امضي على دين النبي ".
لقد رحب الحسين بالاستشهاد، وأقدم عليه دون تردد لا حبا بالموت، وتبرما بالحياة، ولا فرارا من سأم، ولا اضطرابا في النفس، ولا طموحا الى بطولة وسلطان، ولا خوفا من الاتصاف بالجبن.. لا دافع ولا هدف على الاطلاق إلا الامتثال لمشيئة الله، والانقياد لامر رسول الله الذي لا مفر من طاعته، ولا محيد.
قال له أخوه محمد بن الحنفية: ما حداك على الخروج عاجلا؟
قال الحسى، أتاني رسول الله، يا حسين اخرج، شاء الله أن يراك قتيلا.
قال محمد: إنا لله، وإنا إليه راجعون.. فما معنى حملك هذه النسوة معك؟.
قال الحسين: إن الله شاء أن يراهن سبايا.
وقاله له ابن عباس: لا تخرج إلى العراق.
قال الحسين: إن الله أمرني بامر، وأنا ماض فيه.
قال ابن عباس: واحسيناه. أطلق ابن عباس صرخته الدامية هذه، وهو لا يعلم أنها قد تجاوزت حدود الزمان والمكان، وأنها ستحدث انقلابا في الافكار والاوضاع، وتتخذ شعارا للثوارات والانتفاضات، ونشيدا للحرية والاستقلال، وأنها ستجرى أبحرا من الدماء والدموع، وتملا الاجواء لهيبا من الاهات والزفرات، وأن المواكب والمطابع والمنابر سترددها مدى الاجيال، وإلى آخر يوم.
وبعد، فإن الحسين (ع) يحب الحياة، ويكره الموت... ما في ذلك ريب..
وإلا لم يكن عظيما، لان من تساوى في مقاييسه الموت والحياة لا يعد باذلا
ومضحيا إذا أقدم على الموت، وأي عاقل يتنازل عن حياته، ويرضى بجز الرأس، ورض الصدر والظهر، وذبح الاطفال، وسبي النساء إذا لم تكن العاقبة خيرا وأبقى... ولا شئ افضل عاقبة من طاعة الله، والتضحية في سبيله، لهذا وحده أقدم الحسين على ما أقدم، ولم يتردد، ويبرر المعصية والاحجام بمنطق الشيطان، وتحريفه وتزييفه.
منطق إبليس قيل: إن إبليس التقى برسول الله (ص)، فقال له: يا محمد، إن الله قد وصفك بنبي الهداية، ووصفني بامام الغواية، مع العلم بأن الامر في يده، لانه على كل شئ قدير، فلماذا لا يلجئ عباده إلى الهداية ما دام قد أرادها منهم؟.
لقد تجاهل إبليس اللعين أن الله يخلق الكون بما فيه على قاعدة " كن فيكون ".
فيستند الفعل إلى قدرته مباشرة، وإلى كلمته وحده لا شريك به، أما أفعال العباد، ومعاملة بعضهم مع بعض فإنه سبحانه لا يتدخل بها إلا على أساس الارشاد، والامر والنهي تاركا للانسان حريته الكاملة، وقدرته المطلقة، ليتحمل وحده أعباء الجهاد والعمل، ومسئولية الاهمال والكسل، ويتميز بذلك الخبيث من الطيب، وتظهر للعقول قيمتها، وللنفوس عرائزها.. ولو أن الله ألجا عباده إلى الفعل إلجاء لانتقضت حكمة الخالق العليم، وتعطل العقل السليم، وبطل الشرع والتكليف، وكانت أفعال الانسان تماما كالجريان في الماء، والثمرة على الشجرة...
وبكلمة إن الله سبحانه بالنسبة إلى الكون خالق ومبدع، وبالنسبة إلى عمل الانسان هاد ومرشد، لا مبدل لكلماته، وهو الحكيم العليم.
وبهذا نجد تفسير قول الحسين (ع): إن الله شاء ان يراني قتيلا، وشاء أن يراهن سبايا... أي أمرني الله أن أجاهد ضر الظلم والفساد، ومعي النساء والاطفال، فامتثلت، وهو الحكم العليم بما يترتب على أمره. وعليه تكون الاوضاع الاجتماعية هي المسئولة عن الشر، وليست الارادة الالهية، والمصلحون الطيبون عن الذين يضحون ويستميتون من أجل تغيير الاوضاع وتحويلها إلى الخير والصلاح.
كما فعل الحسين وأيضا بهذا يتبين الجواب عن قول من قال: لماذا سلط الله يزيد وجيشه على الحسين وأهله.. إن الله سبحانه لا يسلط، ولن يسلط الاشرار على
الاخيار... حاشا وكلا.. بل نهى الاشرار عن الفساد والعدوان، وأمر الاخيار بنضالهم وجهادهم، إن أصروا وتمردوا منذرا العاصي بالعقاب، ومبشرا الطائع بالثواب، دون أن يتدخل بقدرته من أجل هذا أو ذاك: " ولو شاء الله لانتصرمنهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض " (4 محمد).
على دين النبي بأمر الله تعالى، ودين النبي (ص) تفسر أعمال الحسين (ع)، وكل حركة من حركاته، وخطوة من خطواته، فدين النبي هو الهوية والماهية الحقيقة لوقعة كربلاء، وفيه يكمن سرخلودها وبقائها ببقاء اسم محمد، ورسالة محمد.
إن مضي الحسين إلى القتل على دين النبي يدلنا بصراحة لا تقبل التأويل على أن هذا الدين العظيم لا يعترف بأحد كائنا من كان إذا أحاط به الظلم والفساد، ولم يحرك ساكنا حرصا على نفسه وجاهه.. أبدا إما ان الحسين لم يمض على دين النبي، لانه جازف وتهور، وإما أن الساكت عن الحق يبرأ منه النبي ودين النبي، ولا واسطة.
ونقول: إن هذا معناه الجهاد، والجهاد لا يجب إلا مع المعصوم أو نائبه الجواب: إن الجهاد على نوعين، جهاد الغزو بقصد الدعوة إلى الاسلام وانتشاره.. وهذا هو الذي يجب كفاية بإذن المعصوم أو نائبه، ويختص بالذكر، دون الانثى، وبالصحيح، دون المريض.
النوع الثاني: جهاد الدفاع عن الدين والحق، وهذا يجب عينا لا كفاية، ومطلقا غير مقيد بإذن المعصوم ولا نائبه، تماما كوجوب الدفاع عن النفس، ويشمل الذكر والانثى، والمريض والاعرج والاعمى، كلا حسب استطاعته ومقدرته. (انظر الجواهر وغيرها من كتب الفقه).
المدعي الزائف وبالتالي، فإن الصراع بين الخير والشر طبيعة لا مفر منه، فإذا طغى الشر في مجتمع، ولا مكترث فإن معنى هذا أن المجتمع لا عدو فيه للشر، ولا ناصر يتحسس الخير، ويهتم بالدين، لان العدو ينبغي أن يحارب مهما تكن النتائج...
أما من يكتفي بقول: إنا لله، وإنا إليه راجعون تاركا الشر يسير على حاله بغية الحفاظ على مصالحه، أما هذا فإنه يؤكد، ولا ريب، ما يلصق به من تهم، ويذاع عنه من محاباة.
ونقول: إن للامر بالمعروف، والنهي عن المنكر شروطا، وأولها الامل بالقضاء على المنكر.
ونقول: ليست المسألة مسالة شرط ومشروط ولا مكلف وتكليف شرعي، وإنما المسألة في واقعها مسألة عداء للشر والباطل، وتحسس بالدين والخير، وعدم التحسس به، فمتى وجد هذا العداء، وهذا الاحساس طغت غريزة المغامرة على صاحبها غير ملتفت إلى الشروط والمشرط، ولا يستسلم إطلاقا، بل يموت من أجل الحق واقفا على قدميه بكبرياء وعناد وتحد... وكفى بهذا التحدي احتجاجا وخروجا على الباطل وأهله.
وغريبة الغرائب أن يدعي الواحد منا أنه على دين النبي، ثم يغضب لنفسه وقريبه وصديقه، ويصرخ باسم الله والدين صرخات أيوب المبتلى إذا مست أشياؤه، ولو من بعيد، ولا يغضب إذا انتهكت حرمات الله، وشريعة رسول الله... ولو كان بينه وبين الله علاقة وصلة لاثمر شجرها، وظهر أثرها.. كلا، إن الوهم هو الذي صور له هذه الصلة، وأضفى عليها صفة الوجود.. أما مجرد الركوع والسجود فما هو من دين النبي في شئ إذا لم ينظر المصلي إلى الباطل بعيني ثائر مغامر.
وكم من متعبد تكشف عنه القناع، وتبين، حين جد الجد، ان قطرة من دمه، وذرة من جاهه ومصلحته خير من ألف نبي ونبي... إن دين النبي عمل وجهاد وكفاح، إنه دماء وعيال وأرواح تبذل ثمنا للحق، تماما كما بذل الحسين...
أما من يدعي دين النبي غير مستعد لان يترجم دعوه. ويثبتها بالافعال، والتضحية بمصالحه الشخصية من أجل هذا الدين فهو دعي زائف.
وبعد، فقد كان للاسلام دولة وسلطان حين كان يزيد وشهيد يمضي على دين النبي... أما اليوم فذل وهوان، حيث ألف يزيد، ولا شهيد واحد... بل ألوف العبيد تموت وتحيا على حب الدينار والدولار.
من كتاب الشيعة في الميزان
امضي على دين النبي
الموجودون الآن
المتصفحون للمنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد