كأن هماً أُزيل من على أكتافه...
_ بُني..ما الذي يدور في رأسك من أفكار؟؟ أتظن أن الحُسين وأخيه العباس قد تهاونا وتقاعسى عن حماية أختهما زينب؟؟
_ ربما لم يكن تهاونا ولكن ربما أُجبرا..إني خائف يا جدة...قد سُيمنا باسماءهم فهل لو تمسكنا بفعلهم وسلوكهم سيجري علينا ما يشبه الذي جرى عليهم..أخاف أن تتعرض أختي للأذى..
_ بُني..ليس في الأمر ما يدعو للخوف وتفكيرك هذا لا يروق لي..فأنت تنظر للأمر بطريقة غير صحيحة....هيا حبيبي تنفس عميقاً وتعال معي..لدينا حديث طويل..هيا والدتك تنتظرنا بالمأتم والنسوة كذلك..سنتعاون اليوم في تركيب السواد فالمأتم اليوم سيرتدي حلته السوداء ليستقبل المحرم الحرام.. وهناك سنتابع حديثنا..
_ حسناً..ولكن بشرط..أن أكون مع زينب اينما تذهب فلا نتركها تخرج وحدها ونتناوب أنا وحُسيناً على رعايتها...فهي أختنا الوحيدة والحبيبة...
صاح عباس وفي عينية نظرة خجل طفولي تلونت به وجناته..قهقهت الجدة تلثم جبينه وزينب تضمه لصدرها وحُسيناً يداعب شعر رأسه.. قالت زينب تهمس له:
_ أُحبك يا أخي الصغير وأقدر خوفك..ولكن لا داعي لكل ما تفكر به..
_ حسناً يا أحفادي الأعزاء لننطلق نحو المأتم..فبي شوقٌ عظيم لشم عبير مولانا حُسين منه..
_ وأنا أيضاً بي شوق كبير يا جدة لرؤية المأتم كأني لم أره منذ أعوام برغم أني كنت فيه بالأمس برفقة والدتي...
_ كُلنا مشتاقون يا عباس..ولكن أعتقد أن الشوق لزيارته في مرقده أشد وأعظم أليس كذلك جدتي..
_ إيه والله هو كذلك بُنية هو كذلك لهفي على تقبيل الضريح.لهقي عليه متى نعود للوقوف بين يديه....
وتعالت بعد ذلك آهات الجدة تعزفها نغمات أنينها والتي لم تهجع حتى وصلوا المأتم النسائي حيث النسوة يعملن على خدمة المأتم وتجهيزه ليام عاشوراء الحزينة...
في لهفة واشتياق أقبلت الجدة العجوز تتكأ على عكازها قد توشحت بسوادٍ عليه هالة من إيمانها..قد نوّر صفحة وجهها..وعلى يمينها مشت الصغيرة زينب لا تقل روعة عنها بلباسها ...وقد تخمرت وتقنعت وأرتدت لباس جدتها تشمخ براسها وتلك الشفاه في محاسنها قد اشرقت ببسمة حلوة طابت لمن رآها..وعلى شمالها تواترت خطوات حفيدها حُسيناً يمشي بهمة الرجال رافعاً رأسه ينظر تجاه القبة الذهبية التي علت رأس المأتم الشريف..وبين يديها غدت خطوات عباس بطفوليتها وبراءتها تتقافز يمنة ويسرة وهو يثرثر بسعادة كأنه مقبلٌ على روضة يمرح بين جنباتها وليس مأتماً تدق فيه طقوس الأسى والحزن العميق...
وبعد أن اجتازوا البوابة الرئيسية المحيطة بسورها المأتم الحُسيني توقفوا أمام الباب الكبير والذي كان مفتوحاً على مصراعيه..يرى الناظر منه إلى فضاء رحب واسع تجول وتصول العين فيه...دنوا من الباب..وقفوا..يسلمون..بصمتٍ أطبق على الفؤاد وهو ينحني بين اضلاعهم في رهبة وهيبة...وتلك المشاهد التي تجسد بأرض الطفوف ورسمتها ايادي المبدعين عُلقت شواهد على الجدران..تُلهب النفس بآهاتها..وتُجري الدمع محبوساً باختناقاتها...
هتفت الجدة:
_ السلام عليك يا ابا عبدالله الحُسين ورحمة الله وبركاته....
حين ذلك همس الصبي عباس بين يديه:
_ يا جدة على من تسلمين..وهل يسمعك مولانا الحُسين..وهو في أرض العراق...
_ نعم يسمعنا.ويرد السلام..
_ حقاً يا جدة..وهل.......
_ أهلاً وسهلاً بالعمة أم عليّ..أهلاً ومرحبا...
صوت والدة عباس وهو يخترق جموع النسوة مقتربة من والدة زوجها والأحفاد قطع على عباس الطريق لطرح تساؤلاً آخر..ظهرت الخيبة على وجهه..دنت منه أخته زينب وقالت تهمس له:
_ لا تكن لجوجاً أصبر قليلاً..حالما يستقر بالجدة المقام وتلتقط أنفاسها ستُحدثنا بكل ما نريد معرفته فقط اصبر..
وجاء النحيب..
من بين يدي المنبر الشامخ..
وقفت الجدة..تعتصرها أنة ما فتأت تجرح القلب المحب...
نادت بأسى..وبلوعة أغرورقت منها عيون الأطفال وحركت شجون النساء...
نادت الزهراء ..تتألم...
أفاطم لو خلتِ الحُسين مجدلاً وقد مات عطشاناً بشط فراتِ
إذا للطمت الخد فاطم عنده* وأجريت دمع العين في الوجنات
أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي* نجوم سماوات بأرض فلات
قبور بكوفان واخرى بطيبة* واخرى بفخ نالها صلواتي
ومن زواية ما..أنطلقت تلك الصيحة تدوي..فصرعت على أثرها كل صبرٍ..
فبكت النساء والصيحة تعلو..أي وا إماماه..وا حُسيناه..أي وا سيداه...
وتحولت تلك اللحظات لنوحٍ وبكاء وأسى ولوعات..
بكت النسوة يخفين وجوههن..يلطمن صدورهن..يتزفرن لوعاجهن...وينادين بعالي الصوت أي حُسين أبكيت عيوننا..
_ حسناً والآن هل من مجيب على سؤال..فلا زال الخوف يعشعش بصدري..والله إني صادقٌ في دعواي ..
ردد عباس ذلك في حُزن كبير..فأدنته الجدة منها..وعينيها تلاحقان حُسيناً حفيدها يتبع زوج أبيه التي يحترمها ويُجلها يعينها في خدمة النساء وإلباس المأتم كسوته السوداء...
_ عباس..أترى أخيك كيف يُساعد والدتك..لما لا تقوم لمشاركته ذلك...فأمك...
قاطع الطفل جدته في إصرار يخفض صوته:
- ولكن يا جدة هل ستتركيني في حيرتي..وعدتني بالحديث الذي يشفي غليلي ويريحني..فإن لم تفعلي تركتُ المأتم وما عدتُ إليه..لا بل سأشكوك للحُسين..
_ عيبٌ عليك يا عباس أن تُحدث الجدة بهذه اللهجة المغضبة...
قالت زينب تنهر أخاها..فأسكتتها الجدة بإشارة من يدها وأعقبت..
_ لا بأس دعيه يعبر عما في خاطره لستُ أمنعه قول رأيه..ومعه حق أني وعدته..وأنا عند وعدي..ولكن وجودي هاهنا قد هيج الحزن بصدري..وأعادني لتلك الحوادث الجُسام والخطوب العظيمة وتداخلت الأفكار في رأسي..ولعلي بهذا أهضمه حقه في الجواب فأردتُ بصرفه أن أُؤجل الحديث لوقتٍ آخر..
وأتخذت برهة من الصمت لعل عباساً يغير رأيه فوجدته ينظر إليها بإصرارٍ على موقفه..فمسحت على شعره وقالت:
_ لا بأس حبيبي لك ما شئت ..ولكن لن أُجيبك على تساؤلاتك وما حدثتنا به في المنزل قبل أن أُتم لكم الحِكاية التي بدأناها بالأمس..فذكرني بآخر نقطة وصلنا إليها..
فرِح الصبي..واعتدل في جلوسه ثم قال:
_ كان آخر ما حدثتنا به هو رفض الإمام الحُسين للبيعه ثم خروجه من المدينة لمكة الشريفة وهناك أخبرتنا أنه لن يُكمل حجه وسوف يتوجه في الثامن من ذي الحجة إلى العراق...بعد إن يُحل إحرامه بيوم التروية وسيجمع عياله وأهله ويتوجه بهم إلى حيث يُقتلون...
وسكت الصبي وقد علت جبينه تقطيبة كبيرة...نظر إلى أخته يستفهم منها بغير كلام..ثم نظرة مرة أخرى لجدته والحيرة تعلو وجهه..فسألته:
_ ما بك..كأن على أطراف شفاهك سؤال..سل ماذا تريد أ، تقول؟؟
_ يا جدة..إذا كان الحُسين ذاهباً للحرب..فلما أخذ معه الأطفال والنساء لما لم يتركهم في بيوتهم آمنين؟؟
_ سؤال فجيع ويحتاج للقوة والصبر للإجابة..ولكن أختصرها لك قبل البدء في حديث خروج مولانا وتفصيله بأن الحُسين سأُل عن ذلك فأجاب..شاء الله أن يراني قتيلاً..وشاء الله أن يراهم سبايا..فتلك مشيئة الله وحكمته..وبالأيام القادمة إن شاءالله أُفصل لكم معنى ذلك..
_ حسناً جدتي..والآن فلتصمت يا عباس ولتدع سؤالاتك لحين انتهاء الجدة من حديثها..(( قالت زينب..واردفت )) فلتبدئي الحديث جدة..أروي لنا كيف خرج الحُسين من مكة ...
_ آه..(( تنهدت الجدة وفي أسماعها ترن تلك التأوهات الحزينة الآتية من طف الأحزان..وتذكرت باي حالٍ خرج الإمام خائفاً كما خرج موسى خائفاً يتلفتُ ))
عندما نحاول أن نقف متأملين في القضية الحسينية، فإن علينا، بدايتة ً، أن نحدد صورة الإمام الحسين (ع) في وعينا الإسلامي .. فإذا أردنا أن نفهم الإمام الحسين (ع) جيداً، ينبغي أن لا نفهمه في كربلاء فحسب بل يجب ان نفهمه ونفهم حياته التي ظلت مذكوره في كل قلب مسلم ومسلمه ..
وهذه ذكرى من سيرة الإمام الحسين "عليه السلام" إلى العراق.. لنرويها لكم والقلب يتمزق برحيلك ياسيدي..
على الكثير من الرسائل التي ارسلها أهل الكوفة إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) عندما كان في مكة المكرمة ، جعل( عليه السلام ) أن يُرسِل مندوباً عنه إلى الكوفة .
فوقع الاختيار على ابن عمه مُسلم بن عقيل ( عليه السلام ) ، لتوفر مستلزمات التمثيل والقيادة به .
ومنذ وصوله إلى الكوفة راحَ يجمع الأنصار ، ويأخذ البَيعة للإمام الحسين ( عليه السلام ) ، ويوضِّح أهداف الحركة الحسينية ، ويشرح أهداف الثورة لزعماء الكوفة ورجالاتها .
فأعلَنَت ولاءَها للإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وعلى أثر تلك الأجواء المشحونة ، كتب مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين ( عليهما السلام ) يَحثُّه بالمسير والقدوم إلى الكوفة .
فتسلَّم الإمام الحسين ( عليه السلام ) رسالة مسلم بن عقيل وتقريره ، عن الأوضاع والظروف السياسية ، واتجاه الرأي العام .
فقرر الإمام ( عليه السلام ) التوجُّه إلى العراق ، وذلك في اليوم الثامن من ذي الحجة ( يوم التروية ) ، في سنة ( 60 هـ ) .
ويعني ذلك أنَّ الإمام ( عليه السلام ) لم يُكمِل حَجَّه بِسببِ خُطورَةِ الموقف ، لِيُمارس تكليفه الشرعي في الإمامة والقيادة .
فجمع الإمام الحسين ( عليه السلام ) نساءه ، وأطفاله ، وأبناءه ، وأخوته ، وأبناء أخيه ، وأبناء عُمومَته ، وشدَّ ( عليه السلام ) الرحَال ، وقرَّر الخروج من مكة المكرَّمة .فشب نار الحزن والضجر في قلوب أهل الإمام الحسين "عليه السلام " وكسوا ثوب الحداد وجرى الدمع في الخدود واقيم الحزن عليهم بعلمهم للمصير ..
فلما سرى نبأ رحيله ( عليه السلام ) ، تَملَّكَ الخوفُ قُلوبَ العَديد من مُخلصِيه ، والمشفِقين عليه ، فأخذوا يتشبَّثون به ويستشفعون إليه ، لعلَّه يعدل عن رأيه ، ويتراجع عن قراره .
إلاَّ أنَّ الإمام ( عليه السلام ) اعتذرَ عن مطالباته بالهدنة ، ورفضَ كُل مَساعي القعود والاستسلام .
والمُتَتَبِّع لأخبار ثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، يَجدُ أنَّ هناك سِرّاً عظيماً في نهضته .
ويتوضح هذا السر من خلال النصيحة التي قُدِّمت للإمام ( عليه السلام ) من قِبَل أصحابه وأهل بيته ، فكلُّهم كانوا يتوقَّعون الخيانة وعدم الوفاء بالعهود التي قطعها له أهل الكوفة .
وندرك هنا أن للإمام الحسين ( عليه السلام ) قراراً وهدفاً لا يُمكِن أن يتراجع عنه ، فقدْ كان واضحاً من خلال إصراره وحواره أنَّه ( عليه السلام ) كان متوقِّعاِ للنتائج التي آل إليها الموقف ، ومشخِّصاً لها بشكل دقيق ، إلاَّ أنه كان ينطلق في حركته من خلال ما يُملِيه عليه الواجب والتكليف الشرعي .
ونجد ذلك واضحاً في خُطبَتِه حيث قال ( عليه السلام ) : ( الحَمدُ للهِ ، ومَا شاءَ الله ، ولا قُوَّة إلاَّ بالله ، خُطَّ المَوتُ على وِلدِ آدم مخطَّةَ القِلادَة على جِيدِ الفَتاة ، وما أولَهَني إلى أسْلافي اشتياقَ يَعقُوبَ إلى يوسف ، وخيرٌ لي مَصرعٌ أنا لاقيه ، كأني بأوصالي تقطِّعُها عسلان الفلوات بين النَّواوِيسِ وكَربلاء ، فيملأن أكراشاً جوفا ، وأحوية سغباً .
لا مَحيصَ عن يوم خُطَّ بالقلم ، رِضا الله رِضَانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفِّينا أجورنا أجور الصابرين ، لن تشذّ عن رسول الله لَحمته ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرُّ بهم عَينه ، وينجزُ بهمْ وَعدَه .
من كان باذلاً فِينَا مهجتَه ، وموطِّناً على لِقَاء الله نفسه ، فلْيَرْحَل مَعَنا ، فإنِّي راحلٌ مُصبِحاً إن شاء الله ) .
إذن فكلُّ شيء واضحٌ أمام الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وهو مُصمِّم على الكفاح و الشهادة ، فليس النصر يحسب دائماً بالنتائج الآنيَّة المادِّيَّة ، فقد يحتاج الحدَث الكبير إلى فترة زمنية طويلة ، حيث يتفاعل فيها جملة من الحوادث والأسباب ، ليعطي نتائجه .
وهذا ما حدث بالفعل بعد استشهاد الإمام ( عليه السلام ) ، إذ ظَلَّت روح المقاومة تغلي في نفوس أبناء الأمَّة .
واستمرَّتْ بعد موت يزيد ، حتى قَضَتْ على كِيان الحكم الأموي تلك الروح التي كانت شعاراً لِكلِّ ثائر في سبيل التحرُّر من الظُلم والطغيان .
فلا تردد في قول من قال: إن الإسلام محمّدي الوجود حسيني البقاء والخلود...
كيف أنتم وإنعدام الأمن في دياركم...
أسمعتم أن الحيوان آمناً بديار الله..
وأن الطير والحشرة الصغيرة آمنة ببيت الله..
وسبط النبي خائفاً فيها لا أمان له..
يتربصون به الموت..
يندسون ثلاثين مجرماً بلباس الإحرام قد أخفوا سيوفهم تحت لباسهم..
يبغون سفك دم الحسين حتى ولو كان متلقاً بأستار الكعبة أو كان بين الركن والمقام...
هكذا ارادوا..هكذا خططوا..أن يهتكوا حرمة البيت المقدس بحرمة دم الحسين..
والوعتي..آه والهفتي عليك يا مولاي..
لقد أحلّ الحسين إحرامه..
قاصداً حجاً آخر..
كعبة أخرى..
طواف آخر..
تلبية أخرى...
لقد جمع العيال والأهل والنساء في ليلة ملئها الخوف ليرحلوا..
إلى حيث مضاجعهم الأخيرة..
إلى حيث فرش الموت رداءه على بوغاء كربلاء...
عاد إلى بيته..
وكانت العقيلة الهاشمية...تنتظره..
حين رأته بأبي وأمي..وقد أحل الإحرام..شبكت بعشر أناملها على قلبها..توجعت..تنظر في وجه أخيها..
سألته:
أبو علي..حللت إحلامك والحجاج لم يحرموا بعد..اليوم يوم التروية..ما الخبر؟؟
سيدتي..
يا كعبة الرزايا وجامعة الأحزان..
ألا تعلمين..
أن أخيك الحُسين قد يمم وجهه شطر حجٍ آخر سيدتي..
قال الحُسين...
إني قاصدٌ للحج في مكانٍ آخر..
الكعبة فيه جسدي المبضع بالسيف..
والإحرام نحري المنحور من الوريدين..
والحجر الأسود صدري المرضوض بحوافر الأعوجية...
وتلبيتي صياح وصراخ أطفالي والايتام..
أما حلق راسي..آه يا أُخيه...
فرأسي يحزه الشمر من الوريدين...
ما حالها تلك الأخت وهي تُصغي لذاك النحيب..
أُيبشرها السبط بهول ما يجري عليه..
أم يدفعها للصبر أكثر فتحتسب..وكيف تصبر..بل كيف تتجلد..أنّ لها كل تلك القوة الهائلة في الصبر والثبات..
وما حال مولانا وتوديعه لجده وأمه وأخيه..
كان لابد من الوداع..والفراق..
وهاهو ذبيح الزهراء..يلقي بالجسد الطاهر على قبر الرسول..
يناديه..في أسف ..
أي ياجداه..أنا فرخك وأبن فرختك...
أنا من خلفته بين أمتك فأنظر ما فعلوا...
يريدوني قتيلاً مشردا...
يا جداه ...
وكأنما الإمام قد غفى..ونام على القبر الشريف..
جاءه النبي..في رعيل من الأنبياء....تحفه كوكبة من الملائكة..
عانق الجد سبطه..وبكى..قال ....
ضمني عندك يا جداه في هذا الضريح علني يا جد من بلوى زماني أستريح
ضاق بي يا جد من فرط الأسى كل فسيح فعسى طود الأسى يندك بين الدكتين
جد صفو العيش من بعدك بالأكدار شيب وأشاب الهم رأسي قبل أُ بان المشيب
فأجابه الجد يقول يحث الصبر في قلب ذبيح بضعته البتول...
فعلا من داخل القبر بكاءٌ و نحــيب و نداءٌ بإفتجاع يا جبيبي يا حـــسين
أنت يا ريحانة القلب حقيق بالبلا إنما الدنيا أعدت لبلاء النبـلاء
لكن الماضي قليلٌ بالذي أقبلا فأتخذ درعين من صبر و حزم سابغـين
ستذوق الموت ظلماً ضامياَ في كربلاء وستبقى تستعطف القوم و قد عز المغيث
و كأني بلئيم الأصل شمرٍ قد علا صدرك الطاهر بالسيف يحز الودجــين
و كأني بالأيامى من بناتي تستغيث سبغاً تستعطف القوم و قد عز المغـيث
قد برى أجسامهن الضر و السير الحثيث بينها السجاد في الأصفاد مغلول اليدين
عُد ياحُسين أن لك مكانة عند الله لا تبلغها إلا في أرض كربلاء..
أرض الكر والبلاء...
وفي ناحية أُخرى كان هناك قبر قريب..
يضج بالعويل..
يموج كما تموج السفينة في عرض البحر..
الوداع الوداع يا أماه..
الفراق الفراق يا أماه..
جُمعت العيال والأطفال...
في ضجة مهولة تُنذر من فوق الرؤوس بالمصائب قادمة تسوقها خيول المنايا...
وأُحضرت النياق ...
تتمايل على ظهورها الهوادج..
والرجال وشبان آل هاشم..تتصايح...
تدعو النساء لركبونهن..فجئن..كل واحدة بضناها...
تتكأ عليه..ترقى كتفه..وتصعد..
ويُلزم لها الزمام يُعدل الهودج ثابتاً..
وبقيت إمرأة واحدة..تفقدوها من هي..
إنها الفخر الهاشمي..الخدر العلوي..القبس الفاطمي..
والنور الكربلائي الاقدس...
دعاها القاسم للنهوض فما قبلت..فدعاها الأكبر فابت...
حتى أتاها الضرغام..ليث الحروب..
عضد أخيه وسنده...
ذاك الوصي من أبيها...بأن يكون راعيها وحاميها...
أركبها العباس في هودجها...
فمااستقربها الجلوس حتى مال الهودج بها يمنة ويسره...
تقبض القلب الشريف..
تنادي..اي عباس إلزم الهودج أن لا يميل بنا..وترفق بالزمام..
عند هذه الفاصلة المؤلمة..توقف الخطيب ترن من خلال مكبرات الصوت صيحات من صدر الولاء..بكى الحاضرون في عزاء الزهراء بمأتم ولدها الذبيح..والجدة أم علي من حيث جلست في لفيف من النساء والشابات والفتيات الصغيرات داخل حرم المأتم النسائي..تمسح الدمع الغزير وفي قلبها لوعة عالجتها بمرارة الألم...تصيح بهمس دموعها..:
_ أيا زينب ومن لكِ على تلك الهوازل العجف..نياق عارية..أطفالك ويتاماك والاياما..يتصايحون من الوجع وحر الشمس..والوعتاه عليكِ يا هاشمية..وافجعة قلباه لما حلّ بالعقيلة العلوية...
وبكت الجدة بمزيد من المرارة والألم..فأبكت الحاضرات بحرارة الوجع..وحفيدتها زينب تلتصق بها تدنو من أحضانها وعلى وجناتها دُرراً سخية...
تعانق بما في مآقيها من نظرات تحمل كل معاني الإنكسار لتلك الصورة المعلقة على ستار المأتم تحكي المعاناة التي رواها الخطيب.....
_ ما بها زينب تبكي وقد انزوت عنا وحدها يا جدة.. أما زالت تبكي الحُسين لقد انفظ مجلس العزاء...
قال الصغير عباس بوقت لاحق من ذلك النهار الحُسيني الحزين حيث جلس قبالة جدته فيما كانت أمه وبعض خادمات المأتم يعملن على التنظيف والترتيب...قالت الجدة تتنهد:
_هل ينتهي البكاء بانتهاء المجلس بني.. ثم أنها تبكي بُعد اباكم علياً عنكم..اشتاق فؤادها لمرآه...كما تشتاق المياه لغديرها..
_ نعم جدتي..أشتقنا كثيراً لأبي..قال إنه مُسافرٌ لأسبوع ويعود بعدها وهاقد مضى نصف شهر على غيابه..
همهم الصبي بذلك..قائماً يرنو المضي نحو أخته وقد لفت ذراعاها حول صدرها تخفي نضارة وجهها بين ركبتيها...أمسكت الجدة بيده..أقعدته بجوارها..قالت:
_ دعها بُني..تنفس عن حرارة اشتياقها بدموعها..دعها حبيبي..وحين ترتاح ستأتينا..
وصمتت تُدير الحبات التُرابية الطارهة بين أناملها..تأملت عباس ملياً..ثم قالت:
_ بُني أين أخاك؟؟لم اره اليوم منذ الصباح الباكر..
_ تركته قبل قليل برفقة كادر الفرقة العزائية جدة..يقول بأنه سيتناول الغذاء بالمأتم معهم...فهم سيخرجون في موكب العزاء عند العصر وعليه أن يتحضر..
_ وفقه الله حبيبي..كم سيسعد به والدكم...وأنت صغيري لما لا ترافقهم؟؟
_ سأذهب ولكن بعد أن تُكملي لي الحِكاية...فقد وعدتنا أن تُحدثينا عن مقتل سفير الحُسين لأهل الكوفة..
_ وهل تُصغي للحكاية وحدك وأخويك ليسا معك...
_ سأرويها لهما تعلمين بأني راوي جيد...هيا جدتي..أخبريني عن وداعه لطفلته حميدة..وكيف استقبلت سفره وهل بكت كما بكينا نحن أو لأنهم هم أهل الصبر لا يبكون مثلنا؟؟
ثم حوّل وجهه ناحية أخته..رآها تقوم وأمامها والدته..تمد يديها تُساعدها على النهوض..فيما كانت الجدة تقول:
_ يا عباس...
_ لبيكِ جدتاه..نعم...
_ هل تعتقد ان أهل الصبر لا يبكون..
_ إن الصبر هو القدرة على احتباس الألم والرضا بقضاء الله والبكاء قد يهدم هذا الأمر..وأهل البيت عُجنوا من ماء الصبر في البلايا فأظنهم لا يبكون...
_ أحسنت القول ولدي العزيز...ولكن لا يصح القول أنهم لا يبكون بل الأصح أنهم في البلايا لا يجزعون لا يخافون ولا ييأسون من رحمة الله..ذاك هو صبرهم بُني..
_ وهل هذا يشمل الصغير والكبير..
_ بلى بُني..هو كذلك..هم خريجي مدرسة واحدة..ثقافتها واحدة وعلومها لا تختلف فيما بينها..يحملون الشهادة ذاتها..فصبرهم واحد وألمهم واحد...وتضحياتهم كلها تُشرق بسنى واحد هو القربة لله تعالى..ومسلماً يا عزيزي..ضحى وجاهد فنال وساماً تشريفياً من مدرسة كربلاء...
_ هاقد أتيت هل فاتني شيء..؟؟
قالت زينب وهي تدنو من جدتها وأخيها الذي وقف يفسح المجال لها لتجلس مبتسماً يقول:
وجلست الفتاة بجوار أخيها تبادله الابتسامة وأمه من خلفه تمسح رأسه قد أعجبها حنانه لأخته وترفقه بها...
وكان يسأل أخته:
_ كيف تشعرين الآن أُخيتي؟؟هل ارتحتِ؟؟
_ نعم لا باس بما أشعر..بيد أن حزني لن ينقضي حتى ارى أبي ثانية..
_ سترينه إن شاء الله فلا تحزني وقري عينا...(( قالت الجدة وأردفت )) فهو في عين الله صغيرتي..وأكيد هو مشتاق لكم كاشتياقكم له..
وكأن الصغيرة قد أدركت إنزعاج الجدة من كثرة استسلامها للحزن فأنزلت راسها تقول...
_ إني لما سمعتُ الخطيب على المنبر يذكر حزن حميدة على أبيها تذكرتُ شوقي لأبي فبكيتُ يا جدة...
وأجهشت بالبكاء..فأدنتها الجدة منها...ثم أنشدت تقول:
السلام عليك يا سفير الحسين وابن عمه وثقته وأفضل بني عمومته...السلام على من حُز نحره كالحُسين ورضت أضلاعه بالأسواق..السلام عليك يا من مت عطشاناً فواسيت الحُسين بجراحك وظمأك ونحرك الشريف...
سقَتْك دماً يا ابنَ عمّ الحسين مـدامـعُ شيعـتك السافحه
ولا برِحت هاطلاتُ العيون تُحيّـيك غاديـةً رائـحـه
فواحَـرّ قـلبـاهُ مِـن غُلّةٍ بصدرك نيرانُها لافـحـه!
لأنّك لم تُرْوَ مِـن شـربـةٍ ثنايـاك فيها غدت طـائحه
وهطلت دموعها تروي سهولاً حُفرت فيها معالم ولاءها وعشقها السرمدي..نالت تلك الدموع من فؤاد الصبي عباس فرفع جسده يتكأ على ركبتيه يمد عشر أنامله يمسح ذلك الدمع..وقد أغرورقت عيناه بدمع غزير..قال :
_ أي جدتاه..إذا كنا نحن نتذكر الذي مضى فنبكي بهذه الصورة فكيف هم كانو؟؟كيف احتملوا..قتل وتعذيب وتنكيل..ولكن يا جده..كيف كان صنع الله بهم؟؟؟
_ إنهم أهل البلايا والصبر في المحن وصنع الله كان جميلاً لا جميل فوقه...ابى الجليل جلا وعلا لهم الكرامة والتمجيد فنالوا ذلك بما اجتهدوا وصبروا..أي بُني..عافاك الله اجلس لنبدأ الحديث..
ونروي أول الفواجع في رواية الطف...مقتل الصابر المحتسب سفير مولانا الحُسين مسلم بن عقيل...
تضمنا طيّات الكتب وصحائف المجاميع وتشدو بها خطباء المنابر وتصيخ إليها الأسماع وتعيها أذن واعية فتتأثر بها النفوس وترقّ لها القلوب وبها يكون الولاء لمسلم (عليه السلام) مزيج روحية الملأ المتتبع لتحرّي مبادئه الصحيحة التي ضحّى نفسه لانتشارها وتمهيد الطريق إليها وأول من وقفنا عليه مما ردد به قول شاعره:
ولنبدأ في الحكاية وصاحب الشهيد البطل مسلم بن عقيل بن ابي طالب بن عبد المطلب، سفير الامام الحسين (ع) إلى الكوفة وأول شهداء الطف. ياصغاري....
لقد كان عقيل بن أبي طالب أحد أغصان الشجرة الطيّبة وممن رضي عنهم الرسول (صلى الله عليه وآله)، فإن النظرة الصحيحة في التاريخ تفيدنا اعتناقه الإسلام أوّل الدعوة وكان هذا مجلبة للحبّ النبوي حيث اجتمعت فيه شرائط الولاء، من رسوخ الإيمان في جوانحه، وعمل الخيرات بجوارحه ولزوم الطاعة في أعماله، واقتفاء الصدق في أقواله، فقول النبي: إنّي أحبّ عقيلاً حبّين حبّاً له وحبّاً لحبّ أبي طالب له إنّما هو لأجل هاتيك المآثر وليس من المعقول كون حُبه لغاية شهوية أو لشيء من عرض الدنيا.
إذاً فحسب عقيل من العظمة هذه المكانة الشامخة وقد حدته قوة الإيمان إلى أن يسلّق أعداء أخيه أمير المؤمنين (عليه السلام) بلسان حديد خلّده عاراً عليهم مدى الحقب والأعوام.
على أنّ حُبّ أبي طالب له لم يكن لمحض النبوّة فإنّه لم يكن ولده البكر ولا كان أشجع ولده ولا أوفاهم ذمّة ولا ولده الوحيد، وقد كان في ولده مثل أمير المؤمنين وأبي المساكين جعفر الطيّار وطالب وهو أكبرهم سنّاً، وإنّما كان شيخ الأبطح يظهر مرتبة من الحُب له مع وجود ولده (الإمام) وأخيه الطيّار لجمعه الفضائل والفواضل موروثة ومكتسبة.
وبعد أن فرضنا أبا طالب حجّة وقته وأنّه وصيّ من الأوصياء لم يكن يحابي أحداً بالمحبة وإن كان أعزّ ولده، إلاّ أن يجده ذلك الإنسان الكامل الذي يجب في شريعة الحقّ ولاءه.
ولا شكّ أن عقيلاً لم يكن حائداً عن الطريقة التي عليها أهل بيته أجمع من الإيمان والوحدانية لله تعالى وكيف يشذّ عن خاصته وأهله وهو وإياهم في بيت واحد وأبو طالب هو المتكفّل تربيته وإعاشته، فلا هو بطارده عن حوزته ولا بمبيده عن حومته ولا بمتضجّر منه على الأقل وكيف يتظاهر بحبّه ويدنيه منه كما يعلمنا النص النبوي السابق لو لم يتوثّق من إيمانه ويتيقّن من إسلامه غير أنّه كان مبطناً له كما كان أبوه وأخوه طالب وإن كنّا لا نشكّ في تفاوت الإيمان فيه وفي أخويه الطيّار وأمير المؤمنين وحينئذٍ لم يكن عقيل بدعاً من هذا البيت الطاهر الذي بُني الإسلام على علاليه فهو مؤمن بما صدع به الرسول منذ هتف داعية الهدى صلوات الله عليه وعلى آله.
ولنذكر ياأحبابي الصغار من إستقبال مسلم بن عقيل إلى توديعه الذي رحل تاركاً لنا آثراً في قلوبنا ولن ننساكم يا شيعة أهل البيت "عليكم السلام"
فاستقبلت الكوفةُ مسلم بن عقيل عليه أحسن استقبال، وعقدت له الاجتماعات الترحيبيّة، وقرأ عليهم كتابَ الإمام الحسين عليه السّلام، فجعل أهل الكوفة يبكون . وخطب الخطباء مرحّبين، وأسرع الناس مبايعين، وقيل: بايعه ثلاثون ألفاً
عندها كتب مسلم إلى ابنه عمّه الحسين بن عليّ عليه السّلام:
أما بعد، فإنّ الرائد لا يَكْذب أهلَه، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجِّلِ الإقبالَ حتّى يأتيَك كتابي؛ فإنّ الناس كلّهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأيٌ ولا هوى، والسّلام.
أجل.. كانوا معه، وبقَوا معه لولا خوفهم من عبيدالله بن زياد فيما بعد، وسقوط بعضهم بمغرَيات السلطة الماكرة. وكان مسلم بن عقيل ناجحاً رغم نهايته المؤلمة، فقد هيّأ الناس فكريّاً لدعوة الإمام الحسين عليه السّلام، وأخذ بيعتهم، وكانت تعبئته العسكريّة والسياسيّة جيدة، حتّى رتّب أمور السلاح والعوائد الماليّة، ولكن شاء الله أن يكون من شهداء أهل البيت عليهم السّلام.
وهنا ياصغاري نذكر المحنة التي تعرض لها مسلم بن عقيل..وصبر وصابر وجاهد فيها حتى نال الشرف العظيم وكان تكريم الله عالياً له..خالداً..بقي هو شاهداً ومعلماً من معالم التضحية والفداء..
طالما تعرّض الأنبياء والأوصياء والأولياء عليهم السّلام للمحن، ومنها: خذلان الناس: خوفاً من السلطة، أو طمعاً بما في يديها! ففي ليلة وضحاها يدخل عبيدالله بن زياد قادماً من البصرة بأمرٍ من يزيد بن معاوية واستشارة له مستشاره النصرانيّ الحميم، فهيمن على البلد، وقبض على السلطة في الكوفة، فقلب الكفّة لصالح بني أُميّة.. فأطلق وعده ووعيده، وعجّل بقتل هانئ بن عروة، وسجن المختار بن عبيد الثقفيّ، فانسحب الناس إلى بيوتهم حتّى بقي مسلم بن عقيل يجول في سكك الكوفة لا أحد يُؤويه إلاّ امرأة عجوز اسمها ( طوعة ).
خائف..وجل..
كان يجلس والهم في عيناه قد تجلى..
سألته..ما حاجة للغريب بباب داري..
فأجاب..عُطشان فاسقيني...
فلبت..وحين ارتوى..ناشدته بالابتعاد ..
تُذكره بالأهل والأحباب..قالت نحو أغدو فلا بقاء لك بباب الدار..
همهم الحزن في قلبه..وتعالت الصيحات من عمق الفؤاد..
غريب أنا يا أمة الله..مالي أهل والأحباب بعيدون..
غريب كوفة مخذولا بلا ناصر...
وسيف البغي يطلبني..
من أنت قد أوجعت قلبي يا رجل..أأنت السفير من المولى حُسيناً؟؟
أجاب والدمع ينهمر..من عيناه والشوق فيهما جلي واضحُ..
أنت الأمين إذاً..
رسول وارث رب العالمين..
قم من هذا المقام..وأوي لدار العجوز..
وإني لأفاخر وقد آويت مسلما..
ولكن ما أسرع أن وشى ابن طوعه إلى ابن زياد بخبرٍ يريد عاجل هديّته، فتحشّدت عساكر الجند تطوّق دار طوعة أوّل الفجر، فلمّا سمع ابن عقيل وَقْع حوافر الخيل عرف أنّه قد أُتي، فخرج إليهم بسيفه، فإذا اقتحموا عليه الدار شدّ عليهم يضربهم حتّى أخرجهم.. فقَتلَ منهم جماعة كثيرة، عندها أرسل عبيدالله إلى محمّد بن الأشعث يقول: بعثناك إلى رجلٍ واحد لتأتينا به، فثَلَم في أصحابك ثلمةً عظيمة، فكيف إذا أرسلناك إلى غيره ؟! فأجابه ابن الأشعث: أتظنّ أنّك بعثتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة، ، أوَ لم تعلم أيّها الأمير أنك بعثتني إلى أسدٍ ضرغام، وسيف حسام ؟!
فأرسل إليه ابن زياد أن أعطِه الأمان، فإنك لا تقْدر عليه إلاّ به. وأمان ابن زياد لا يعني إلاّ الغدر!
فلا ننسى ياصغاري كيف كانت شهاده مسلم بن عقيل وكيف كان يقاتل ويجاهد قتالاً شديداً..
قاتلَ مسلم القومَ قتالاً شديداً، فلمّا عجزوا عنه جعلوا يوقدون القصب ويرمونه عليه، ويرضخونه من السطوح بالحجارة؛ غدراً به.. واختلف وبُكَيرَ بن حمران بضربتين، وكاد مسلم أن يقتله لو لم يستنقذه أصحابه، فعاد وقد جُرح في ثِنْيتاه. عندها قال له محمّد بن الأشعث: لك الأمان يافتى لا تقتلْ نفسك، إنّك لا تُكذَّب ولا تُخدع ولا تُغَرّ، إنّ القوم بنو عمّك، وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك.
ولم يثق بهم ابن عقيل، إلاّ أنهم عملوا له حفيرةً ألجأوه إليها وأسقطوه فيها، وطُعن من خلفه فخرّ جريحاً، ثمّ أُخذ أسيراً
وأُدخل على ابن زياد فلم يُسلِّم، فقال له الحرسيّ: سلِّمْ على الأمير. ما هو لي بأمير. فقال ابن زياد: لا عليك سلّمتَ أم لم تُسلّم؛ فإنّك مقتول. فأجابه مسلم: إن قتلتَني فلقد قَتَلَ مَن هو شرٌّ منك مَن هو خيرٌ منّي
وأخذ ابن زياد بأطراف الحوار الحادّ: إيهٍ يا ابن عقيل، أتيتَ الناسَ وأمرُهم جميع وكلمتهم واحدة؛ لتشتّتهم وتفرّق كلمتهم وتحمل بعضَهم على بعض. فجابهه مسلم بالقول: كلاّ، لستُ لهذا أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك ( أي زياد بن أبيه ) قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعوَ إلى حكم الكتاب.
ويستمرّ الاحتجاج، فلا يجد ابن زياد في ما يعينُه إلاّ الكلمات البذيئة وشتم أهل البيت عليهم السّلام، فأخذ مسلم لا يكلّمه؛ لأنّه لا يرى موقعاً للكلام معه. فصاح عبيدالله: اصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه، ثمّ أتْبِعوا جسدَه رأسَه. ونادى: أين هذا الذي ضرب ابنُ عقيل رأسه بالسيف وعاتقه ؟ فدُعي.. فقال له: اصعدْ فكُن أنت الذي تضرب عنُقَه.
وأخيراً حانت لحظه التوديع التي ودعنا فيها سفيراً من أصحاب الإمام الحسين "عليه السلام" وهي..
صعد مسلم بن عقيل إلى السطح وهو يكبّر اللهَ ويستغفره، ويصلّي على ملائكة الله ورسله ويقول: اللهمّ احكُمْ بيننا وبين قوم كذبونا وغرّونا وخذلونا وقتلونا.
ثمّ صلّى لله تعالى ركعات، فتقدّم قاتله وضرب عُنقَه، ثمّ رمى به من أعلى القصر؛ ليُجَرّ بعد ذلك بالحبال في عاصمة الإسلام الكوفة!
وكان قبل ذلك أن أوصى أن يُدفَعَ دَينٌ له في الكوفة بسيفه ودرعه، وأن يُستوهَبَ جثمانه بعد شهادته، وأن يُبعثُ إلى الحسين عليه السّلام أن يرجع؛ فإنّ الناس خذلوه!( إلى ان الإمام الحسين عليه السلام لما جاءه بخبر شهادة ابي حميدة بنت مسلم بن عقيل أجلسها في حجرة ومسح على رأسهاوأخبرها بخبر أبيها فعندها رددت هذا الشعر قائله
لو كان غير اخى قسى غره * أو غير ذي يمن وغير الاعجم
سخى بنفسى ذاك شيئا فاعلموا * عنه وما البطريق مثل الالام
اعطى ابن سعد في الصحيفة وابنه * عهدا يلين له جناح الارقم
أي ياحميدة..
يا يتيمة..
قومي فاستعدي للبلاء...
شدي مآزر صبركِ..
هذه حفيرة قد..وقع فيها اباكِ مسلماً..
فدى الحُسين بروحه...والمهجة منه تتلظى...
وعلى منهاج حبه سار يعدو..يرسم بالدرب لوحات الإباء.
اي ياحميدة الخصال والفعال...
ادني برأسك للحُسين..يمسح بكف اليتم روحكِ ..
وأهجعي في محرابه..صلي معه...
ورددي تراتيل العزاء..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
إنا لله وإنا إليه راجعون
اللهم صلِ على محمدٍ وآله وسلم تسليماً كثيراً
السلام عليكن ورحمة الله وبركاته
لنضيف حكاية هاني بن عورة..
كان هاني بن عروة بن نمران بن عمرو بن قعاص بن عبد يغوث بن مخدش بن عصر بن غنم بن مالك بن عوف بن منبه بن عطيف المرادي العطيفي من أشراف الكوفة وقرائها وله منزلة في المصر ولبيته في العشيرة منعة وله الزعامة الكبرى في مراد يركب في أربعة آلاف دراع وثمانية آلاف راجل فإذا تلاها أحلافها من كندة ركب في ثلاثين ألفاً ولازم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فاستفاد منه آدباً وحضر معه في حروبه الثلاثة وأبلى بلاءً حسناً وفي يوم الجمل كان يرتجز:
يا لك حرب حشها جمالها قائدة ينقصها ضلالها
هذا عليّ حوله أقيالها)..
لما انـــتقل مســــلم إلى بيت هاني وأخـــذت الشيعة تختــــلف إليه في هذا البيت على تستّر واستخفاء وتواصوا بالكتمان وخفي على ابن زياد موضع مسلم دعا مولاه (معقلاً) وأعطاه ثلاثة آلاف درهم وذلك بعد موت شريك الأعور وأمره أن يلقى الشيعة ويعرفهم أنّه من أهل الشام مولى لذي الكلاع الحميري وقد أنعم الله عليه بحبّ أهل هذا البيت وبلغه قدوم رجل منهم داعية للحسين وعنده مال يريد أن يوصله إليه.
فدخل (معقل) الجامع الأعظم ورأى مسلم بن عوسجة الأسدي من بني سعد بن ثعلبة يصلّي وسمع الناس يقولون هذا يبايع للحسين اجتمع به وأوقفه على ما عنده فدعا مسلم بن عوسجة له بالخير والتوفيق وأخذ منه البيعة والمواثيق ليناصحن ويكتمن كي لا يفشو الخبر إلى ابن مرجانة.
ثم أدخله على ابن عقيل في دار هاني وسلّم المال إلى أبي ثمامة الصائدي وكان بصيراً شجاعاً ومن وجوه الشيعة عَيَّنَه مسلم لقبض ما يرد إليه من المال يشتري به سلاحاً فكان ذلك الرجل يختلف إلى مسلم كل يوم فلا يحجب عنه ويتعرف الأخبار ويرفعها إلى ابن زياد عند المساء
ولمّا وضح الأمر لابن زياد وعرف أن مسلماً مختبئ في دار هاني دعا أسماء بن خارجة ومحمد بن الأشعث وعمرو بن الحجاج الزبيدي وسألهم عن انقطاع هاني عنه فقالوا الشكوى تمنعه فلم يقتنع ابن زياد بعد أن أخبرته العيون بجلوسه على باب داره كل عشية فركب هؤلاء الجماعة إلى هاني وسألوه المصير إلى السلطان لأن الجفاء لا يحتمله وألحّوا عليه فركب بغلته ولما طلع على ابن زياد قال:
(أتتك بحائن رجلاه) والتفت إلى شريح القاضي يقول:
أريد حباءه ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد
ثم التفت إلى هاني قائلاً أتيت بابن عقيل إلى دارك وجمعت له السلاح فأنكر هاني ولما كثر الجدال دعا ابن زياد ذلك الجاسوس (معقلاً) ففهم هاني أن الخبر أتاه من جهته فاعتذر بأنه لم يدعه إلى منزله وإنّما استجار به واستضافه والذمام الذي يحمله يأبى له ألاّ يجير من استجار به ثم طلب من ابن زياد أن يمضي إلى داره ويخرج مسلماً منها إلى حيث شاء ليخرج بذلك من جواره ولا يكون سُبَّة للعرب ويعطيه رهناً على ذلك فأبى ابن زياد أن يطلق سراحه إلاّ أن يأتيه بمسلم
هاهنا جاهر ابن عروة بعقيدته فعرف ابن مرجانة أن مسلماً أحقّ منه بالأمر ولوفاء أبيه زياد ومكافأته في ولده لمعروفه معه يقوم بحمايته والدفاع عنه وعن أهله حتى يخرجوا بأموالهم إلى الشام سالمين لأنّ داعية الحسين أولى بالقيام على أمر الأمة وإدارة شؤونها.
فغضب ابن مرجانة من كلام هاني وألحّ عليه بالإتيان بابن عقيل فأفهمه هاني بأن هذا محال عليه ويأباه دينه وعقيدته فقال في التعبير عنه: لو كان (ابن عقيل) تحت قدمي لما رفعتهما عنه فأغلظ له ابن زياد في القول وتهدّده بالقتل فتعجّب هاني من جرأته وهو واحد ويتبع (ابن عروة) ثلاثون ألفاً فقال لابن زياد: إذاً تكثر البارقة حولك.
فاستدناه ابن زياد وأخذ بظفيرتيه وضربه بالسوط حتى كسر أنفه ونثر لحم خدّيه وجبينه على لحيته وتناول هاني سيف شرطي ومانعه الرجل فأمر به ابن زياد إلى الحبس فأدخل بعض بيوت القصر وجعل عليه حرس.
فقال أسماء بن خارجة أرسل غدر سائر اليوم أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى إذا أدخلناه عليك هشمت وجهه وأسلت دمه فأمر به ابن زياد أن يخرج من المجلس فأخرجه الشرطة ولما رأى ابن الأشعث ذلك قال: إن الأمير مؤدّب رضينا برأيه لنا أم علينا.
وبلغ عمرو بن الحجاج قتل هاني الذي هو صهره على أخته (روعة) وهي أم (يحيى بن هاني) فأقبل في مذحج وأحاط بالقصر فأمر ابن زياد شريح القاضي أن يدخل على هاني ويخبرهم بحياته
ولمّا سمع هاني لغط الرجال حول القصر وعرف أنّهم مذحج صاح يا للرجال أين عشيرتي أين أهل الدين أين أهل المصر ألا عشرة من قومي ينقذوني من عدوّهم وابن عدوّهم ومن يسمع صوته وأين من يبلغهم نداءه والخوف على رؤوسهم والطمع مخيّم على نفوسهم.
ثم دخل قاضي المسلمين (شريح) على هاني ممتثلاً أمر ابن زياد وخرج إلى القوم يخبرهم بأنه حيّ فهلا مسائل لهذا القاضي المائل عن الحق كيف ساغ له إخفاء استغاثة هاني بقومه وعشيرته وطمن القوم بحياته وسكن فورتهم حتى أزالهم عن القصر وهو يعلم وقوع الرجل بين يدي الضبع الكاسر فأودى به وأشاط بدمه وبماذا يعتذر عن تهاونه أبالخوف من بادرة ابن مرجانة فهلاّ ضحّى نفسه على تقديره دون مناصرة الحقّ وأهله وإنقاذ المؤمن الأسير من أنياب الطاغية ولماذا كان يدّخر الحياة الذميمة وقد بلغ من الكبر عتيّاً؟ ومن ذا الذي أخبره أنه لو أصدق القوم في المقال وزحفوا على القصر وأخرجوا زعيمهم وانتكث الأمر على ابن زياد كان يتمكّن الدعيّ من التنكيل به لكنّه يتحرّى الحياة مع الظالمين!.
ثم ألا مسائل مذحجاً لماذا تجمهروا على القصر ولماذا تفرّقوا لمحض القول بأنّه حي فتكون تلك الجلبة واللغط للوقوف على حياته أو مماته بحيث إذا وجدوه ميتاً شيّعوا جنازته وإن كان حيّاً تركوه عرضة للذئاب وليست لهم حاجة في إنقاذه إذاً فعلى الحفاظ والشهامة السلام.
القوم يسرون والمنايا خلفهم تسري...
تسوق أرواحهم إلى مضاجع الكرامة والخلود الأبدي...
ترصد آثارهم الماضية نحو طريق الجنان المحفوفة بورود التضحيات وسنابل الفداء...
وكلما حطوا الأثر تلو الأثر بناحية..سألوا..
هل هذه هي الأرض الموعودة بالبلاء!!
فيأتيهم جوابٌ أنها ليست هي..
ويمضي الركب..بما حمِل..يسير حثيثاً..
رابط الجأش قوي العزم..بإرادة هي للوحي منبثقُ...
وتلك شواهد الميمون في عرفات الكرب مبتلياً..
إذا قال والقلب منه بحب الباري قد عشق...
الهي تركت الخلق طرا" في هواك و أيتمتُ العيال لكَي اراك
فلو قطعتني بالحب اربا" لما مال الفؤاد الى سواك........
رفعت زينب رأسها عن الكتاب الذي أنكبت على قراءته منذ ساعات الغروب الأولى..وقد أنزوت به في غرفتها تلوذ بخصوصية تُتيح لها الإنفراد مع تلك المعاني الخالدات والصور البديعة التي رغم ما فيها من قسوة ووحشية إلا أنها عكست الروح الإنسانية الربانية العظيمة والتي تجسدت في مولانا الحُسين وأهل بيته وأصحابه....
رفعت رأسها تنظر لصورة أبيها معلقة على صدر الجدار..وعلى أطراف شفتيه ابتسامة حنونة بعثت بالأسى والشجون في قلبها الصغير..فهي في شوق كبير لرؤيته والارتماء في أحضانه لتتمرغ في حنان أبوته...فتستقي من ينابيعها عذب المشاعر والأحاسيس الحقيقية التي تُعينها على فهم الحياة والعيش في تقلباتها...
وفيما كانت تبحلق ساهمة الفكر شاردة الذهن سمعت جلبة قوية بالخارج..وحين تحققت فزع قلبها وهوى في صدرها..فقد سمعت زوجة أبيها تُصيح بحُسين أخاها أن يُسرع بالاتصال بأحد أعمامهم ليأتي ويساعدهم في نقل الجدة للمستشفى...ألقت بالكتاب على الفراش وأسرعت تعدو للخارج...وحين وصلت لغرفة الجدة وجدتها مُسجاة على الفراش بلا حراك وعباس قد ركع في منظر موحش كئيب أمامها ودموعها تسبح في فضاء وجهه المحمر من فِعل البكاء والجدة تُحاول إيقاظ الجدة ..وبصوتِ مخنوق قالت زينب والعبرة قد تحشرجت بها نبراتها:
_ ما بها جدتي يا أماه؟؟ ما لي أراها مسجاة على فراشها كالأموات؟؟
_ بُنيتي الحبيبة زينب تعالي وأبقي بجوار جدتكِ ريثما اذهب لإستعجال عمومتك بالقدوم...فأخشى أن حُسيناً لم يستطع العثور على أحدهم...
ودون أن تُجيب الخالة على سؤال الصغيرة أسرعت بالخروج فرفع عباس رأسه ...شهق بأنفاسٍ خنقتها العبرات..ثم قال:
_ أُخية زينب..لقد وقعت الجدة مغشياً عليها ولا ندري ما الذي ألمّ بها فجأة...إني أخشى أن نفقدها...
وأسند مرفقيه لحافة السرير فيما وجهه أختفى بين كفيه يبكي بحرقة..فأنكبت الفتاة الصغيرة على صدر الجدة تقول في ألموأرتعاش ظاهر في حروفها:
_ جدتي ردي علي..أنا يتيمتكِ زينب.. بالله عليكِ لا تتركينا..
_ أين الوالدة؟؟
عاد حُسين يسأل لاهثاً يسأل عن زوجة أبيه...فعانقته نظرات أخيه وأخته التي جرت إليه..أمسكت بيداه..بكت حتى جعلته يبكي صامتاً..
_ حُسين يا أخي...وشريكي في يتمي..قل لي بالله عليك أننا لن نفقد الجدة؟؟
_ أهدئي يا زينب..بإذن الله لن نفقدها..لعلها مجرد وعكة صحية مفاجأة...
قال حُسين..يرفع الأنامل في ارتجاف يمسح الدمع الغزير من وجنات شقيقته...وعباس من على جسد جدته يقول وقد ارتمى قربها:
_ جدة..اجسلي..هذا ليس وقت النوم...جدة إنني لا أريد أن أكون يتيماً..فأتألم..أرجوكِ أفيقي...
_ وأنا لا أريد أن أعيش اليتم مرة أُخرى...
صاحت زينب...فعانقها حُسينا يجاهد ليحبس الدمع بين جفونه...وفيما كانوا في غمرة الحزن والبكاء تلك عادت الأم وبرفقتها أحد أعمامهم قد بهت لونه وتغيرت معالم الحياة بعيونه وهو يرى والدته تنام بلا حراك..أسرع بحملها إلى المستشفى والأم والأطفال يتبعونه..
_ هيا حبيبتي..إننا دوماً أخبرناكِ بأنكِ قادرة على الصبر والتحمل ..وما سُميتِ بزينب إلا تفاؤلاً بتلك المرأة التي ضربت اروع أمثلة الصبر...
قالت الأم ذلك في وقت لاحق من ذلك المساء الكئيب الذي استشعر فيه الأطفال الثلاثة بالأسى واليتم لغياب جدتهم عنهم وقد تركوها بالمستشفى تنام ليلتها بعيداً عنهم فهي بحاجة للرعاية الطبية الفائقة كما أخبرتهم الطبيبة...
مدت الأم يدها تمسح دمع الصغيرة ..تصغي لتأوهاتها وزفراتها الحارة...أردفت:
_ قلتِ لي ذات مرة..يا أماه إني أُحب أن أكون مثال الفتاة التي يُحتذى بها فعلميني كيف أكون كذلك..أتذكرين..
هزت زينب رأسها لتُعقب الوالدة:
_ وهل تذكرين بأنني قلتُ لكِ أن أفضل من تحتذين بها لتكوني الفتاة المثالية هي الحوراء زينب..فلو تعلمنا درساً واحداً من دروسها في الصبر التي قدمتها لنا بجهادها وحُسن تدبيرها للأمور بتعقلها وتفكرها وعلمها لكُنا كلنا مثالاً يُحتذى به...
_ نعم أمي أذكر ذلك جيداً...وإني لفخورة أن سُميتُ باسمها..ولأفخر أكثر حينما أشعر بالرضا عن تصرفاً آتي به ويكون من قناعتي بأنني أقتديتُ في فعله بالحوراء زينب..ولكن يا أمي إنني أمام ما أصاب الجدة لا أعرف إلا الحزن والبكاء...
وأجهشت الصغير تبكي..فضمتها الأم بحنان كبير تمسح رأسها...لتقول:
_ لا بأس عليها الجدة أم علي..على الأكثر ستكون بيننا بعد ثلاثة أو أربعة ايام فقط...فلا تحزنوا..وبدل أن نندب غيابها ونحزن بهذه الصورة لما لا نستبدل كل ذلك بالتقرب إلى الله ليُشافيها وينظر إليها وإلينا بعين رأفته ورحمته..
_ تفضلي الماء يا زينب...
قدم عباس الماء لأخته ...يبتسم رغم ذلك الألم في عينيه التي لم تفتأ تبحث عن جدته وقد اعتادوا رؤيتها بكل مكان بالبيت...ويدبو افتقاده لها جلياً بنظراته..
أخذت زينب الكأس وقربته لفمها لتشرب فتذكرت أمراً..أطالت النظر للماء الصافي الرقراق العذب وقد تجمعت حبيبات على جوانب الكأس تستشعر منه البرودة ونفسها تدعوها للشرب بنهم إذ تشعر بعطش كبير..لكن أمراً ما حيرها في الشرب ...لفت موقفها هذا نظر الأم فسألتها:
_ لما لا تشربين الماء صغيرتي هل يوجد بالكاس شيء ما؟؟
_ كلا... قالت باقتضاب تُحرك راسها بالنفي..ثم اردفت بعد برهة صمت...:
_ لكنني كنتُ أفكر في مولانا الحُسين الذي كان يعلم أنه سيُحرم وأهله وعياله وكل من كان معه من شرب الماء وسيموتون عطشا...فكيف توجه راضياً مقتنعاً إلى تلك البقاع...بل كيف صبر وتحمل دون شرب الماء؟؟!!!
_ تلك آية من آيات الحُسين وأهل بيته...أوليس هو القرآن...الذي حاولوا تحريفه!!
أجابت الوالدة...تحنو على الطفلة الصغيرة ترفع لها الكأس لتشرب وزينب تبعده تقول:
_ أماه..كيف يمكن أن يُقتل طفلاً صغيراً بعطشه؟؟ هل توجد نفوس حقاً قاسية بيننا؟؟وأولئك الناس كيف لم ترأف نفوسهم لصراخ الطفل؟؟
_ وأنا سمعت الخطيب يقول أن الرضيع مات على صدر أبيه؟؟كيف كان شعور مولانا الحُسين ....(( همهم عباس يذلك ..يضع رأسه بين ركبتيه )) لقد أوجعني قلبي لما أصاب جدتي فكيف بمن يموت عزيزه على صدره؟؟أماه هل لنا أن نكره الموت؟؟ أيمكن أن نحاسبه؟؟
_ كيف للمؤمن أن يكره أمراً هو مقدّر من الله...لو كرِه العبد المؤمن أمراً من الله لما كان صحيح الإيمان ... فأين إذاً الصبر والرضا بقضاء الله...(( قالت الوالدة وحُسين يدلف للغرفة وبيده مسبحة وكتاب الله )) ثم كيف تريدنا أن نُحاسب الموت بُني هو قضاء الله فينا وقدره المحتوم...ولكن الذي يُحاسب هو الذي يتسبب بالموت...
_ صدقتِ يا أماه..(( قال حُسيناً وأعقب )) وكما كانت تقول الجدة عافاها الله مما ابتلاها به أن أكثر ما يقرب العبد من ربه هو صبره على البلاء...
ثم صمت قليلاً وقال بعد تفكير...وقد بدا متردداً:
_ أماه..والآن بغياب جدتي هل ستكملين لنا الحكاية؟؟
وقبل أن تُجيب قفز ناحيتها عباس يتعلق بصدرها يقول:
_ نعم نعم أمي أكمليها...كدتُ أن أنساها بسبب مرض جدتي...فلو كانت هنا لأكملتها لنا..أرجوكِ أمي..أكمليها...
_ حسناً يا صغاري لكم ذلك..رويدك عباس حبيبي لا تكن عجولاً...
وبقليل من الارتياح ارتسمت الفرحة في عيون الأطفال والوالدة تبتسم لهم برفق وحنان..فيما زينب كانت دموعها تنحدر على خديها تقول في غصات:
_ إني لأشعر بالحرقة في قلبي على تلك النفوس التي ماتت بظمأها...
_ سيسقون من كأس لا يظمأون بعدها أبدا....(( هتفت الجدة تمسح دموع الصغيرة وتقبل جبينها..ثم تقول )) حسناً إلى اين وصلت بكم الجدة في رواية الحكاية؟؟
فأجابت زينب بشرود:
_ إلى نزول الإمام بأرض الكرب والبلاء..إلى ذلك اليوم الذي غفى فيه مولانا الإمام الحسين وشاهد في منامه من يقول له: القوم يسرون والمنايا خلفهم تسري..آه يا أماه اي آيات هم وأي نفوس هم..قد خلدوا بالدنيا من حيث اراد الظالمون محو آثارهم..يا لزمانهم كم أذهلوا العقول بتضيحاتهم..كم حيروا الألباب ببطولاتهم..وكم شحذوا النفوس بطيب آثارهم..أماه...خذينا في طريقهم..إلى تلك اللحظات التي عانقوا فيها الموت أول مرة قبل ان يحمى وطيس الحرب..
خبرينا يا أماه عن حكايا الطف وما روعوا فيها من قلوب صغيرة...ونفوس مكلومة..خبرينا كيف استقبل الآ الكرام نزولهم بأرض البلاء ..قُصي علينا روائع التضحية ومآثر الفداء..