الدجال في فكر السيد الشهيد الصدر (قدس)

خاص بكل مايتعلق بصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه
أضف رد جديد
ابوحسام الدين
عضو جديد
مشاركات: 9
اشترك في: الجمعة يناير 28, 2011 8:54 pm
مكان: العراق المقدس

الدجال في فكر السيد الشهيد الصدر (قدس)

مشاركة بواسطة ابوحسام الدين »

[img]file:///C:/DOCUME%7E1/abas/LOCALS%7E1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image001.jpg[/img] [img]file:///C:/DOCUME%7E1/abas/LOCALS%7E1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image003.jpg[/img]

الدَّجال

النقطة الثالثة:

ما دل على اقامة المعجزات أكثر مما يقتضيه قانون المعجزات.
واوضح ذلك واصرحه ما دل على قيام المعجزات من قبل انصار الباطل والمنحرفين عن الحق. وذلك أدهى وأمر من مجرد قيام المعجزة بلا موجب، فان فيه تأييدا للباطل واغراء بالجهل يستحيل صدوره عن الله عز وجل.
فان قال قائل: ان مبرر مشروعية ذلك هو ان سبب التمحيص منقسم إلى قسمين: طبيقي واعجازي. ولعمري ان السبب الاعجازي أشد تمحيصا وآكد نتيجة. فان الايمان بكذب من قامت المعجزة على يديه من أصعب الاشياء.
قلنا: كلا، فان هذا مما لا يستقيم بالبرهان. فان التمحيص الموجب للتربية الحقيقية، ليس هو الا ما كان عن سبب طبيعي وعن عيش حياتي طويل.
واما التمحيص الاعجازي، فقد يكون ممكنا لو توقف عليه اتمام الحجة. يندرج في ذلك كل معجزات الانبياء فانه -لامحالة - محك للتمحيص والاختبار اذ يرى من يؤمن بنتائجها ممن يكفر بها.
واما المعجزة الموهمة بالباطل والمغررة للجاهل، فغير ممكنة الصدورعن الله عز و جل بالبرهان. والايمان بكذب من قامت المعجزة على يديه غير ممكن الا على اساس الانحراف. وذلك ليس الا للبرهان القائم على ان الله تعالى لا يظهر المعجزة على يد الكاذب، كما برهن عليه في محله من العقائد الاسلامية.
فكيف يكون الباطل المستحيل طريقا للتمحيص واقامة الحق، وتربية المخلصين. ولعمري ان ذلك قائم على الفهم السيء لقوانين الاسلام.
اذن فلا بد من استعراض ما ورد من الروايات المتنبئة بحوادث من هذا القبيل لاجل التخلص عنها في الجهة الاتية. ولا بد ان نلاحظ سلفا ان ما هو الميزان في الرفض والاخذ بالرواية انما هو مقصودها الواقعي لا عبارتها الرمزية.
وسنذكر الآن عددا مما خالف قانون المعجزات، فما كان صريحا في ذلك رفضناه. وما كان رمزيا باعتبار الفهم المتكامل للروايات الذي سوف يأتي في الجهة الاتية، امكن الاخذ به على تقدير امكان اثباته بالتشدد السندي.

ويمكن تعداد المهم من ذلك ضمن الامور التالية:
الامر الاول:
طول عمر الدجال، على اساس الاطروحة الكلاسيكية المشهورة عنه.
حيث دل ما اخرجه مسلم في صحيحه من الروايات وغيره، على ان الدجال هو ابن صائد، وانه لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بالرغم من طلبه شخصيا منه. بل هو ادعى الرسالة، وحاول عمر بن الخطاب قتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ان يكنه فلن تسلط عليه، وان لم يكنه فلا خير لك في قتله. وفي رواية اخرى: "ان يكن الذي ترى فلن تستطيع قتله. وفي رواية ثالثة: "فان يكن الذي تخاف فلـن تستطيع قتـله.
والمراد: انه لو كان هو الدجال، فهو غير قابل للقتل اساسا، لان الله تعالى قد قدر له طول عمره. وهذا النص، بالرغم من انه لا يعطي الجزم بان ابن صائد هو الدجال بالتعيين. ولكنه يدل بوضوح بان لو كان هو الدجال، فهو ممن لا بد من بقائه إلى حين قيامه وظهوره. وبما يؤيد ذلك ما أخرجه مسلم أيضا. عن رسول الله (ص) انه قال: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال". لو فهمنا منه طول العمر.
ولا نريد ان نناقش في ان ابن صائد هو الدجال ام لا. فقد طعن في ذلك محمد بن يوسف الكنجي في كتابه البيان. وانكره ابن صائد نفسه، فيما أخرجه مسلم عنه. قائلا: "يزعمون اني الدجال، ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، انه لا يولد له قال الراوي: قلت: بلى. قال: فقد ولد لي: أو ليس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل المدينة ولا مكة. قلت: بلى قال: "فقد ولدت بالمدينة و ها انا ذا اريد مكة".
و مما يدل على طول عمر الدجال: حديث الجساسة، الذي اخرجه عدد من الصحاح منهم مسلم. وفيه يقول: "الدجال انا المسيح، واني اوشك ان يؤذن لي في الخروج فاسير في الارض فلا ادع قرية إلا هبطتها في اربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان علي كلتاهما". فاذا علمنا انه لم يؤذن له بالخروج من حين عصر تميم الداري الى الان، وهو ما يزيد على الالف عام... عرفنا كيف يدل هذا الحديث على طول عمره.
ولعمري ان من العجب ان اخواننا اهل السنة والجماعة، يؤمنون به و بالمصادر الحديثة التي دلت عليه. ولكنهم يستبعدون غيبة المهدي ) ع)
وطول عمره. مع قلة الروايات عن الدجال وطول عمره و تكاثرها عن المهدي (ع) لهداية العالم وتنفيذ الغرض الالهي الكبير، وليس الدجال كذلك.
فالجماعة يرون الدجال شخصا طويل العمر، غائبا منعزلا في جزيرة في البحر، كما يدل عليه حديث الجساسة. واما المهدي (ع) فشخص يولد في زمانه. على حين ان الذي ينبغي ان يقال بكونه هو الحق عكس ذلك - لو مشينا على الاطروحة الكلاسيكية لفهم الدجال - وهو ان المهدي طويل العمر وغائب عن الانظار بالشكل الذي ذكرناه في القسم الاول من هذا التاريخ واما الدجال فشخص يولد في حينه.
فان المهدي )ع) مذخور لثورة الحق وتطبيق الغرض الالهي الكبير. فهل بالامكان ان يقال: ان الدجال مذخور لثورة الباطل واغراء الناس بالجهل؟! وهل يصح ان يكون هذا غرضا الهيا، بشكل من الاشكال؟؟.
وانما الصحيح، انطلاقا من هذه الاطروحة، كون الدجال شخصا اعتياديا منحرفا أو كافرا يوفق لانتشار حكمه وسلطته على رقعة كبيرة من الارض.
فيكون كل من اتبعه على الباطل، وكل من خالفه على الحق.
واما على الاطروحة المقابلة، وهي التي تنفي ان يكون الدجال شخصيا بذاته وانما هو عبارة رمزية عن التيارات الكافرة والمنحرفة فكريا وسياسيا واقتصاديا... فهذا ما سنعرضه بشكل تفصيلي في الجهة الآتية. وقد يكون من الدليل عليها ما ورد من طول عمر الدجال على أي حال.
الامر الثاني:
ما ورد من منع الدجال دخول الحرمين: مكة والمدينة، بطريق اعجازي.
يدل عليه حديث الجساسة نفسه. اذ يقول فيه الدجال: "فلا أدع قرية الا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان عليّ كلتاهما. كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده سيف صِلتاً يصدني عنها".
وهذا الحديث غير صالح للاثبات التاريخي، بعد التشدد السندي الذي اتخذناه. وهو لا يوضح لماذا يحرم على الدجال دخول مكة والمدينة، ولماذا يمنع عنهما منها اعجازيا. فان كلا الامرين لا يصحان.

فان هذه الحرمة لا يخلو حالها من احد شكلين:
الشكل الاول:
ان تكون حرمة تكوينية قهرية، يخططها الله تعالى من أجل حفظ احترام البلدين المقدسين من ان يعبث الدجال فيهما فسادا.
وهذه الحرمة غير ثابتة لهذين البلدين جزما، والا لما أمكن احراق الكعبة في عهد يزيد بن معاوية الاموي. ولا استباحة المدينة ثلاثة ايام في وقعة الحرة. ولا هجوم القرامطة على الكعبة وسفكهم الدماء في المسجد الحرام وخلعهم الحجر الأسود ونقله إلى هجر.
واذا لم تكن مكة والمدينة محصنتين تحصينا إلهياً قهرياً ضد هذه الحوادث وامثالها، فلا معنى لمنع الدجال عنهما بهذا الشكل على أي حال.
الشكل الثاني:
ان تكون الحرمة تكليفية، تشبه في فكرتها حرمة القتل والسرقة، مع امكان الفعل بحسب أصله. وتنشأ هذه الحرمة من أحد سببين محتملين، ان تم أحدهما فهو، والا كانت منتفية أيضا.
السبب الاول:
ان الدجال شخص كافر نجس، كالكلب والخنزير في نظر الاسلام.
فيحرم عليه دخول الحرمين المقدسين.
ولا نريد ان نناقش في كفر الدجال ونجاسته، الا ان حرمة دخوله، على هذا التقرير، من تكليف المسلمين، فيجب عليهم دفعه عنها وصده عن دخولها ان استطاعوا. أما هو فلا يشعر بهذه الحرمة، لانه كافر، وهو خلاف ظاهر الحديث.
السبب الثاني:
ان يكون سبب الحرمة تحصين اهل مكة والمدينة من الغواية والانحراف الذي يعطيه الدجال.
وهذه الحرمة صحيحة، وثابتة لمعطي الانحراف واخذه. الا انها غير مختصة باهل مكة، بل شاملة لكل الناس. على انها قد شرعت لاجل وضع الناس تحت التمحيص، ومن حيث اطاعة هذا التشريع وعصيانه، بما في ذلك اهل الحرمين والدجال نفسه، فلا معنى لان يكون التحصين مكتسبا اهمية وقوة فوق درجة التمحيص الالهي. ولئن كان الحرمان مقدسين في الاسلام، فان ساكنيهما كسائر الناس، لم يثبت لهما أفضلية عن الآخرين.
ومعه فالصحيح، ان الله تعالى اذا اراد منع الدجال من دخول مكة والمدينة، بشكل لا يزيد المخطط العام للدعوة الالهية، فانه يوجد أحد امرين:
الامر الاول:
ان يصرف الله تعالى ذهن الدجال وهمته اساسا عن غزو هاتين المدينتين أو دخولهما، بشكل لا يستلزم الجبر ولا الاعجاز، فمثلا يمكن أن تصبح ظروف الدجال بشكل يدرك بوضوح عدم مطابقة دخول المدينة ومكة مع مصالحة.
الامر الثاني:
ان يمنع الدجال من دخولهما من قبل المسلمين الصالحين، عن طريق الحرب أو غيرها.
هذا كله طبقا للفهم الكلاسيكي للدجال.
الامر الثالث:
اختلاف الزمان عما هو عليه الآن.
فمن ذلك: ما اخرجه مسلم. عن رسول الله (ص) وقد تحدث عن أيام الدجال. قال الراوي: "قلنا يا رسول الله، وما لبثه في الأرض. قال: اربعون يوما، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر ايامه كايامكم. قلنا يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كالسنة، اتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا. اقدروا له قدره".
وكما روى طول الزمان روى قصره أيضا.
أخرج البخاري. عن النبي (ص) انه قال: "يتقارب الزمان..." الخ.
وأخرج ابن ماجة. قال رسول الله (ص)- وهو يتحدث عن الدجال -: "وان أيامه أربعون سنة، كنصف سنة، والسنة كالشهر، والسنة كالجمعة، وآخر أيامه كالشررة، يصبح أحدكم على باب المدينة، فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي. فقيل له: يا رسول الله كيف نصلي في تلك الايام القصار. قال: تقدرون فيها الصلاة، كما تقدرونها في هذه الايام الطوال، ثم صلوا".
ويكفينا في بطلان الحديثين، تنافيهما وتعارضهما في المدلول، من حيث دلالة أحدهما على طول الزمن والآخر على قصره، في نفس الوقت، وهو عصر الدجال.
فان قال قائل: ليس الطول والقصر، على وجه الحقيقة، بل يراد به الكناية عن الجو النفسي الذي يعيشه المسلمون يومئذ. فانه من المحسوس وجدانا مع الأُنس والفرح ينقضي الزمان بسرعة، فكأنه قد قصر، ومع الهم والكمد ينقضي ببطء فكأنه قد طال.
قلنا: ان هذا التفسير يبطل الفهم الاعجازي للحديث، ويجعل المسألة نفسية طبيعية... لا انه لا يحل التعارض، لتهافت الخبرين من حيث الدلالة على الجو النفسي يومئذ. والمفروض هو الحديث عن الجو العام لدعم المسلمين، فهل هو جو الفرح لكي يكون الزمن قصيرا كما دل عليه أحد الخبرين، أو هو الحزن والكمد، لكي يكون الزمن طويلا، كما دل عليه الخبر الآخر. اذن فالتعارض لا زال موجودا.
فان قال قائل: لعل حركة الدجال تحدث في بلاد السويد والنرويج التي يختلف فيها نظام الايام عن نظامنا.
قلنا: هذا لا يمكن حمل الحديث عليه لوجهين:
الوجه الاول:
ان المفروض في الفهم الاعتيادي للدجال، هو خروجه في بلاد الاسلام، وما أخرجه ابن ماجة صريح في أن المسألة لا تعدو الحجاز والعراق والشام. فراجع، في حين ان البلاد الاسكندنافية ليست في بلاد الاسلام.
الوجه الثاني:
ان النظام المعطى في الحديث للايام فذ في بابه فالحديث الذي يخبرنا عن طول الزمان يقول: ان يوما واحدا من أيام الدجال طوله كطول سنة واليوم الذي بعده كطول شهر واليوم الذي بعده طوله كطول اسبوع. وباقي الايام إلى الآخر كأيامنا اعتيادية.
والحديث الذي يخبرنا عن القصر، يقول: ان السنة نفسها تصغر تدريجا، فتصبح أولا كطول ستة أشهر، ثم طول شهر ثم كطول الاسبوع، وهكذا حتى تبقى الايام في النهاية كالشرارة الواحدة، وتكون السنة عبارة عن 360 شرارة. قد لا تعدو الساعة الواحدة الزمنية.
ومثل هذا النظام في الطول أو القصر، لا يوجد في أي مناطق العالم كما هو معلوم.
فاذا عرفنا ان ايجاد هذا النظام الجديد في أيام الدجال، بالمعجزة، لا مبرر له، بل يكون في مصلحة الدجال نفسه، عرفنا عدم صحة هذه الاخبار. ما لم تدخل في فهم منظم متكامل جديد، سنذكره في الجهة الآتية انشاء الله تعالى.
الأمر الرابع:
قتل الدجال لمؤمن ثم احياؤه له.
فمن ذلك ما أخرجه مسلم. عن أبي سعيد الخدري، قال: "حدثنا رسول الله (ص) حديثاً طويلاً عن الدجال، فكان فيما حدثنا أن قال: يأتي وهو محرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة. فيخرج اليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس. فيقول له: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله (ص) حديثه".
فيقول الدجال: أرأيتم ان قتلت هذا ثم أحييته، أتشكون في الأمر.
فيقولون: لا. قال: فيقلته ثم يحييه. فيقول حين يحييه: والله ما كنت فيك أشد قط بصيرة مني الآن. قال: فيريد الدجال أن يقتله، فلا يسلط عليه".
وفي حديث آخر لمسلم. عن رسول الله (ص) يقول فيه:"فان رآه المؤمن قال: يا أيها الناس، هذا الدجال الذي ذكر رسول الله (ص). قال: فيأمر الدجال به فيشج، فيقول: خذوه وشجوه، فيوسع بطنه وظهره ضرباً. قال: فيقول: أو ما تؤمن بي، فيقول أنت المسيح الكذاب.
قال: فيؤمر به فيؤشر بالمئشار من مفرقه حتى يفرّق بين رجليه. قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين. ثم يقول له: قم. فيستوي قائماً. قال: ثم يقول له أتؤمن بي. فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة.
ثم يقول: يا أيها الناس، انه لا يفعل بعدي بأحد من الناس. قال: فيأخذه الدجال ليذبحه، فُيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاساً، فلا يستطيع إليه سبيلاً.
فيأخذ بيديه ورجليه، فيقذف به، فيحسب الناس إنما قذفه في النار، وإنما اُلقي في الجنة. فقال رسول الله (ص): هذا أعظم شهادة عند رب العالمين".
وهذا المضمون الذي يدل عليه ظاهر العبارة، بأن تمكين الله تعالى للدجال من إقامة المعجزات، يراد به فضحه وكشف كفره وغلطته للناس عن طريق صمود هذا المؤمن أمامه.
إلا أن هذا الدفاع غير صحيح، فأنه إنما يصح على تقدير انحصار أسلوب فضحه وكشف دجله بذلك. إلا أنه من المعلوم عدم انحصاره بذلك. إذ يمكن أن تكشف عنه أفعاله، عن طريق التمحيص الذي يمر به، فيوجب فضح نفسه بنفسه ويجري إلى حتفه بظلفه، كالذي نرى من المبادئ المنحرفة اليوم، ومن بعض الجبابرة السابقين، الذين لم يخلفوا بعدهم إلا الكراهة، كالحجاج وطغرل بك وتيمورلنك واضرابهم. ومعه لا حاجة إلى إقامة المعجزات من أجل كشفه.
ويدلنا على ذلك قول المؤمن - في نفس الرواية -: "يا أيها الناس، انه لا يفعل بعدي بأحد من الناس. يبشرهم بأنه لن يقتل أحداً بعده. ومعنى ذلك أن قتله للناس معروف فيهم مشهور بينهم، والتذمر من ظلمه عام في المجتمع. حاله في ذلك حال سعيد بن جبير الذي دعا حين أراد الحجاج قتله قائلاً: "اللهم لا تسلطه على أحد بعدي". في قضيته المشهورة. ومعه فلا حاجة إلى قيام المعجزة لكشفه.
هذا بحسب ظاهر العبارة. وأما حمل هذه الأحاديث على الرمز، فهو في غاية الاشكال.
الأمر الخامس: ضخامة الحمار الذي يركبه الدجال:
وذلك: فيما رواه الصدوق في اكمال الدين. عن رسول الله (ص) يقول فيه. "أنه يخرج على حمار ما بين أذنيه ميل، يخرج ومعه جنة ونار، وجبل من خبز ونهر من ماء..." الخ. الحديث.
ومن المعلوم أن ما بين أذني الحمار الاعتيادي لا يعدو عرض الأصبعين أو الثلاثة أصابع. فإذا كان هذا المكان منه بمقدار ميل، فيكف بضخامة أجزاء جسده الأخرى.
وهذا - بلا شك - من فوارق الطبيعة المنسوبة إلى أحد المبطلين، وقد برهنا على عدم امكان الأخذ به أو التصديق به، بحسب القواعد الاسلامية العامة.
نعم، يمكن حمله على ما سيأتي في الجهة الآتية: عطفاً على عدد من الأمور التي أخرجها الصدوق من صفات الدجال، مما يمكن حمله على الرمز، ويندرج في الفهم المتكامل العام، على ما سنوضح إن شاء الله تعالى.
وأما أن معه جبلاً من خبز ونهراً من ماء، فهو معارض، بما أخرجه الصحيحان .عن المغيرة بن شعبة أنه قال: - واللفظ للبخاري -: "ما سأل أحد النبي (ص) عن الدجال ما سألته: وأنه قِال لي: ما يضرك منه؟ قلت: لأنهم يقولون أن معه جبل خبز ونهر ماء. قال: هو أهون على الله من ذلك". وسيأتي تفسير ذلك، بشكل يرتفع به التعارض بين هذين الخبرين، فانتظر.الموسوعة ج2 ص 481.

النقطة الثالثة: ظهور الدجال:
وقد اختصت به المصادر العامة تقريبا، وليس في المصادر الامامية إلا النزر القليل. وأما في مصادر العامة فالأخبار عنه وعن صفاته أكثر من أن تحصى، وقد نسبت إليه كثيرا من الضرائب، لا بد من تمحيصها بغض النظر عن حملها على الرمز - وهو ما سنتكلم عنه فيما بعد - لنرى ما يتم منها، وما لا يتم. ونتكلم عن ذلك ضمن أمور:
الأمر الأول:
مقتضى القواعد العامة التي عرفناها، لزوم الاعتراف بخروج الدجال، اجمالاً.
لأن الأخبار الدالة على وجوده بالغة حد التواتر القطعي بلا شك. لكن صفاته وتفاصيل خصائصه لا تثبت، لأنها واردة - في الأغلب - في أخبار آحاد لا يمكن بالتشدد السندي الأخذ بها. ومعه يكون هناك مجال كبير في حمله وحمل عدد من صفاته على الرمز، على ما سوف يأتي.
الأمر الثاني:
فيما أخرجتته المصادر العامة من صفاته.
ونحن نكتفي بما أخرجه الصحيحان توخيا للاختصار، ما لم تدع حاجة خاصة إلى التوسع.
أولاً: أن النبي ص حذر أمته منه.
أخرج البخاري. عن أنس قال: "قال ص: ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور والكذاب. إلا أنه أعور وإن ربكم ليس بأعور". وأخرج مسلم. نحوه.
ثانياً: أن النبي ص استعاذ من فتنته:
أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "سمعت رسول الله ص يستعيذ في صلاته من فتنة الدجـال".
ثالثاً: أنه كافر.
أخرج البخاري في الحديث السابق عن أنس: "وأن بين عينيه مكتوب: كافر" وأخرج مسلم. في حديث: "مكتوب بين عينيه: كافر. يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب".
رابعاً: أنه يدعي الربوبية.
أخرج ابن ماجة. عن رسول الله ص في صفة الدجال. وفيه يقول: "أنه يقول:أنا ربكم". وفيما أخرجه الصدوق من خبر الدجال. ما يدل على ذلك.
إذ يقول عن الدجال أنه: "ينادي بأعلى صوته يسمع ما بين الخافقين من الجن والانس والشياطين. يقول: "إليًّ أوليائي، أنا الذي خلق فسوى وقدّر فهدى، أناربكم الأعلى".

وقد نوقشت دعواه هذه في الأخبار بعدة وجوه:
الوجه الأول:
قول النبي ص- فيما روى ابن ماجة -: "ولا ترون ربكم حتى تموتو". والمراد الاستدلال برؤيته في الحياة على عدم كونه إلهاً، لأن الله تعالى لا يرى.
الوجه الثاني:
قول النبي ص فيما سمعناه: "وأنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كاتب وغير كاتب".
الوجه الثالث:
" أنه يطعم الطعام ويمشي في الأسواق. وإن ربكم لا يطعم الطعام ولا يمشي في الأسواق ولا يزول تعالى الله عن ذلك علواً كبيراًَ.
الوجه الرابع:
"أنه أعور وأن الله ليس بأعور".
وقد أخرج الشيخان ذلك، وهو مما يؤيد فكرة دعواه للربوبية، بالرغم من أنهما لم يخرجا ما يدل عليها صريحاً... إذ لا تصلح هذه الأخبار إلا لمناقشة هذه الدعوى، وإلا كان التأكيد على كونه أعور، أمراً مستأنفاً.
أخرج البخاري. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: "قام رسول الله 9 في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال: اني لأنذركموه. وما من نبي إلا وقد أنذر قومه. ولكني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه. انه أعور، وأن الله ليس بأعور".
وأخرج في حديث آخر. عن صفته أنه: رجل جسيم أحمر جعد الرأس أعور العين كأن عينه عنبة طافية".
وأخرج مسلم. في حديث: إلا أنه أعور وإن ربكم ليس بأعور". وفي حديث آخر: "الدجال أعور العين اليسرى". وفي حديثين آخرين: "أنه ممسوح العين".
وتجد هذا المضمون في سائر الصحاح وفي مسند أحمد ومستدرك الحاكم وغيرها،بشكل مستفيض.
خامساً: طول عمره. وهو مما لم ينص عليه الشيخان في صحيحيهما صراحة. وقد أخرج مسلم ما يدل على ذلك بغير الصراحة. وهو أمران:
الأمر الأول:
حديث الجساسة. الذي يقول فيه الدجال عن نفسه: "أنا المسيح واني أوشك أن يؤذن لي في الخروج: فاخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها... الخ". وحيث نعلم أن الدجال لم يؤذن له بالخروج إلى حد الآن، إذن فهو لا زال باقياً إلى حد الآن، وسيبقى إلى حين يؤذن له بالخروج.
الأمر الثاني:
أخبار ابن صياد التي تدل جملة منها أنه كان معاصراً للنبي ص ولم يؤمن به. كالخبر الذي أخرجه مسلم. عن عبد الله قال: "كنا مع رسول الله ص فمررنا بصبيان فيهم ابن صياد، ففر الصبيان وجلس ابن صياد. فكأن رسول الله ص كره ذلك. فقال له النبي ص: تربت يداك. أتشهد أني رسول الله؟ فقال: لا بل أني رسول الله. فقال عمر بن الخطاب: ذرني يا رسول الله حتى أقتله. فقال رسول الله ص: ان يكن الذي ترى فلن تستطيع قتله". وفي حديث اخر. "ان رسول الله ص قال: أن يكنه فلن تسلط عليه وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله".
ومن الواضح دلالة مثل هذا القول على وجود غرض إلهي في حفظ حياته، والمنع عن قتله، ليكون هو دجال المستقبل!!.
وبعض الأخبار التي أخرجها مسلم. تدل على تكذيب ابن صياد نفسه للشائعة التي تقول أنه الدجال... وقد سبق أن روينا بعضها.
سادساً: قتله للمؤمن واحياؤه له. وقد خرّج الشيخان ذلك، وقد سبق أن نقلناه وناقشناه.
سابعاً: "إن معه ماءاً وناراً".
فمن ذلك ما أخرجه البخاري. عن النبي ص أنه قال في الدجال: "أن معه ماءاً وناراً، فناره ماء بارد وماؤه نار".
وأخرج مسلم. "إن الدجال يخرج وان معه ماءاً وناراً. فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس ناراً فماء بارد عذب. فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه ناراً، فانه ماء عذب طيب".
وأخرج في حديث آخر: "أنه يجيئ معه مثل الجنة والنار، فالتي يقول أنها الجنة هي النار".
ثامناً: "اختلاف نظام الزمان في عهده". وقد سبق أن رويناه وناقشناه.
وتاسعاً: "أنه أهون على الله من ذلك". وظاهره نفي أن يكون معه جبل خبز ونهر ماء. وقد سبق أن رويناه عن كلا الصحيحين.
عاشراً: ما رواه ابن ماجة. "إن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت. وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه، فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت. وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه، فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه وأمده خواصراً وأدره ضروعاً. وأنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه، إلا مكة والمدينة..." الحديث.
حادي عشر: "أنه ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال".
أخرجه مسلم. وفي حديث آخر أنه قال: "أمر أكبر من الدجال".
ثاني عشر: "أنه يقلته المسيح عيسى بن مريم عند نزوله".
وقد أخرج مسلم أكثر من حديث دال على ذلك. فمن ذلك. قوله ص عن الدجال: "فبينما هو كذلك، إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين... فيطلبه حتى يدركه بباب لُد فيقتله".
وفي حديث آخر قال رسول الله ص: "يخرج الدجال في أمتي أربعين... فيبعث الله عيسى بن مريم، كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه، فيهلكه".
فهذه هي المهم من صفات الدجال في المصادر العامة الأساسية.
الأمر الثالث: في تمحيص هذه الصفات:
لا شك أنه بغض النظر عن الفهم الرمزي الشامل لهذه الأخبار، لا يصح شيء من هذه الصفات تقريباً. فإننا إذا أخذنا بالتشديد السندي، فالامر واضح، لأن هذه الأخبار - في غالبها - آحاد لا يمكن الاعتماد عليها. وإن غضضنا النظر عن الشتدد، نرى أن هذه المضامين اعجازية المحتوى منسوبة إلى الدجال وهو من أشد الناس كفراً وطغياناً. وقد سبق أن بينا عدم إمكان ذلك.
ولعمري، إن كلتا نقطتي الضعف هاتين: ضعف السند وإيجاد المعجزات المنحرفة، مستوعبتان للأعم الاغلب من هذه الصفات، ما عدا صفات طفيفة ككونه أعور العينين!! فإنه مستفيض النقل في الأخبار.
ومعه يدور الأمر بين شيئين لا ثالث لهما، فأما أن نرفض هذه الأخبار تماماً. وأما أن نحملها على معنى رمزي مخالف لظاهرها. ومن الواضح رجحان الحمل على المعنى الرمزي على الرفض التام. وبخاصة وأن مجموع هذه الأخبار متواتر عن النبي . ولا نحتمل فيه - وهو القائد الرائد للأمة الإٍسلامية - أن يربي الأمة على مثل هذه العجائب والسفاسف. فيتعين أن يكون المراد الحقيقي معانٍ اجتماعية حقيقية واسعة، عبر عنها النبي . بمثل هذه التعابير طبقاً لقانون: حدث الناس على قدر عقولهم. آخذاً للمستوى الفكري والثقافي لعصره بنظر الاعتبار. ومن هنا ينفتح باب الأطروحة الثانية لفهم الدجال. وهي التي سنتعرض لها في الناحية الثانية الآتية.
وعلى كل حال، سواء رفضنا هذه الأخبار، أو حملناها على غير ظاهرها، فإن المفهوم - على كلا التقديرين - إن وجود الدجال أمر محق، ولكنه ليس رجلاً معيناً متصفاً بهذه الصفات التي يدل عليها ظاهر هذه الأخبار. ولم يتحقق ذلك فيما سبق، ولن يتحقق في المستقبل. وإنما هو عبارة عن ظواهر اجتماعية عالمية كافرة، سيأتي التعرض لها إن شاء الله تعالى. الموسوعة ج2 ص517

وإن أهم وأعم ما يواجهنا في هذا الصدد، مفهوم الدجال، الذي يمثل الحركة أو الحركات المعادية للاسلام في عصر الغيبة عصر الفتن والانحراف... بادئاً بالأسباب الرئيسية وهي الحضارة الأوروبية بما فيها من بهارج وهيبة وهيمنة على الرأي العام العالمي، ومخططات واسعة... ومنتهياً إلى النتائج وهو خروج عدد من المسلمين عن الإسلام واعتناقهم المذاهب المنحرفة، وما يعم الافراد والمجتمعات من ظلم وفساد.
فليس هناك ما بين خلق آدم إلى يوم القيامة خلق منحرف أكبر من الدجال. باعبتار هيبة الحضارة الأوربية وعظمتها المادية ومخترعاتها وأسلحتها الفتاكة، وتطرفها الكبير نحو سيطرة الإنسان والالحاد بالقدرة الالهية... بشكل لم يعهد له مثيل في التاريخ، ولن يكون له مثيل في المستقبل أيضاً. لأن المستقبل سيكون في مصلحة نصرة الحق والعدل.
ويؤيد هذا الفهم قوله في الخبر الآخر: "ليس ما بين خلق آدم إلى يوم القيامة أمر أكبر من الدجال". والتعبير بالأمر واضح في أن الدجال ليس رجلاً بعينه وإنما هو اتجاه حضاري معاد للاسلام.
"وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، وأن يأمر الأرض أن تنبت فتنبت" وكل هذا وغيره مما هو أهم منه من أنحاء السيطرة على المرافق الطبيعية مما أنتجته الحضارة الأوربية.
ولا يخفى ما في ذلك من الفتنة، فإن أعداداً مهمة من أبناء الإسلام حين يجدون جمال المدينة الأوربية، فأنهم سوف يتخيلون صدق عقائدها وأفكارها وتكوينها الحضاري بشكل عام. وهذا من أعظم الفتن والأوهام التي يعيشها الأفراد في العصور الحاضرة. وهي غير قائمة على أساس صحيح. إذ لا ملازمة بين التقدم التكتيكي المدني والتقدم العقائدي والفكري والأخلاقي... يعني لا ملازمة بين الجانب الحضاري والجانب المدني في المجتمع فقد يكون المجتمع متقدماً إلى درجة كبيرة في الجانب المدني ومتأخراً إلى درجة كبيرة في الجانب الحضاري... كما عليه المجتمع الأوربي. كما قد يكون العكس موجوداً أحياناً في مجتمع آخر.
"وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه، فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه، وأمدّه خواصراً وأدرّه ضروعاً".
وهذا يعني على وجه التعيين: أن المكذب للمد المادي الأوربي والواقع أمام تياره يمنى بمصاعب وعقبات ويكون المال والقوة إلى جانب السائرين في ركابها المتملقين لها المتعاونين معها. والتعبير بالحي يعني النظر إلى المجتمع على العموم.
وهذا هو الصحيح بالنسبة إلى المجتمع المؤمن في التيار المادي، إذ لو نظرنا إلى المستوى الفردي، فقد يكون في إمكان الفرد المعارض أن ينال تحت ظروف معينة قسطاً من القوة والمال.
والدجال أيضاً يدعي الربوبية إذ ينادي بأعلى صوته يسمع ما بين الخافقين... يقول: "إليّ أوليائي، أنا الذي خلق فسوى وقدر فهدى أنا ربكم الأعلى".
وكل ذلك واضح جداً من سير الحضارة الأوربية وأسلوبها. فإنها ملأت الخافقين بوسائل الإعلام الحديثة بماديتها، وعزلت البشر عن المصدر الالهي والعالم العلوي الميتافيزيقي، فخسرت بذلك العدل والأخلاق والفكر الذي يتكلفه هذا المصدر. وأعلنت عوضاً عن ذلك ولايتها على البشرية وفرضت ايديولوجيتها على الأفكار وقوانينها على المجتمعات، بدلاً عن ولاية الله وقوانينه. وهذا يعني ادعاءها الربوبية على البشر أي أنها المالكة لشؤونهم من دون الله تعالى.
ومن الملحوظ في هذا الصدد، أن الوارد في الخبر أن الدجال يدعي الربوبية، لا أنه يدعي الالوهية... والربوبية لا تحمل إلا المعنى الذي أشرنا إليه.
وأما دعوتها، لأوليائها من أطراف الأرض، ليتم تثقيفهم الفكري وتربيتهم الأخلاقية والسلوكية تحت إشرافها، ولترتبط مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية بها... فهذا أوضح من أن يذكر أو يسطر.
"ولا يبقى شيء من الأرض إلى وطئه وظهر عليه" وهو ما حدث فعلاً بالنسبة إلى شمل التفكير الأوربي في كل البسيطة. فليس هناك دولة في العالم اليوم لا تعترف بالاتجاهات العامة للفكر والقانون الأوربي. ونريد بأوربا كِلَيْ قسميها الرأسمالي والشيوعي. فان كليهما معاد للاسلام، وممثل للدجال بأوضح صوره.
وأما استثناء مكة والمدينة من ذلك، فقد يكون محمولاً على الصراحة، وقد يكون محمولاً على الرمز. أما حملها على الصراحة، فيعني أن سكان هاتين المدينتين المقدستين سوف لن يعمهما الفكر الاوربي والمد الحضاري المادي. بل يبقى سكانها متمسكين بالإسلام، بمقدار ما يفهمونه، صامدين تجاه الاغراء الأوربي إلى حين ظهور المهدي (ع).
وأما حملها على الرمزية، فهو يعني أن الفكرة الألهية المتمثلة بمكة، والفكرة الإسلامية المتمثلة بالمدينة المنورة، لا تنحرف بتأثير المد الاوربي، بل تبقى صامدة، محفوظة في أذهان أهلها وإيمانهم. وهذا يدل على انحفاظ الحق في الجملة بين البشر، وأن الانحراف لا يشمل البشر أجمعين، وإن كانت نسبة أهل الحق إلى غيرهم، كنسبة مكة والمدينة إلى سائر مدن العالم كله.
وهذا مطابق لما عرفناه من نتائج التخطيط الالهي، ببقاء قلة من المخلصين الممحصين المندفعين في طريق الحق. وأكثرية من المنحرفين والكافرين. ويكون لأولئك القلة المناعة الكافية ضد التأثر بالأفكار المادية والشبهات المنحرفة. بل أن هذه الشبهات لتزيدهم وعياً وإيماناً وإخلاصاً.
وهذا هو معنى ما ورد في بعض أخبار الدجال من منعه عن مكة والمدينة بواسطة ملك بيده سيف مصلت يصده عنها، وأن على كل نقب ملائكة يحرسونها. فإن تشبيه العقيدة الإسلامية بالملك ومناعتها بالسيف مما لا يخفي لطفه. وأما كون الملائكة على كل نقب، فهو يعني الإدراك الواعي للمؤمن بأن للاسلام حلاً لكل مشكلة وجواباً على كل شبهة، فلا يمكن لشبهات الآخرين أن تغزو فكره أو تؤثر على ذهنه.
والدجال طويل العمر، باق من زمن النبي (ص) حين لم يؤمن برسالته من ذلك الحين، بل ادعى الرسالة دونه، ولا زال على هذه الحالة إلى الآن.
فإن الدجال أو المادية، تبدأ أسسها الأولى من زمن النبي (ص) حيث كان للمنافقين أثرهم الكبير في ادكاء أوراها ورفع شأنها. فكانوا النواة الأولى التي حددت تدريجاً سير التاريخ على شكله الحاضر، بانحسار الإسلام عن وجه المجتمع في العالم وسيطرة المادية والمصلحية عليه.
إذن فالمنافقون الذين لم يؤمنوا برسالة النبي (ص)، أولئك الذين كان مسلك الدجال والخداع مسلكهم إذ يظهرون غير ما يبطنون، هم النواة الأولى للمادية المخادعة التي تظهر غير ما تبطن، وتبرقع قضايا بمفاهيم العدل والمساواة. فهذا هو الدجال، بوجوده الطويل.
ومن هنا نفهم معنى ادعائه للرسالة، فإن المادية كانت ولا زالت تؤمن بفرض ولايتها على البشر، غير أنها كانت في المجتمع النبوي ضعيفة التأثير جداً، لا تستطيع الارتباط بأي انسان. ولكن حين أُذن للدجال المادي بالخروج، في عصر النهضة الأوربية، استطاعت المادية أن تفرض ولايتها وسلطتها على العالم.
ومن هذا المنطلق نفهم بكل وضوح معنى أنه عند الدجال ماء ونار، وماؤه في الحقيقة هو النار، وناره هي الماء الزلال. وقال النبي (ص)- في الحديث -: "فمن أدرك ذلك فليقع في الذي يراه ناراً فأنه ماء عذب طيب".
فإن ماء الدجال هو المغريات والمصالح الشخصية التي تتضمنها الحضارة المادية لمن تابعها وتعاون معها. وناره عبارة عن المصاعب والمتاعب والتضحيات الجسام التي يعانيها الفرد المؤمن الواقف بوجه تيار المادية الجارف. وتلك المصالح هي النار أو الظلم الحقيقي، وهذه المصاعب هي الماء العذب أو العدل الحقيقي.
ومن الطبيعي أن النبي (ص) بصفته الداعية الأكبر للايمان الالهي، ينصح المسلم بأن لا ينخدع بماء الدجال وبهارج الحضارة ومزالق المادية، وأن يلقي بنفسه فيما يراه ناراً ومصاعب، فإنه ينال بذلك طريق الحق والعدل.
ونستطيع في هذا الصدد أن نفهم: أن نفس سياق الحديث ولهجته دال على ذلك. فإن قوله: "فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس ناراً فماء بارد عذب". يكاد يكون أيضاً واضحاً في أنه ليس المراد به الماء والنار على وجه الحقيقة، بل هو ماء ونار على وجه الرمز. وإلا لزم نسبة المعجزات إلى المبطلين، وقد برهنا على فساده.
ومن طريف ما نستطيع أن نلاحظه في المقام: أن النبي (ص) لم يقل في الخبر: أن الناس جميعاً حين يقعون في الماء فإنهم يجدونه ناراً أو حين يقعون في النار، يجدونها ماء. بل يمكن أن نفهم أن بعض الناس وهم المؤمنون خاصة هم الذين يجدون ذلك. وإلا فإن أكثر الناس حين يقعون في ماء الدجال أو بهارج المادية لا يجدون إلا اللذة وتوفير المصلحة، كما أنهم حين يقعون في المصاعب والمتاعب لا يجدون إلا الضيق والكمد.
والدجال أعور، نعم بكل تأكيد، من حيث أن الحضارة المادية تنظر إلى الكون بعين واحدة، تنظر إلى مادته دون الروح والخلق الرفيع والمثل العليا. ومن يكون الأعور إلا غير المدرك للحقائق ربا صالحاً للولاية على البشرية... وإنما تكون الولاية خاصة بمن ينظر إلى الكون بعينين سليمتين، بما فيه من مادة وروح ويعطي لكل زاوية حقها الأصيل "وإن ربكم ليس بأعور".
والدجال كافر، لأنه مادي ومن أعداء الإسلام وأبعدهم عن الحق والصواب: "مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب" فإن هذه الكتابة ليست من جنس الكتابة! وإنما هي تعبر عن معرفة المؤمنين بكفر المنحرفين ونفاقهم، وهذا لا يتوقف على كون الإنسان قارئاً وكاتباً أو لم يكن. ومن المعلوم اختصاص هذه المعرفة بالمؤمنين "يقرؤه كل مؤمن" لأنهم يعرفون الميزان الحقيقي العادل لتقييم الناس. وأما المنحرفون، فهم لا يقرأون هذه الكتابة، وإن كانوا على درجة كبيرة من الثقافة. لأنهم مماثلون لغيرهم في الكفر والانحراف. ومن الطبيعي أن لا يرى الفرد أخاه في العقيدة كافراً.
ومن أجل هذا كله حذر النبي (ص) منه أمته واستعاذ من فتنته، لأجل أن يأخذ المسلمون حذرهم على مدى التاريخ من النفاق والانحراف والمادية. بل قد حذر كل الأنبياء أممهم من فتنة الدجال. لما سبق أن فهمنا أن المادية السابقة على الظهور هي من أعقد وأعمق الماديات على مدى التاريخ البشري "ما بين خلق آدم إلى يوم القيامة" وتشكل خطراً حقيقياً على كل الدعوات المخلصة للأنبياء أجمعين.
وهو بالرغم من ذلك كله ـ "أهون على الله من ذلك" باعتباره حقيراً أمام الحق والعدل. مهما كانت هيمنته الدنيوية وسعة سلطته. وليس وجوده قدراً قهرياً أو أثراً تكوينياً اضطرارياً، وإنما وجد من أجل التمحيص والاختبار، بالتخطيط الالهي العام، وسوف يزول، عندما يقتضي هذا التخطيط زواله، عند الظهور، وتطبيق يوم العدل الموعود.
ومن هنا نفهم أنه لا تعارض بين الخبر الدال على أن معه جبل خبز ونهر ماء، والخبر الدال على أنه أهون على الله من ذلك. فإن هوانه عند الله لا ينافي حصوله على السلطة والإغراء، أخذاً بقانون التمحيص والامهال الالهي طبقاً لقوله تعالى: "حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها، أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً؛ فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس. كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون. فهذه هي الفكرة العامة الرمزية عن الدجال.
الموسوعة ج2ص 532

وقد سبق أن عرضناه مفصلاً في التاريخ السابق، وقدمنا هناك الفهم المتكامل عنه، والمناسب مع كل ما ورد وثبت عنه من الخصائص والصفات.
وإنما كررنا العنوان في التاريخ، باعتبار ما دلت عليه بعض الأخبار، مما سيأتي من قرب ظهور الدجال إلى ظهور المهدي (ع)، فيكون من العلامات القريبة للظهور، التي نحن بصددها. وهذا ممكن الصدق على كلا الفهمين اللذين قدمناهما للدجال في التاريخ السابق.
وسوف لن نكرر ما ذكرناه هناك، بطبيعة الحال، وإنما المهم هنا أن نسير خطوات أخرى إلى الأمام في فهم الدجال، ونؤكد على مدى علاقة الدجال بالمهدي والمسيح (ع)، وإيراد ما ورد في ذلك من الأخبار ونحوها من الخصائص التي لم نتوفر على عرضها في التاريخ السابق.
الناحية الأولى: موقف الدجال من الأمة الإسلامية، ومدى تأثيره فيها، ذلك التأثير الذي نستطيع أن نفهم استمراره إلى حين الظهور. ويواجهنا بهذا الصدد عدد من الاخبار، نذكر ما أورده الشيخان من العامة وبعض الإمامية.
أخرج مسلم[[1]] بسنده عن حذيفة، قال: قال رسول الله (ص) لأنا أعلم بما مع الدجال منه. معه نهران يجريان أحدهما: رأي العين ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج. فأما أدركن أحد، فليأت النهر الذي يراه ناراً، وليغمض، ثم ليطأطىء رأسه فيشرب منه، فإنه ماء بارد. وإن الدجال ممسوح العين، عليها ظفرة غليظة ومكتوب. بين عينيه: كافر. يقرأه كاتب وغير كاتب.
وفي حديث آخر أخرجه[[2]] أيضاً عن النواس بن سمعان، قال: ذكر رسول الله الدجال، إلى أن قال: إنه خارج خلة بين الشام والعراق. فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عبد الله فانبثوا. إلى أن قال: فيدعوهم فيؤمنون ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت. فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذراً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر.
ثم يأتي القوم فيردون عليه قوله. فينصرف عنهم. فيصبحون ممحلين، ليس بأيديهم شيء من اموالهم... الخ.
وأخرج البخاري[[3]] عن أنس بن مالك، قال: قال النبي (ع): يجيء الدجال حتى ينزل في ناحية المدينة، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق.
وأخرج الصدوق[[4]] بإسناده عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يتحدث عن الدجال ويقول عنه: ينادي بأعلى صوته يسمع ما بين الخافقين... يقول: إليّ أوليائي. أنا الذي خلق فسوى وقدر فهدى أنا ربكم الأعلى، وكذب عدو الله، إنه أعور يطعم الطعام ويمشي في الأسواق. وإن ربكم ليس بأعور ولا يطعم ولا يمشي في الأسواق، ولا يزول تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ألا وإن أكثر أتباعه يومئذ اولاد الزنا، وأهل الطيالسة الخضر... الخ الحديث. وغير ذلك من الأخبار.
وقد أعطينا في التاريخ السابق أطروحتان لفهم الدجال إحداهما: تقليدية تقول أن الدجال شخص معيّن طويل العمر، سيظهر في آخر الزمان من أجل ضلال الناس وفتنتهم عن دينهم. ويدل عليه قليل من الأخبار[[5]]. والأخرى: إن الدجال عبارة عن مستوى حضاري أيديولوجي معين معاد للإسلام والإخلاص الإيماني ككل. وقد سبق هناك أن ناقشنا الأطروحة الأولى ورفضناها بالبرهان، ولا بد من طرح ما دل عليها من الأخبار، ودعمنا الأطروحة الثانية وهي، التي ستكون منطلق كلامنا الآن.
ونحن نعلم، فيما يخص الحضارة المادية المعاصرة، كيف استطاعت غزو المجتمع المسلم فكرياً وعسكرياً ونادت بأعلى صوتها فأسمعت ما بين الخافقين، عن طريق وسائل الإعلام الحديثة. فجمعت إليها أولياءها، وهم كل من يؤمن بعظمتها وصدقها وأغراه العيش بين أكنافها.
ونرى كيف أنها أمدت هؤلاء بالخير الوفير والقوة والسيطرة "فتروح سارحتهم" أي أغنامهم، وهو كناية أو رمز عن كل مصدر للمال والقوة "أطول ما كانت ذروعاً وأسبغه وامده خواصر" يكنى بذلك عما ينال المنحرفون من خير الحضارة المادية وما تستطيع هذه الحضارة أن تضمنه لهم من مستقبل عريض.
على حين نرى الخاصة المخلصين، الذين شجبوا هذه الحضارة، وأنكروا عليها ماديتها و أخلاقيتها وظلمها، يعيشون في الضيق والضرر "يصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم" كما يقول الخبر.
"يجيء الدجال" ممثل هذه الحضارة "حتى ينزل في ناحية المدينة" أي مدينة، ليس له فيها إلا مركز واحد غير ملفت للنظر، قد يكون هو سفارة وقد يكون مركز تبشير وقد يكون مدرسة أو مستشفى. ولكن بمضي الأيام والليالي "ترجف المدينة ثلاث رجفات" خلالها، وهو كناية أو رمز عن المصاعب والمحن التي تمر بها المجتمعات، وهي محن التمحيص دائماً "فيخرج إليه كل كافر ومنافق" فاشل في التمحيص.
وقد ذكرنا في التاريخ السابق[[6]] معنى ادعاء الدجال للربوبية، وإن له نهران... طبقاً لهذه الأطروحة... فلا نعيد.
"أكثر اتباعه أهل الطيالسة الخضر" وهم - حسب ما يبدو - أهل الأموال والسمعة والسيطرة الإجتماعية في المجتمع المسلم المنحرف. و"أولاد الزنا" يمكن أن يراد بذلك أحد معنيين:
المعنى الأول: أولئك الذين انقطعوا عن آبائهم عقائدياً ومفاهيمياً... واصبحوا أولاداً للناس الآخرين الذين آمنوا بربوبيتهم وولايتهم ومبادئهم.
المعنى الثاني: إن الإيمان بالإتجاه المادي الحديث، ينتج إنكار عقد الزواج وتكوين الأسرة بدونه، كما عليه عدد من الناس في البلاد إلاسلامية الآن، فينتجون ذرية تكون لقمة سائغة في شدق السبع المادي الهائل.
وليس هذا موقف الحضارة المادية المعاصرة فقط، بل موقف كل حضارة مادية على مدى التاريخ، وخاصة فيما إذا استمرت في المستقبل عدداً مهماً من الأجيال. ومفهوم [الدجال] شامل لمجموع الحضارة المادية على مدى التاريخ، لا خصوص حضارتنا المعاصرة المحترمة!!!...
وإذا كان للدجال أن يعاصر ظهور المهدي ونزول المسيح، أو أن يوجد قبل ذلك بقليل، ليكون من علاماته القريبة... فمعنى ذلك استمرار الحضارة المادية إلى ذلك الزمان، مهما كان بعيداً، لكي يستمر التمحيص ويتعمق بالتدريح، حتى ينتج نتيجته المطلوبة المنتظرة.
والدجال يقتله المسيح والمهدي (ع)، كما سنسمع، لأن نظامهما تماماً سيقضي على الحضارة المادية وما ملأت به الأرض من الظلم والجور والإنحراف، ويتبدل إلى القسط والعدل والإنصاف والرفاه.




الناحية الثانية: علاقة الدجال بالمسيح (ع) عند نزوله.
أخرج مسلم[[7]] من حديث عن النواس بن سمعان قال ذكر رسول الله (ص) الدجال إلى أن يقول: فبينما هو كذلك، إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين. فيطلبه حتى يدركه بباب لد، فيقتله. ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة... الحديث.
وفي حديث آخر لمسلم[[8]] قال: قال رسول الله (ص): يخرج الدجال في امتي فيمكث أربعين... فيبعث الله عيسى بن مريم، كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة... الحديث.
وهناك في المصادر العامة الأخرى أخبار بهذا لمضمون، ولكننا نقتصر على ما أخرجه مسلم.
والمصادر العامة اقتصرت على ذكر العلاقة بين الدجال، بأي معنى فهمناه، وبين المسيح (ع) على حادثة قتله. كما اقتصرت في قاتل الدجال على المسيح (ع) ولم تتعرض للمهدي (ع) على ما سنسمع ذلك ونناقشه.
وسنتعرض إلى حادثة نزول المسيح في القسم الثاني من هذا التاريخ، وسنوافق عليها إجمالاً. فإذا تم ذلك، وهو لا يتم إلا بعد طغيان الدجال واستفحال أمره، بأي معنى فهمناه كان من أهم الأعمال الي يستهدفها هو القضاء على الدجال والإجهاز على نظامه ومفاهيمه.
ومنطق الأشياء أن يسبق مقتل الدجال حرب سجال بينه وبين المسيح، يكتب فيها النصر للمسيح فيقتله. وأما فوزه عن طريق المعجزة، كما يظهر من البرزنجي في [الإشاعة][[9]]، فهو مخالف لما قلناه من أن اسلوب الدعوة الإلهية غير قائم على المعجزات، ما لم ينحصر بها الأمر. وإلا كان نبي الإسلام (ص) في نصره على قريش أولى بالمعجزات. ولاستطاع السيطرة على كل العالم بين عشية وضحاها. ومن هنا لا نقول بوجود المعجزات في طريق نصر المهدي (ع) إلا بمقدار الضرورة التي لا بديل عنها.
وقد سمعنا في هذه الأخبار عدة خصائص من حيث أن قتل الدجال سيكون في دمشق، وهو أمر يصعب إثباته تاريخياً، ولكنه لو تم فهو يدل على أن هذه البلدة ستصبح مسرحاً مهماً ومركزاً رئيسياً للدجال، لا يكون لقتل الدجال هناك أكثر من هذا المعنى. أعني تحويل دمشق من الإنحراف إلى الإيمان.
وهذا مما يفسر لنا ما سيأتي من وجود عدد من المخلصين الممحصين الراسخين في الإيمان في دمشق، على ما دلت عليه الأخبار، وسيأتي في محله من هذا الكتاب. فإن انحراف المجتمع كلما تزايد والظلم كلما تضاعف، أوجب ذلك عمق التمحيص ودقته، الأمر الذي يوجب زيادة عدد المؤمنين وزيادة إخلاص الموجود منهم... حتى وصفوا في هذه الأخبار بالأولياء والأبدال.
وهؤلاء وأمثالهم هم الذين يأتي إليهم عيسى بن مريم "فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة"، كما سمعنا في الحديث.
غير أن ظاهر الحديث أنه يأتي إليهم بعد أن يتم قتل الدجال على يديه، لا أنه يرتكز عليهم في قتاله. والصحيح أن الحديث دال على أنه (ع) يأتي إليهم ويبشرهم بالجنة بعد قتل الدجال، ولكنه لا يدل على عدم مشاركة هؤلاء في قتله أو قتاله. بل لعل الدرجات التي استحقوها في الجنة ناشئة إلى حد كبير من هذه الأعمال الكبرى.
الناحية الثالثة: في علاقة الدجال بالمهدي (ع).
وهذا ما وجدناه في المصادر الخاصة، دون العامة.
أخرج الشيخ الصدوق[[10]] بإسناده عن النزال بن سبرة قال خطبنا علي بن أبي طالب (ع)، فحمد الله عزّ وجلّ وأثنى عليه وصلى على محمد وآله. ثم قال:
سلوني قبل أن تفقدوني ثلاثاً. فقام إليه صعصعة بن صوحان. فقال: يا أمير المؤمنين متى يخرج الدجال؟ فقال له: اقعد فقد سمع الله كلامك وعلم ما أردت... إلى أن يقول بعد حديث طويل: يقتله الله عزّ وجلّ بالشام على عقبة تعرف بعقبة أفيق، لثلاث ساعات مضت من يوم الجمعة على يد من[[11]] يصلي عيسى بن مريم خلفه... الحديث.
أقول: والذي يصلي عيسى بن مريم خلفه هو المهدي (ع) كما وردت بذلك الآثار المستفيضة. ومنها ما في الصحيحين[[12]]:
كيف بكم إذا نزل عيسى بن مريم فيكم وإمامكم منكم.
وأخرج الصدوق[[13]] أيضاً بإسناده عن المفضل بن عمر، قال:
قال الصادق جعفر بن محمد (ع): إن الله تبارك وتعالى خلق أربعة عشر نوراً قبل خلق الخلق بأربعة عشر ألف عام. في أرواحنا. فقيل له: يا بن رسول الله، ومن الأربعة عشر؟ فقال: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، والأئمة من ولد الحسين، آخرهم القائم الذي يقوم بعد غيبة فيقتل الدجال[[14]] ويطهر الأرض من كل جور وظلم.
وفي منتخب الأثر[[15]] في حديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) يقول فيه: ومنا رسول الله ووصيه وسيد الشهداء وجعفر الطيار في الجنة، وسبطا هذه الأمة، والمهدي الذي يقتل الدجال.
ومن الغريب ان الصحاح تذكر أحاديث في علاقة الدجال بالمسيح، وأحاديث في علاقة المسيح بالمهدي (ع)، ولا تورد أي خبر في علاقة المهدي بالدجال، مع أنه تفهم من تينك العلاقتين معاصرته له. ومن المعلوم كون المهدي (ع) هو رائد الحق في العالم فكيف لا يكون له اليد الطولى في قتله وقتاله.
لو نظرنا من زاوية أخرى، رأينا أن تأخر نزول المسيح (ع) عن ظهور المهدي (ع) بفترة من الزمن، على ما سنسمعه عن المصادر العامة، ينتج لنا: أن السبب الرئيسي الوحيد في زوال الدجال هو عمل القائد المهدي (ع) ضده وتخطيطه للقضاء عليه. ومن المقطوع بزيفه وبطلانه باليقين أن يظهر الإمام المهدي (ع) فلا يحارب الدجال - بأي معنى فهمناه -، ويرجىء قتاله إلى حين نزول المسيح من السماء، فإن ذلك خالف تكليفه الإسلامي ووظيفته الإلهية في قمع الكفر والإنحراف ونشر الهداية في العالم.
كما أن المقطوع ببطلانه: أن يفترض أن المهدي (ع) يحارب الدجال فيندحر أمامه، وينتصر الدجال ويحاصر المهدي (ع) ورجاله، كما يظهر من البرزنجي في الإشاعة[[16]] وكيف يمكن أن يتحقق ذلك، وقد ثبت بضرورة الدين وتواتر الاخبار وعن طريق البرهان على التخطيط العام الذي عرفناه، كون الإمام المهدي (ع) منصوراً مؤيداً حتى يفتح العالم بأجمعه، ويجمع البشر على الحق والعدل.
إذن، فاليد الطولى في الإجهاز على الدجال ونظامه، للمهدي (ع) نفسه. نعم، يمكن أن نفترض مشاركة المسيح (ع) من قتل الدجال ضمن إحدى اطروحتين:
الأطروحة الأولى: إن المسيح (ع) يقتل الدجال بالمباشرة، والمهدي (ع) يقتل الدجال بالتسبب أعني بصفته قائداً أعلى لا تصدر التعليمات الأساسية إلا منه. فيكون إسناد القتل إلى المهدي (ع) من قبيل قولنا: فتح الأمير المدينة، يعني بأمر منه، والفاتح المباشر هو الجيش بطبيعة الحال.
وهذه الأطروحة، كما تناسب الفهم الكلاسيكي للدجال، وهو كونه شخصاً يعينه كذلك تناسب مع الفهم الرمزي الذي دعمناه. ويكون الإجهاز على الدجال من قبل المسيح (ع) بصفته أحد القادة الرئيسين في دولة المهدي العالمية.
الأطروحة الثانية: إن المسيح (ع) إذا كان يتأخر نزوله عن ظهور المهدي (ع)، فقد نتصور أن المهدي (ع) عند ظهوره يقاتل الدجال، بأي فهم فهمناه وبعد نزول المسيح يوكل هذه المهمة إلى المسيح (ع).
ولا تنافي بين هاتين الأطروحتين، كما هو واضح لمن يفكر. وبها نجمع بين الأخبار الدالة على أن المسيح قتل الدجال والأخبار الدالة على أن المهدي يقتله فإن كلا هذين القسمين من الأخبار صادقاً، ولا تنافي بينهما. الموسوعة ج3 ص139.







الجواب الثاني: إن مفهوم الدجال يمثل المادية الحديثة... ولذا لم ينقل عنه قبل الإسلام أي وجود. وإنما بدأت إرهاصاته - حسب إفادات الأخبار التي عرفناها في التاريخ السابق[[17]] - أي بعد بدء الإسلام، وكان وجوده الكامل متأخراً عنه بألف عام.
وأما مفهوم [يأجوج ومأجوج] فهو يمثل الخط المادي بتاريخه الطويل. ولذا كان له وجود بدائي ووجود حديث. ولم يخل التاريخ المتوسط بينهما من التأثيرات والإرهاصات.
وهذا يعني أن الوجود الحديث ليأجوج ومأجوج، هو الدجال نفسه، وليس شيئاً آخر. الموسوعة ج3 ص 156.










http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref1[[1]] انظر صحيح مسلم جـ8 ص195. ونحوه في البخاري جـ9 ص75.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref2[[2]] صحيح مسلم نفس الجزء والصفحة.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref3[[3]] انظر الصحيح جـ9 ص71.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref4[[4]] انظر اكمال الدين المخطوط.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref5[[5]] انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص578 وما بعدها وص617.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref6[[6]] انظر ص642 وص745.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref7[[7]] صحيح مسلم جـ8 ص197 - 198.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref8[[8]] صحيح مسلم جـ8 ص201.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref9[[9]] انظر ص135.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref10[[10]] انظر كمال الدين [المخطوط] باب الحديث: الدجال وما يتصل به من أمر القائم صلوات الله وسلامه عليه.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref11[[11]] في المخطوط: على من يد من... وهو تحريف.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref12[[12]] انظر صحيح البخاري جـ4ص205. وصحيح مسلم جـ1 ص94.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref13[[13]] انظر إكمال الدين المخطوط.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref14[[14]] كذا نقله في منتخب الأثر [ص480] ولكنه في المخطوط: الرجال بالراء.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref15[[15]] انظر ص172 وما بعدها.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref16[[16]] انظر ص135.

http://www.albarbaghy.com/vb/#_ftnref17[[17]] انظر ص644.
أضف رد جديد

العودة إلى ”منتدى الأمام الحجة عج“

الموجودون الآن

المتصفحون للمنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد