يتضمن الإشارة الى تعريف العلم، وتاريخ وعوامل نشوء هذا العلم وتطوره.
1 - تعريف: "علوم القرآن"
منذ أن بزغ فجر الإسلام مقترناً بنزول الوحي الإلهي، وتوالت آيات الله لتشكل فيما بعد كتاب الله الذي يحمل في طياته معالم الدين الجديد بمختلف أبعاده العقائدية والتربوية والعبادية وغيرها، أدرك المسلمون أهمية الكتاب العزيز - القرآن الكريم - وعظمته، ولم يقتصر اهتمامهم على استيعاب معانيه والتمعن في آياته وتفسيرها، بل اهتموا بجوانب أخرى ترتبط به مثل تاريخ نزوله، وترتيبه، واختلاف القراءات، والإعجاز، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك...
وقد عُرفت هذه البحوث - فيما بعد - باستثناء تفسير معانيه الذي صار علماً بنفسه، بـ"علوم القرآن".
ف-"علوم القرآن" العلم الذي يحتوي على ما يرتبط بالقرآن الكريم من بحوث - سوى التفسير - مثل تأريخ نزوله، وترتيبه، واختلاف القراءات، والناسخ والمنسوخ، ووجه الإعجاز فيه، وغير ذلك.
وقد اتضح أن العلوم التي تعرّض لها القرآن الكريم مثل الفقه والتربية والعقائد وغيرها لا ترتبط بهذا العلم.
2 - تاريخ "علوم القرآن"
لاشك أنّ بدايات العديد من بحوث هذا العلم تمتد الى عصر الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) مثل الناسخ والمنسوخ، واختلاف القراءات والوحي وغير ذلك، وقد تزايد اهتمام المسلمين بهذه البحوث بعد انقطاع الوحي عقيب وفاة الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) حيث أصبح القرآن الكريم أحد الثقلين اللذين خلّفها (صلى اللهعليه وآله وسلّم) للأمة. ولكن المؤسف انّا لا نملك أثراً عن طبيعة تلك الدراسات في ذلك العصر; لأنّها كانت عبارة عن نقل الحديث عن الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) فمن الطبيعي أن تتأثر بقرار المنع الصادر من الشيخين على رواية حديث الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) وكتابته، بل وإحراق الموجود منه(1)، وقد تأخر السماح بتدوين السُنّة الى نهاية القرن الأول الهجري، قيل: في زمن عمر بن عبدالعزيز (ت 99 - 101) فقد كتب الى عامله في المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم "انظر ما كان من حديث رسول الله (صلى اللهعليه وآله وسلّم) فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء"(2).
وعلى كل حال، فيبدو أن أوّل من دوّن في علوم القرآن الإمامعلي (عليه السلام) فقد أثبت له الشريف المرتضى كتاب "المحكم والمتشابه في القرآن"(3)، كما نسب له سعد بن عبدالله الأشعري كتاب "ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه"(4)، وذكر الحافظ ابن عقدة الكوفي انّ للإمام ستين نوعاً من أنواع علوم القرآن(5).
ومن بعده ألّف يحيى بن يعمر (ت 89هـ) أحد تلاميذ أبي الأسود الدؤلي كتابه "القراءة" في قرية واسط، وضم الاختلاف الذي لوحظ في نُسَخ القرآن المشهورة(6).
وفي القرن الثاني صنّف الحسن بن أبي الحسن يسار البصري (ت 115هـ) كتابه في "عدد آي القرآن".
وعبدالله بن عامر اليحصبي (ت 118هـ) كتابه في اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق و"المقطوع والموصول". وشيبة بن نصاح المدني (ت 135هـ) كتاب "الوقوف"، وأبان بن تغلب (ت 141هـ) - تلميذ الإمامعلي بن الحسينزين العابدين (عليه السلام) - صنّف كتاباً في القراءات، وله كتاب "معاني القرآن".
ومحمد بن السائب الكلبي (ت 146هـ) أوّل من صنّف في "أحكام القرآن" ومقاتل بن سليمان المفسّر (ت 150هـ) له كتاب "الآيات المتشابهات". وأبو عمرو بن العلاء زبان بن عمّار التميمي (ت 154هـ) ألّف كتاب "الوقف والابتداء"، وله كتاب "القراءات". وحمزة بن حبيب الزيّات (ت 156هـ) - صاحب الإمام الصادق (عليه السلام) - له كتاب في القراءة، وتوالى تأليف كتب اخرى في فترات لاحقة.
وفي عصور متأخرة أُلّفت كتب جامعة لعلوم القرآن، منها كتاب "البرهان في علوم القرآن" لبدر الدين محمد بن عبدالله الزركشي (ت 794هـ)، ومنها كتاب "الإتقان في علوم القرآن" لجلال الدين السيوطي (ت 911هـ).
وأما اصطلاح "علوم القرآن" فربما يرجع إلى القرن السادس حيث ألّف ابن الجوزي (ت 597) كتابين أحدهما بعنوان: "فنون الأفنان في علوم القرآن" والثاني بعنوان: "المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن".
لكن حكى محمد بن عبد العظيم الزرقاني انّه ظفر في دار الكتاب المصريّة بكتاب لعلي بن إبراهيم بن سعيد الشهير بالحوفي (ت 330هـ) اسمه "البرهان في علوم القرآن" يقع في ثلاثين مجلّداً الموجود منه خمسة عشر مجلّداً، إلاّ أنّ الزرقاني تحدث عن هذا الكتاب بقوله: (... كأنّ هذا التأليف تفسير من التفاسير عرض فيه صاحبه لأنواع من علوم القرآن عند المناسبات...)(7).
نستطيع أن نلخّص العوامل التي أوجبت نشوء هذا العلم وتطوُّر البحث في ذلك بما يلي: -
1- فضل القرآن وقدسيته في نفوس المسلمين، فهو الثقل الأكبر والكتاب الذي أوصى به النبي المصطفى (صلى اللهعليه وآله وسلّم) أمّته، فضلاً عن النصوص الكثيرة الواردة في ضرورة تقديسه وتنزيهه عن كل ما لا يليق بشأنه، وكذلك الحث الأكيد على قراءته وفهمه والتدبّر فيه وحفظه.
2- عمق القرآن الكريم وتنوع أبحاثه، ممّا أوجب اهتمام العلماء بدراسته دراسة معمّقة ومفصّلة سواء ما يرتبط بألفاظه وأسلوبه أم ما يرتبط بمدلولاته ومضمونه (ظاهره أنيق وباطنه عميق) - كما جاء في الحديث -.
3- كونه معجزة الإسلام الخالدة ممّا أوجب اعتزاز المسلمين به وانشدادهم نحوه، وبالمقابل صار هدفاً لشبهات أعداء الإسلام الذين يرومون الطعن بالإسلام، هذا الصراع حوله أوجب أن يكون محطّ أنظار العلماء والباحثين وتوجّههم إليه مما ساهم في توسّع الأبحاث المرتبطة به كالتفسير وعلوم القرآن.
4 - تضمّنه لأهم معالم الدين الإسلامي وأُسسه وتشريعاته، فهو يتحدث عن اصول العقيدة التي نادى بها الإسلام، كما يتضمّن معالم الأطروحة الإسلامية لرقي الإنسان وتهذيب نفسه وإصلاح مجتمعه، بالإضافة الى جملة وافية من التشريعات الإسلامية المتنوعة.. الى غير ذلك من المواضيع الهامة التي تهم المسلم.
فهو كتاب حيوي مقدس لدى المسلمين، ولذلك ورد الحث على قراءته والتدبر فيه، بل اعتبره الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) الثقل الأكبر الذي خلّفه ويطالب به أمّته، كما جاء في حديث الثقلين.
5- عدم اشتماله على أسماء أو مواقف محدّدة صريحة، ولذلك ورد عن الإمامعلي (عليه السلام): "هذا القرآن إنّما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولابدّ له من ترجمان، وإنّما ينطق عنه الرجال"(1). وفي وصيته لابن عباس لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج: "لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون"(2).
هذه الميزة في القرآن جعلته في مأمن من كيد السلطات الجائرة المتعاقبة، فلم يقفوا أمام اندفاع المسلمين نحوه والباحثين به، ولم يواجهوه بما واجهوا به أهل البيت(عليهم السلام) - الثقل الآخر - وشيعتهم من العنف والقسوة.
خصائص القرآن
الخاصة الأولى: الشمولية
عندما نتحدث عن شمولية القرآن لا نعني انّه فهرسة للعلوم المختلفة، وإلاّ لأوجب ذلك إماتة روح الإبداع في الإنسان في هذه الحياة الدنيا التي ابتنت على الكدح وبذل الجهد والإبداع.
بل نقصد أنّه يتناول كل جوانب الحياة التي تحيط بالفرد والمجتمع، ولا يقتصر دوره على جانب معيَّن منها فهو كتاب شامل في تعاليمه ومحتواه أو فلنقل ليعزز جهود الرسول الكريم (صلى اللهعليه وآله وسلّم) في أدائه لهذا الدور، بتوجيه الأمّة وارشادهم الى ما يضمن لهم السعادة في الدنيا والآخرة.
ولذلك فمن الطبيعي أن يشتمل على مختلف الأمور التي تكون فاعلة في إصلاح الأفراد والمجتمع، ولم يقتصر على جانب واحد منها.ï´؟إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُï´¾(3) فالقرآن قد احتوى على كل ما يهم المسلم بإطاره العام وهو:
1- أصول العقيدة الإسلامية من التوحيد والنبوة والمعاد والإمامة والولاية، وغيرها من المسائل الاعتقادية الأخرى، كالقضاء والقدر والعرش وغير ذلك...
2- الجانب التربوي وما يرتبط به من سمو الاخلاق وتهذيب النفوس.
3- مجموعة من الأحكام الشرعية والقوانين التي تنظم سلوك المسلم وعلاقاته كفرد، والمسلمين كمجتمع، كما أشار الى اتّباع الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) وولاة الأمر الذين يحدّدون باقي التفاصيل.
وهذا هو مانعنيه من شمولية القرآن.
إضافةً لذلك نرى أنّ القرآن قد تصدّى لمهمة أخرى وهي جذب الناس وترغيبهم فيما يصلحهم، ولم يقتصر دوره على سرد مقوّمات الإصلاح ضمن مواد قانونية جافة ومحدودة التأثير بل تضمن أرقى الأساليب البلاغية وأكثرها تأثيراً في النفس، ï´؟لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِï´¾(4).
عندما نتحدّث عن انتساب أثر أو كتاب لشخص نعتمد على الدلائل التي تشهد لهذا الانتساب، وكذلك القرآن الكريم نعتمد في نسبته لله تعالى على مجموعة من الأدلة والقرائن، وتعتبر أكثرها شواهد على إعجازه، نذكر منها:
1- انسجام مضمونه ورسالته مع صراط الله القويم المنسجم مع كماله المطلق، فعندما نراجع القرآن الكريم نجده يصب في هذا الاتجاه، فهو بين تمجيد وتوحيد لله تعالى واستعراض صفات كماله، ومنّه، ولطفه بعباده، وبين دعوة الناس بمختلف أساليب الترغيب والترهيب الى صلاح أنفسهم ومجتمعاتهم، وبين رسم الخطوط التشريعية العريضة وأحياناً التفصيلية - لحكمة أو ظرف خاص - المنسجمة مع الفطرة والطبيعة البشرية لتعين الإنسان في مواجهة الظروف التي يواجهها خلال مسيرة حياته.
فكلّ إنسان لو تأمل وسرحت مخيلته فتصور أنّ الله تعالى بعث رسولاً للبشر فماذا ينتظر من هذا الرسول؟ هل يتوقع من هذا المبعوث الإلهي مفهوماً أو ارشاداً أو مشروعاً يصطدم بتعاليم القرآن؟
حبذا لو تفرغ أحدنا - في سبيل عقيدته - وتأمل مع نفسه قليلاً حول النهج القرآني، ألا يجده دليلاً كافياً على انتساب هذا الكتاب الكريم لله الحكيم العليم الرؤوف الرحيم؟ ï´؟وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِï´¾(1)، هب انّ صياغة هذا الدليل قد لا تكون صياغةً جدلية تسكت الخصم المجادل لكنّا في عقيدتنا لا نتقيّد بأدلة مجالس الجدال والمخاصمة - رغم أهميتها - فما أكثر الخيارات المصيرية التي نختارها اعتماداً على قناعاتنا الخاصة المدعومة بالوجدان أو الفطرة أو الحدس الدقيق أو ما شئت فقل.
2- قمة البلاغة باعتراف العرب المعاندين له رغم إبداعهم في هذا الجانب، وتأكيداً لصحة هذه الدلالة نلاحظ أنّ التحدي القرآني كان في مكة حيث كان المسلمون أقلية مضطهدة وكان هناك قلق كبير ينتاب كبار قريش من دعوة الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم)، فلو كان بإمكانهم التحدي لواجهوا نداء القرآن ï´؟فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍï´¾(2). وï´؟فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِï´¾(3).
وروى المؤرخون أن النبي (صلى اللهعليه وآله وسلّم) لما اُنزل عليه ï´؟حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِï´¾(4) قام إلى المسجد يقرؤها والوليد بن المغيرة قريب منه فلما فطن النبي (صلى اللهعليه وآله وسلّم) لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم، فقال: والله، لقد سمعتُ من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة، وإن اعلاه لمثر (لمثمر) وإن اسفله لمُغدق وإنه ليعلو وما يعلى (عليه)(5).
وقد أشار الكتّاب والباحثون الى جوانب متعددة في الفصاحة والبلاغة تميّز بها القرآن نشير الى بعضها:
أ: الإيقاع الموسيقي المتميز المتعدد الأنواع والمتناسق مع الجو -كما عن الموسيقار المعروف محمدحسن الشجاعي- أو الموسيقى الباطنية كما يقول الأستاذ مصطفى محمود.
ب: انّه بيان على قدر الحاجة، يقول ابن عطية: (لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة في أن يوجد أحسن منها لم توجد).
ج: انّه لا يخلق عن كثرة الرد وطول التكرار...، كما أشار إليه كلام الإمامعلي (عليه السلام).
د: الروحانية العالية فيه، هذه الروحانية التي تنفذ الى عمق سريرة الإنسان وتهزّ وجدانه(6)، حتّى ان كثيراً من اسرى الحضارة المادية المعاصرة آمنوا بالاسلام تأثّراً بهذه الروحانية.
3- عدم تطور أسلوبه خلال 24عاماً، هي فترة نزوله، وهو أمر لا ينسجم مع طبيعة الإنسان التكاملية، ولذا نلاحظ الفارق الشاسع في المستوى الفني للشعراء والأدباء عندما نقارن بين بداية نتاجهم الأدبي ومرحلة تكاملهم، بينما لا نجد هذا التكامل في القرآن فلا نجد تطوراً في السور المدنية عن المكية من ناحية الأسلوب والفصاحة والبلاغة.
ويمكن أن نضيف الى هذه النقطة أنّا لا نجد في القرآن تذبذباً في الأسلوب ولا ضعفاً في بعض سوره وآياته، مكيّة كانت أم مدنية، وهذا أيضاً مخالف للطبيعة البشرية المتأثرة بعوامل عديدة تنعكس على نتاجها، خاصة الحس الأدبي والبلاغي المرهف الذي يتأثر بأدنى سبب.
4- من المعروف أنّ سمات ودلائل النبوغ تظهر لدى الشخص في سني حياته الأولى وبدايات الشباب، فلو كان القرآن من إنشاء النبي (صلى اللهعليه وآله وسلّم) لظهرت عليه دلائل هذا النبوغ في بدايات حياته واهتم به قومه وتحدّث به العرب لاهتمامهم بهذه الظاهرة، خاصة ان سوق عكاظ كان في مكة مأوى الحجيج، ولاكتسب (صلى اللهعليه وآله وسلّم) مكانةً مرموقةً بين قومه وافتخر به أهله وعشيرته، وانهالت عليه الهدايا والعطاءات، خصوصاً مع ما عرف عن كفيله أبي طالب من الفقر والضيق المادّي.
ولعل الآية الكريمة تشير الى ذلك بقولها: ï´؟قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَï´¾(7).
5- تنوع أساليب القرآن الكريم وبلوغه القمة في كل منها حيث نجد قمة البلاغة في السور ذوات الآيات القصار كما نجدها في ذوات الآيات الطوال، كذلك تشترك كل الآيات - بمضامينها المتنوعة - في الإبداع، سواء منها آيات الوعد والوعيد أم القصص أم التشريع أم مكارم الأخلاق أم العقائد وغيرها، بينما المعهود في الأدباء والبلغاء..
أولاً: أن يكون لإبداعهم مذاق واحد. فلكل شخص أسلوبه المتميز به، حتى ان النقّاد والباحثين يعتمدون على هذه النقطة في نسبة القصائد والنتاجات الأدبية لأصحابها الحقيقيين.
وثانياً: ان كلاّ منهم يحلّق في مساحة خاصّة، فقد قالوا في شعر امرىء القيس: "يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل"، وشعر النابغة "عند الخوف" وشعر الأعشى "عند الطلب ووصف الخمر"، وشعر زهير "عند الرغبة والرجاء"(1)، فكل شاعر يحسن كلامه في مجال فإنّه يضعف في غير ذلك، أمّا القرآن فإنّه بلغ الذروة بأساليبه المختلفة وفي مساحات شتّى. وهذا مما ينفي كونه إبداعاً بشرياً.
6- عدم الاضطراب في المحتوى، وتظهر أهمية هذه النقطة مع ملاحظة ما يلي..
أ: تشعب المواضيع والعلوم التي يتعرّض لها، حيث يشتمل على منظومة من العقائد والحِكَم ومكارم الأخلاق والقوانين، ويتضمّن القصص التاريخية وبعض الظواهر الكونية.. وغير ذلك.
ب: نزول كثير من الآيات أو أكثرها من دون تهيئة مسبقة، أو تبعاً لحدث طارئ أو سفر أو حرب أو نحو ذلك مما لا يسمح بالتمعّن ومراجعة النص السابق تجنّباً للوقوع في التناقض.
ج: تكرر الحديث عن نفس المواضيع التي سبق التعرض لها في فترات زمنية متباعدة مما يجعله معرضاً للاضطراب والتناقض - لو كان نتاجاً بشرياً - وعدم الاقتصار في الحديث عن الموضوع مرة واحدة.
د: صدوره من غير متعلم، إذ لم يعرف عن الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) اهتمامه بالدراسة والتعلم، فكيف يمكنه إبداع القرآن وما تضمّنه من علوم وتعاليم وغيرها، فهو يتحدّث عن السماء والأرض والتوحيد والأخلاق والتشريع والتاريخ وغير ذلك، والى هذا تشير الآية الكريمة: ï´؟وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَï´¾(2).
بعد ملاحظة هذه النقاط الأربع يتضح الوجه في كون عدم الاختلاف والاضطراب في القرآن دليلاً على ارتباطه بالله تعالى ومن أدلة إعجازه، كما أشارت إليه الآية الكريمة: ï´؟أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًاï´¾(3).
والبعض ممن لم ينتبه لهذه الخصوصيات الأربع لم يتفهم وجه كونه دليلاً على الإعجاز، قال محمد عبدالعظيم الزرقاني: "ويلاحظ كذلك ان الاشتمال على الحِكَم البالغة، وعدم الاختلاف والتناقض بين معانيه لا يصلح واحد منها أن يكون وجهاً من وجوه الإعجاز، لأنّهما لا يخرجان عن حدود الطاقة بل كثيراً ما نجد كلام الناس مشتملاً على حِكَم وسليماً من التناقض والاختلاف"(4).
وما أدري كيف يفهم الزرقاني معنى هذه الآية الصريحة في جعل عدم الاختلاف في القرآن دليلاً على أنّه من الله تعالى لا من البشر، ويبدو أنّه أخذ عدم الاختلاف مجرداً عن الخصوصيات التي ذكرناها فلذلك لم يستوضح دلالته على الإعجاز.
ومن كلام للإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: "وذكر أنّ الكتاب يصدق بعضه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: ï´؟ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراًï´¾ "(5).
7 - إخباره بالمغيبات، ويتضح وجه دلالة هذا الشاهد على الإعجاز من خلال ملاحظة ما يلي:
أ: إنّ المتميّزين بالإخبار عن بعض الأمور الغيبية والعلوم الغريبة من الكهان ونحوهم كانوا بعدد الأصابع ومعروفين على مستوى الجزيرة العربية يراجعهم العرب ويحكّمونهم أحياناً في أمورهم، ولم يعرف عن النبي (صلى اللهعليه وآله وسلّم) انّه كان يرتاد أماكنهم ويختلط بهم، ولو كان قد استقى علومه الغيبية من أحد هؤلاء لفضحه هو ومن يختص بذلك الشخص.
خصوصاً انّهم كانوا بعيدين عن مكّة بحيث يُقصَدون بعناء، فليس من المعقول أن يرتاد على أحدهم شخص من أسرة معروفة متميّزة في مكة ويلازمه فترة طويلة من دون أن يعرف بذلك أحد حتى أقاربه وأهله، خاصةً أنّ الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) كان في كفالة عمه شيخ الأباطح أبي طالب الذي سببت دعوته له ولبني هاشم إحراجاً عظيماً، خسروا بسببها زعامتهم في قريش وعُزِلوا عن المجتمع المكّي وحوربوا على جميع الأصعدة، فلو كانوا قد اكتشفوا دجلاً منه من خلال ارتباطه بالكُهّان ونحوهم لنبذوه ولم يتحملوا المحنة العصيبة بسببه.
وقد تنبّه الكاتب الإنجليزي (هـ. ج. ويلز) لذلك حيث قال: "إنّ من أرفع الأدلة على صدق محمد كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكوا في صدقه لما آمنوا به".
ب: إنّ النبي (صلى اللهعليه وآله وسلّم) لم يحتجّ بتحقق إخباراته الغيبية لاثبات صدق دعواه الرسالة الالهية، فلم تجرّ إليه نفعاً ولم تدعم سلطانه حين تحققها، بل ان بعضها تحقق بعد وفاته (صلى اللهعليه وآله وسلّم)، مما يكشف يقيناً ان الإخبار بها لم يكن لمطامع دنيوية - كما يفعل الكهنة والمرتبطون بعالم الجن ونحوهم - مثل إخباره بغلبة الروم في المستقبل - في بضع سنين - واقتران ذلك بغلبة المسلمين ونصرهم، الأمر الذي لم يكن يخطر في بال أحد آنذاك، قال سبحانه وتعالى: ï´؟ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَï´¾(6)، فترى لسان الآية لسان الواثق المتيقّن الذي لا يقبل أي شك أو ترديد.
وبالفعل تحققت كل هذه النبوءات - غَلَبت الروم، في أقل من عشر سنوات، مقرونة بفرح المؤمنين بنصر الله في بدر الكبرى - ولم يُعَرف ان الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) استثمر ذلك في مخاصمة المشركين وتقوية حجّته.
ومن آيات الغيب هذه قوله تعالى: ï´؟وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًاï´¾(7)، حيث روى جمع من المؤرخين والمفسرين - من الفريقين - نزول هذه الآية المكية في بني أمية(8)، حيث رآهم النبي (صلى اللهعليه وآله وسلّم) ينزون على منبره فاغتمّ لذلك فنزلت الآية الكريمة في مكة، فصدّقها الزمن بعد حين.
أترى مثل هذه الإخبارات الغيبية تتناسب مع إخبارات الكهنة ومن شابههم؟!
وهناك العديد من إخبارات الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) - غير القرآنية - كانت من هذا القبيل حيث لم يستثمرها وإنّما شهد الزمن بصدقها فيما بعد، كإخباره بأنّ عماراً تقتله الفئة الباغية وانّ آخر شرابه ضياح من لبن، وكان هذا الحديث من الحقائق الثابتة تاريخياً حيث بلغ حداً من الانتشار بين المسلمين بحيث أحرج معاوية عند مقتل عمّار واضطرب جيش أهل الشام وكاد الأمر ينقلب عليه لولا حيلة صاحبه عمرو بن العاص حينما خدع رعاة أهل الشام بقوله: "إنما قتل عمّاراً من جاء به" محمّلاً الإمامعلياً (عليه السلام) مسؤولية مقتله(9).
عوداً على الموضوع نقول: بملاحظة هاتين النقطتين يتضح كيف تكون تلك الإخبارات الغيبية شاهدة على إعجاز القرآن وارتباطه بالله تعالى.
8- حكاه في الدر المنثور عن ابن جرير عن سهل بن سعد، وأيضاً عن ابن أبي حاتم عن ابن عمر، وأيضاً عن ابن ابي حاتم عن يعلى بن مرة، وأيضاً عن ابن مردويه عن الحسين بن علي، وأيضاً عن البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد بن المسيب، وعن آخرين. ان المقصود من الشجرة الملعونة هم بنو أمية.
9- يراجع تأريخ الامم والملوك للطبري:3/27 و 29، وغيره.
5- تنوع أساليب القرآن الكريم وبلوغه القمة في كل منها حيث نجد قمة البلاغة في السور ذوات الآيات القصار كما نجدها في ذوات الآيات الطوال، كذلك تشترك كل الآيات - بمضامينها المتنوعة - في الإبداع، سواء منها آيات الوعد والوعيد أم القصص أم التشريع أم مكارم الأخلاق أم العقائد وغيرها، بينما المعهود في الأدباء والبلغاء..
أولاً: أن يكون لإبداعهم مذاق واحد. فلكل شخص أسلوبه المتميز به، حتى ان النقّاد والباحثين يعتمدون على هذه النقطة في نسبة القصائد والنتاجات الأدبية لأصحابها الحقيقيين.
وثانياً: ان كلاّ منهم يحلّق في مساحة خاصّة، فقد قالوا في شعر امرىء القيس: "يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل"، وشعر النابغة "عند الخوف" وشعر الأعشى "عند الطلب ووصف الخمر"، وشعر زهير "عند الرغبة والرجاء"(1)، فكل شاعر يحسن كلامه في مجال فإنّه يضعف في غير ذلك، أمّا القرآن فإنّه بلغ الذروة بأساليبه المختلفة وفي مساحات شتّى. وهذا مما ينفي كونه إبداعاً بشرياً.
6- عدم الاضطراب في المحتوى، وتظهر أهمية هذه النقطة مع ملاحظة ما يلي..
أ: تشعب المواضيع والعلوم التي يتعرّض لها، حيث يشتمل على منظومة من العقائد والحِكَم ومكارم الأخلاق والقوانين، ويتضمّن القصص التاريخية وبعض الظواهر الكونية.. وغير ذلك.
ب: نزول كثير من الآيات أو أكثرها من دون تهيئة مسبقة، أو تبعاً لحدث طارئ أو سفر أو حرب أو نحو ذلك مما لا يسمح بالتمعّن ومراجعة النص السابق تجنّباً للوقوع في التناقض.
ج: تكرر الحديث عن نفس المواضيع التي سبق التعرض لها في فترات زمنية متباعدة مما يجعله معرضاً للاضطراب والتناقض - لو كان نتاجاً بشرياً - وعدم الاقتصار في الحديث عن الموضوع مرة واحدة.
د: صدوره من غير متعلم، إذ لم يعرف عن الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) اهتمامه بالدراسة والتعلم، فكيف يمكنه إبداع القرآن وما تضمّنه من علوم وتعاليم وغيرها، فهو يتحدّث عن السماء والأرض والتوحيد والأخلاق والتشريع والتاريخ وغير ذلك، والى هذا تشير الآية الكريمة: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾(2).
بعد ملاحظة هذه النقاط الأربع يتضح الوجه في كون عدم الاختلاف والاضطراب في القرآن دليلاً على ارتباطه بالله تعالى ومن أدلة إعجازه، كما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(3).
والبعض ممن لم ينتبه لهذه الخصوصيات الأربع لم يتفهم وجه كونه دليلاً على الإعجاز، قال محمد عبدالعظيم الزرقاني: "ويلاحظ كذلك ان الاشتمال على الحِكَم البالغة، وعدم الاختلاف والتناقض بين معانيه لا يصلح واحد منها أن يكون وجهاً من وجوه الإعجاز، لأنّهما لا يخرجان عن حدود الطاقة بل كثيراً ما نجد كلام الناس مشتملاً على حِكَم وسليماً من التناقض والاختلاف"(4).
وما أدري كيف يفهم الزرقاني معنى هذه الآية الصريحة في جعل عدم الاختلاف في القرآن دليلاً على أنّه من الله تعالى لا من البشر، ويبدو أنّه أخذ عدم الاختلاف مجرداً عن الخصوصيات التي ذكرناها فلذلك لم يستوضح دلالته على الإعجاز.
ومن كلام للإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: "وذكر أنّ الكتاب يصدق بعضه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ "(5).
7 - إخباره بالمغيبات، ويتضح وجه دلالة هذا الشاهد على الإعجاز من خلال ملاحظة ما يلي:
أ: إنّ المتميّزين بالإخبار عن بعض الأمور الغيبية والعلوم الغريبة من الكهان ونحوهم كانوا بعدد الأصابع ومعروفين على مستوى الجزيرة العربية يراجعهم العرب ويحكّمونهم أحياناً في أمورهم، ولم يعرف عن النبي (صلى اللهعليه وآله وسلّم) انّه كان يرتاد أماكنهم ويختلط بهم، ولو كان قد استقى علومه الغيبية من أحد هؤلاء لفضحه هو ومن يختص بذلك الشخص.
خصوصاً انّهم كانوا بعيدين عن مكّة بحيث يُقصَدون بعناء، فليس من المعقول أن يرتاد على أحدهم شخص من أسرة معروفة متميّزة في مكة ويلازمه فترة طويلة من دون أن يعرف بذلك أحد حتى أقاربه وأهله، خاصةً أنّ الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) كان في كفالة عمه شيخ الأباطح أبي طالب الذي سببت دعوته له ولبني هاشم إحراجاً عظيماً، خسروا بسببها زعامتهم في قريش وعُزِلوا عن المجتمع المكّي وحوربوا على جميع الأصعدة، فلو كانوا قد اكتشفوا دجلاً منه من خلال ارتباطه بالكُهّان ونحوهم لنبذوه ولم يتحملوا المحنة العصيبة بسببه.
وقد تنبّه الكاتب الإنجليزي (هـ. ج. ويلز) لذلك حيث قال: "إنّ من أرفع الأدلة على صدق محمد كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكوا في صدقه لما آمنوا به".
ب: إنّ النبي (صلى اللهعليه وآله وسلّم) لم يحتجّ بتحقق إخباراته الغيبية لاثبات صدق دعواه الرسالة الالهية، فلم تجرّ إليه نفعاً ولم تدعم سلطانه حين تحققها، بل ان بعضها تحقق بعد وفاته (صلى اللهعليه وآله وسلّم)، مما يكشف يقيناً ان الإخبار بها لم يكن لمطامع دنيوية - كما يفعل الكهنة والمرتبطون بعالم الجن ونحوهم - مثل إخباره بغلبة الروم في المستقبل - في بضع سنين - واقتران ذلك بغلبة المسلمين ونصرهم، الأمر الذي لم يكن يخطر في بال أحد آنذاك، قال سبحانه وتعالى: ﴿ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(6)، فترى لسان الآية لسان الواثق المتيقّن الذي لا يقبل أي شك أو ترديد.
وبالفعل تحققت كل هذه النبوءات - غَلَبت الروم، في أقل من عشر سنوات، مقرونة بفرح المؤمنين بنصر الله في بدر الكبرى - ولم يُعَرف ان الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) استثمر ذلك في مخاصمة المشركين وتقوية حجّته.
ومن آيات الغيب هذه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾(7)، حيث روى جمع من المؤرخين والمفسرين - من الفريقين - نزول هذه الآية المكية في بني أمية(8)، حيث رآهم النبي (صلى اللهعليه وآله وسلّم) ينزون على منبره فاغتمّ لذلك فنزلت الآية الكريمة في مكة، فصدّقها الزمن بعد حين.
أترى مثل هذه الإخبارات الغيبية تتناسب مع إخبارات الكهنة ومن شابههم؟!
وهناك العديد من إخبارات الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) - غير القرآنية - كانت من هذا القبيل حيث لم يستثمرها وإنّما شهد الزمن بصدقها فيما بعد، كإخباره بأنّ عماراً تقتله الفئة الباغية وانّ آخر شرابه ضياح من لبن، وكان هذا الحديث من الحقائق الثابتة تاريخياً حيث بلغ حداً من الانتشار بين المسلمين بحيث أحرج معاوية عند مقتل عمّار واضطرب جيش أهل الشام وكاد الأمر ينقلب عليه لولا حيلة صاحبه عمرو بن العاص حينما خدع رعاة أهل الشام بقوله: "إنما قتل عمّاراً من جاء به" محمّلاً الإمامعلياً (عليه السلام) مسؤولية مقتله(9).
عوداً على الموضوع نقول: بملاحظة هاتين النقطتين يتضح كيف تكون تلك الإخبارات الغيبية شاهدة على إعجاز القرآن وارتباطه بالله تعالى.
8- حكاه في الدر المنثور عن ابن جرير عن سهل بن سعد، وأيضاً عن ابن أبي حاتم عن ابن عمر، وأيضاً عن ابن ابي حاتم عن يعلى بن مرة، وأيضاً عن ابن مردويه عن الحسين بن علي، وأيضاً عن البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد بن المسيب، وعن آخرين. ان المقصود من الشجرة الملعونة هم بنو أمية.
9- يراجع تأريخ الامم والملوك للطبري:3/27 و 29، وغيره
ان خلود القرآن بمعنى أنّه نزل ليبقى أي ليكون مناراً ومرجعاً للأجيال المتعاقبة، ولا يختص بجيل نزوله أو بفترة معينة. وهناك عدة أمور تشهد بذلك..
1- طبيعة آياته ومحتوياته، فهو بين آيات مرتبطة بالعقائد الصحيحة وبين دعوة الى مكارم الأخلاق وبين تشريعات في مختلف المجالات منسجمةً مع الفطرة الإنسانية وصالحةً لترتيب شؤون الإنسان وتنظيم علاقاته مع الآخرين.
نعم هناك مجموعة من الاعتراضات والتساؤلات حول بعض التشريعات القرآنية والإسلامية بشكل عام ومدى انسجامها مع تطور المجتمعات، وقد تصدى العلماء للإجابة عليها وتوضيح انسجام تلك التشريعات مع تطور الإنسان، ولسنا بصدد استيعابها هنا، لأنّ مجالها كتب العقائد وفلسفة التشريع، لكن يكفينا هنا أن نشير الى الإعجاب المتزايد بالقرآن الكريم والتشريع الإسلامي من قِبَل مجموعة كبيرة من المثقفين الغربيين، فهذا الألماني المعروف (غوته) يشيد بالقرآن ويضيف: انّي اعتقد ان هذا الكتاب سيترك في القريب العاجل أثره المنجي والعميق في كل جوانب الحياة ويكون بالنتيجة محط أنظار العالم.
ويقول (جول لابوم) - في مقدمة فهرسة القرآن -: القرآن حي الى الأبد، وكل واحد من الناس يستفيد منه بمقدار إدراكه واستيعابه.
ويقول (بايلر) المستشرق المعروف - بعد أن أشاد بالقرآن - في القرآن مواعظ ظاهرة وسيكون في القريب العاجل بلا معارض الى الأبد، وكل شخص يتبع القرآن جيداً ستكون حياته مطمئنة وممتازة ومثالية(1).
2- وما يشهد بخلود القرآن ما دل ان شريعة الإسلام آخر الشرائع وان حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة، ونحو ذلك، حيث من الواضح ان القرآن الكريم هو الثقل الأكبر الذي تضمن كثيراً من أصول الإسلام وتعاليمه وتشريعاته، فمن دوام الإسلام وخلوده نعرف دوام القرآن وخلوده.
3- ومما يشهد - اسلامياً - بخلود القرآن النصوص الكثيرة في السُنّة التي تأمر المسلمين - بأجيالهم المتعاقبة - بالأخذ بالقرآن والتأمّل فيه وعظمته ونحو ذلك، ويقف في مقدمتها حديث الثقلين المروي بطرق عديدة والمسلَّم عند جميع المسلمين، حيث تضمّن وصية النبي (صلى اللهعليه وآله وسلّم) للمسلمين بأجيالهم المتعاقبة بالتمسّك بالكتاب والعترة.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "سمعت رسول الله (صلى اللهعليه وآله وسلّم) يقول: إنّها ستكون فتن، قلت: وما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه خبر ما قبلكم وما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة رد، ولا تنقضي عجائبه.."(2).
وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): "إنّ رجلاً سأل أبا عبدالله (عليه السلام) ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراية إلاّ غضاضةً؟ فقال (عليه السلام): لأنّ الله لم ينزله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض الى يوم القيامة"(3).
وفي حديث للإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة في ذم بعض الأزمنة: "يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلاّ رسمه ومن الإسلام إلاّ اسمه"(4). فإنّ ذم هذا الزمان يعني أنّ القرآن اُنزل ليكون مصدر هداية لكل الأزمنة.
ومن الشواهد على خلود القرآن ومرجعيته الدائمة للمسلمين ما ورد عن أهل البيت(عليهم السلام) من ضرورة عرض الروايات على القرآن وان ما خالف كتاب الله فهو زخرف أو باطل، وفي بعضها الأمر بأخذ النص الموافق للكتاب العزيز(5)، ما يؤكد دوام مرجعية القرآن وهدايته للأجيال المتعاقبة.
الأسئلة
1 - عرّف "علوم القرآن".
2 - من هو أوّل من دوّن في علوم القرآن؟
3 - اذكر العوامل الخمسة لنشوء وتطوّر هذا العلم.
4 - اذكر ستة من شواهد إعجاز القرآن الكريم.
5 - ما هي النقاط الأربعة التي توضّح كيف انّ عدم الاضطراب في القرآن دليل إعجازه؟
6 - اذكر نقطتين تؤكدان ان إخبارات القرآن الغيبية تكشف عن أنّه كتاب إلهي.
وهذا البحث يرتبط الى حدٍّ كبير بأممية الإسلام، فإذا تم إثبات ذلك فنعطف على ذلك دور القرآن وأهميته في الإسلام باعتباره الثقل الأكبر، ليتضح حينئذ ان القرآن كتاب لهداية البشر ولا يختص بقوم أو اُمة معيّنة.
أُممية الإسلام
لاشك في أُممية الإسلام وتصدي الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) والأئمة(عليهم السلام) من بعده لهداية جميع البشر من دون خصوصية لقوم دون غيرهم، ونحاول هنا بحث الموضوع وتسليط الضوء على نقطتين:
الأولى: في توجيه أممية الأديان.
ونشير هنا الى زاويتين..
أ - نظرياً: نقول، لا مانع من شمولية الدين، لأنّ الدين يفترض اعتماده على ركنين أساسيين همااصول العقيدة والتشريع المرتبط بالممارسة أو السلوك.
أمّا اصول العقيدة فهي حقيقة ثابتة لا تختلف باختلاف الشعوب، وأمّا الجانب التشريعي فيفترض في الدين اشتماله على تعاليم ارشادات أخلاقية سامية وتشريعات عملية عامة تساهم في إصلاح الفرد والمجتمع وسعادته في الدنيا والآخرة، فلا تختص بشعب دون آخر.
ب - بحسب الواقع الموضوعي أيضاً لا موجب لاختصاص الدين بفئة أو شعب خاص، ويكفي شاهداً على إمكانية انتشار الدين الواحد بين الشعوب المختلفة هو انتشار الدين المسيحي والدين الإسلامي بين الأعداد الهائلة من الشعوب شرقاً وغرباً، رغم تباين الظروف وتنوع الثقافات.
الثانية: هل الإسلام دين أممي؟
ونتحدث حول هذه النقطة في أمرين..
(الأمر الأول): الشبهات والاعتراضات الموجّهة على ذلك، وأهمّها ظواهر بعض الآيات، منها:
وجه الشبهة ان الآية فرضت أن لكل قوم هادياً، فكيف نفرض الرسول هادياً لجميع البشر؟
والجواب عنها من وجوه..
أ - إنّ هذا التفسير للآية الكريمة تفسير ساذج لا يلتئم مع افتراض انسجام الرد مع قولهم المردود، فإنّ هذا الرد - على هذا التفسير - لا ينسجم مع طبيعة طلبهم وموقفهم، فأيّ ارتباط بين طلبهم نزول الآية وبين هذا الردّ؟!
ويمكن أن تستظهر من الآية وجوه أُخرى للتفسير.
منها: ان المقصود بالهادي ليس هو شخص الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم)، وإنّما القرآن الكريم أو نحوه من شواهد الرسالة، ويكون المعنى ان الله تعالى جعل لكل أمّة ما يناسبها من الآيات الهادية لهم، ويشهد لهذا المعنى تعدد نسبة الهداية للقرآن الكريم ونحوه مثل ï´؟إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُï´¾(2)،ï´؟وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِï´¾(3)،ï´؟إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍï´¾(4)،ï´؟إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِï´¾(5) وغيرها...
وهذا التفسير يوفّر الانسجام بين مقدّمة الآية وتكملتها، فإنّهم لما طلبوا الآية المعينة من الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم)، توجّه الرد عليهم بأن الله ينزل مع كل رسول الآية التي تنسجم مع محيطه أو طبيعة رسالته. قال الزجاج: "طلبوا غير الآيات التي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى فأعلم الله أنّ لكل قوم هادياً"(6).
ومنها: ما حكاه الرازي عن ابن عباس: وضع رسول الله (صلى اللهعليه وآله وسلّم) يده على صدره فقال: "أنا المنذر" ثم أومأ الى منكب علي(رضي الله عنه)، وقال: "أنت الهادي، يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي"(7). وقريب منه ما رواه الحسكاني.
وهذا قريب من الوجه السابق، ومرجعه ان الهادي هو الذي يربط الناس بالرسالة سواء كان الحجة الناطقة أم الصامتة كما قال (صلى اللهعليه وآله وسلّم) "إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي".
ب - ان هذا التفسير مبني على تفسير (القوم) بالذين تجمعهم قومية واحدة بالمفهوم المعاصر، وهو بعيد عن المعنى اللغوي، قال الخليل في كتاب العين: قومُ كلّ رجل شيعتهُ وعشيرتهُ، وقال في عشيرك: الذي يعاشرك، أمركما واحد.. وسميت عشيرة الرجل لمعاشرة بعضهم بعضاً(8).
والاستعمال القرآني الشائع للقوم جاء بهذا المعنى ï´؟وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَï´¾(9)،ï´؟ (وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَï´¾(10)،ï´؟وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَï´¾(11)، والمقابلة بين القوم الظالمين ونحوهم والقوم المؤمنين التي يؤكدها القرآن خير شاهد على هذا المعنى باعتبار أن الايمان يجمع المؤمنين والكفر والفسق يجمع الآخرين، مع ان من الطرفين من تجمعهم قومية واحدة، وعلى هذا فالقوم في الآية هم المسلمون المهتدون به من أي عرق أو قومية كانوا وفي كل العصور، فيكون (القوم) بمعنى الأُمّة في قوله تعالى: ï´؟إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِï´¾(12).
ج - ان هذه الآية نزلت في المدينة - قيل بالإجماع - مما يؤكد ان (القوم) لا يقصد به قريش أو أهل مكة بالخصوص، كما ان ارادة خصوص العرب ترفضه الشواهد التاريخية التي تؤكد ان الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) لم يكن يتعامل بهذا المنظار، فلم يكن يفرّق بين الروم وعرب الشام، ولا الفرس وعرب العراق، بحيث لم يفهم أحد آنذاك تميّز العرب بالدعوة، خاصةً ان الأفكار القومية لم تكن معروفة آنذاك.
د - إنّ وجود العديد من الصحابة غير العرب مثل سلمان الفارسي وبلال وصهيب وغيرهم ينفي هذا التمييز، خاصةً سلمان الذي كان مسيحياً موحّداً، فلو لم يكن الإسلام ديناً أُمميّاً لم يكن هناك موجب لاعتناقه له.
هـ - إرسال الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم) الرسل الى الملوك غير العرب ينافي هذا الفهم - كما سيأتي الحديث عنه -.
وقريب منها في سورة الشورى: ï´؟وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِï´¾(2).
وجه الشبهة ان هدف الوحي الى الرسول كان إنذار أهل مكة ومن حولها ممّن هو قريب منها.
والجواب عنها من وجوه..
أ - ان هذا يبتني على تفسير الحول بالقرب، مع ان القرآن استخدمه بغير ذلك ففي سورة الأحقاف: ï´؟وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَىï´¾(3).
قال الطبرسي: "معناه: ولقد أهلكنا يا أهل مكة ما حولكم، وهم قوم هود وكانوا باليمن وقوم صالح بالحجر وقوم لوط على طريقهم الى الشام"(4). وكذا في سورة العنكبوت: ï´؟أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْï´¾(5).
ب - الملحوظ في الآية أنّها لم تعبر (مكة وما حولها) وهذا يكشف عن ان المنظار ليس هو البقعة وما يحيط بها جغرافياً، بل في كلتا الآيتين جاء التعبير ب- (أم القرى) وكأنّه لتأكيد مركزية مكة بالنسبة للبقاع الاخرى بسبب وجود الكعبة والبيت الحرام فيها، والعرب تسمي كل أمر جامع يُجتَمع عليه (أماً). ولذا ورد عن ابن عباس أن سبب تسمية مكة بذلك أنّ الأرضين دحيت من تحتها ومن حولها، وقال أبو بكر الأصم: (سمّيت بذلك لأنّها قبلة أهل الدنيا فصارت هي كالأصل وسائر البلاد و القرى تابعة لها)(6).
فاختصاص هذا الاسم بمكة خير شاهد على عدم النظر إليها بما انّها بقعة معيّنة.
ج - إنّ هذا التفسير يجعل الرسالة محدودة بحدود جغرافية ضيّقة، وهذا خلاف الضروري من سيرة الرسول (صلى اللهعليه وآله وسلّم). والشواهد الأخرى التي سوف نذكرها.
د - لو فرضنا ظهور الآيتين في البقعة الجغرافية فقد يكون من باب التأكيد نظير ï´؟وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَï´¾(7) وï´؟اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَï´¾(8)، أو التدرج في الدعوة للاسلام باعتبار أنّهم كانوا المباشَرين آنذاك، ومن المعلوم ان القرآن ابتنى على ملاحظة المناسبات والتأكيد على ذكر الخصوصيات، نظير قوله تعالى: ï´؟هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْï´¾(9) على التفسير القائل انّهم أهل مكة - مع أنّ سورة الجمعة مدنية - فلم يستنكر ذلك أحد من المسلمين ولم يراوده تساؤل عن اختصاص الرسالة بأهل مكة.
ومما يشهد بعدم ورود الآية الكريمة في مقام الحصر الحقيقي، قوله: ï´؟وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِï´¾(10) حيث لا إشكال في ان الهدف من إنزال القرآن ليس مجرد الإنذار ليوم الجمع..
هـ - إنّ قوله تعالى: ï´؟...وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ...ï´¾ يشمل كل المنتسبين للأديان السماوية وهو لا يلتئم مع اختصاص الرسالة بأهل مكة ومن حولها، خصوصاً مع ندرة وجودهم في هذه المنطقة.
الأمر الثاني: الأدلة والشواهد - القرآنية وغيرها - الدالة على أممية الإسلام. وهي كثيرة جداً، منها:
2- ï´؟يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِï´¾(12). ونظيرها كثير من الآيات التي تخاطب أهل الكتاب.
3- ï´؟وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِï´¾(13)ï´؟وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَï´¾(14) ونحوهما كثير من الآيات التي تؤكد شمولية الرسالة الاسلامية.
4- ï´؟بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُï´¾(15) ونحوها مما دل على تبشير غير العرب برسالته (صلى اللهعليه وآله وسلّم).
5- ï´؟وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْï´¾(16). حيث دلّت على شمول رسالته لغير العرب، وان اليهود كانوا يترقّبون بعثته.
وهناك آيات أُخرى كثيرة تشهد ان إنزال القرآن لأجل أن يتفهّمه الناس ممّا يؤكد انّه قابل للفهم بالتأمّل والتدبّر.
نعم قد يتوهّم البعض ان القرآن اشتمل على المحكم والمتشابه وان تمييز أحدهما عن الآخر غير ممكن لنا، وسوف يأتي البحث عن ذلك في باب المحكم والمتشابه إن شاء الله تعالى.
2- ورود النصوص الكثيرة التي تدعو المسلمين الى الرجوع للقرآن والالتزام والعمل به فيكشف هذا عن إمكانية فهمه من جانبهم - ولو من خلال علمائهم -.
منها: حديث الثقلين: "إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"(5).
ومنها: قول الإمامعلي (عليه السلام) في نهج البلاغة: "جعله الله رياً لعطش العلماء وربيعاً لقلوب الفقهاء ومحاج لطرق الصلحاء ودواء ليس بعده داء ونوراً ليس بعده ظلمة.. وبرهاناً لمن تكلّم به وشاهداً لمن خاصم به وفلجاً لمن حاجّ به.. وعلماً لمن وعى وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى"(6).
ومنها: قوله (عليه السلام) في نهج البلاغة أيضاً: "كتاب ربّكم فيكم مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصه وعامه مفسِّراً مجمله ومبيِّناً غوامضه.."، وهناك نصوص كثيرة جداً في السنّة تدعو الى العمل بالقرآن والرجوع إليه.
ومنها: مجموعة من النصوص التي يُوجّه فيها أهل البيت(عليهم السلام) أصحابَهم الى القرآن، مثل ما رواه عبدالأعلى في حكم من عثر فقطع ظفره فجعل على اصبعه مرارة، فقال الامام الصادق (عليه السلام): "يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّوجل، قال الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) امسح عليه"(7).
فالقرآن إذن - كما يبدو من هذه النصوص وغيرها - ليس كتاب رموز وألغاز بحيث لا يحقّ للناس الرجوع إليه ولا يمكنهم فهمه، وإنّما هو كتاب هداية يفترض في المسلمين التمعن فيه والاهتداء بهديه.
وهناك آيات أُخرى كثيرة تشهد ان إنزال القرآن لأجل أن يتفهّمه الناس ممّا يؤكد انّه قابل للفهم بالتأمّل والتدبّر.
نعم قد يتوهّم البعض ان القرآن اشتمل على المحكم والمتشابه وان تمييز أحدهما عن الآخر غير ممكن لنا، وسوف يأتي البحث عن ذلك في باب المحكم والمتشابه إن شاء الله تعالى.
2- ورود النصوص الكثيرة التي تدعو المسلمين الى الرجوع للقرآن والالتزام والعمل به فيكشف هذا عن إمكانية فهمه من جانبهم - ولو من خلال علمائهم -.
منها: حديث الثقلين: "إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"(5).
ومنها: قول الإمامعلي (عليه السلام) في نهج البلاغة: "جعله الله رياً لعطش العلماء وربيعاً لقلوب الفقهاء ومحاج لطرق الصلحاء ودواء ليس بعده داء ونوراً ليس بعده ظلمة.. وبرهاناً لمن تكلّم به وشاهداً لمن خاصم به وفلجاً لمن حاجّ به.. وعلماً لمن وعى وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى"(6).
ومنها: قوله (عليه السلام) في نهج البلاغة أيضاً: "كتاب ربّكم فيكم مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصه وعامه مفسِّراً مجمله ومبيِّناً غوامضه.."، وهناك نصوص كثيرة جداً في السنّة تدعو الى العمل بالقرآن والرجوع إليه.
ومنها: مجموعة من النصوص التي يُوجّه فيها أهل البيت(عليهم السلام) أصحابَهم الى القرآن، مثل ما رواه عبدالأعلى في حكم من عثر فقطع ظفره فجعل على اصبعه مرارة، فقال الامام الصادق (عليه السلام): "يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّوجل، قال الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) امسح عليه"(7).
فالقرآن إذن - كما يبدو من هذه النصوص وغيرها - ليس كتاب رموز وألغاز بحيث لا يحقّ للناس الرجوع إليه ولا يمكنهم فهمه، وإنّما هو كتاب هداية يفترض في المسلمين التمعن فيه والاهتداء بهديه.
وهناك آيات أُخرى كثيرة تشهد ان إنزال القرآن لأجل أن يتفهّمه الناس ممّا يؤكد انّه قابل للفهم بالتأمّل والتدبّر.
نعم قد يتوهّم البعض ان القرآن اشتمل على المحكم والمتشابه وان تمييز أحدهما عن الآخر غير ممكن لنا، وسوف يأتي البحث عن ذلك في باب المحكم والمتشابه إن شاء الله تعالى.
2- ورود النصوص الكثيرة التي تدعو المسلمين الى الرجوع للقرآن والالتزام والعمل به فيكشف هذا عن إمكانية فهمه من جانبهم - ولو من خلال علمائهم -.
منها: حديث الثقلين: "إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"(5).
ومنها: قول الإمامعلي (عليه السلام) في نهج البلاغة: "جعله الله رياً لعطش العلماء وربيعاً لقلوب الفقهاء ومحاج لطرق الصلحاء ودواء ليس بعده داء ونوراً ليس بعده ظلمة.. وبرهاناً لمن تكلّم به وشاهداً لمن خاصم به وفلجاً لمن حاجّ به.. وعلماً لمن وعى وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى"(6).
ومنها: قوله (عليه السلام) في نهج البلاغة أيضاً: "كتاب ربّكم فيكم مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصه وعامه مفسِّراً مجمله ومبيِّناً غوامضه.."، وهناك نصوص كثيرة جداً في السنّة تدعو الى العمل بالقرآن والرجوع إليه.
ومنها: مجموعة من النصوص التي يُوجّه فيها أهل البيت(عليهم السلام) أصحابَهم الى القرآن، مثل ما رواه عبدالأعلى في حكم من عثر فقطع ظفره فجعل على اصبعه مرارة، فقال الامام الصادق (عليه السلام): "يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّوجل، قال الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) امسح عليه"(7).
فالقرآن إذن - كما يبدو من هذه النصوص وغيرها - ليس كتاب رموز وألغاز بحيث لا يحقّ للناس الرجوع إليه ولا يمكنهم فهمه، وإنّما هو كتاب هداية يفترض في المسلمين التمعن فيه والاهتداء بهديه.
وهناك آيات أُخرى كثيرة تشهد ان إنزال القرآن لأجل أن يتفهّمه الناس ممّا يؤكد انّه قابل للفهم بالتأمّل والتدبّر.
نعم قد يتوهّم البعض ان القرآن اشتمل على المحكم والمتشابه وان تمييز أحدهما عن الآخر غير ممكن لنا، وسوف يأتي البحث عن ذلك في باب المحكم والمتشابه إن شاء الله تعالى.
2- ورود النصوص الكثيرة التي تدعو المسلمين الى الرجوع للقرآن والالتزام والعمل به فيكشف هذا عن إمكانية فهمه من جانبهم - ولو من خلال علمائهم -.
منها: حديث الثقلين: "إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"(5).
ومنها: قول الإمامعلي (عليه السلام) في نهج البلاغة: "جعله الله رياً لعطش العلماء وربيعاً لقلوب الفقهاء ومحاج لطرق الصلحاء ودواء ليس بعده داء ونوراً ليس بعده ظلمة.. وبرهاناً لمن تكلّم به وشاهداً لمن خاصم به وفلجاً لمن حاجّ به.. وعلماً لمن وعى وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى"(6).
ومنها: قوله (عليه السلام) في نهج البلاغة أيضاً: "كتاب ربّكم فيكم مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصه وعامه مفسِّراً مجمله ومبيِّناً غوامضه.."، وهناك نصوص كثيرة جداً في السنّة تدعو الى العمل بالقرآن والرجوع إليه.
ومنها: مجموعة من النصوص التي يُوجّه فيها أهل البيت(عليهم السلام) أصحابَهم الى القرآن، مثل ما رواه عبدالأعلى في حكم من عثر فقطع ظفره فجعل على اصبعه مرارة، فقال الامام الصادق (عليه السلام): "يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّوجل، قال الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) امسح عليه"(7).
فالقرآن إذن - كما يبدو من هذه النصوص وغيرها - ليس كتاب رموز وألغاز بحيث لا يحقّ للناس الرجوع إليه ولا يمكنهم فهمه، وإنّما هو كتاب هداية يفترض في المسلمين التمعن فيه والاهتداء بهديه.