ثبات الأخلاق

مكتبة أسلامية لطرح القضايا والمسائل الدينية
أضف رد جديد
خادم الشيعة
عضو جديد
مشاركات: 332
اشترك في: الاثنين نوفمبر 21, 2011 12:52 am

ثبات الأخلاق

مشاركة بواسطة خادم الشيعة »

ثبات الأخلاق
للشهيد مرتضى مطهري
[5]
بين الأخلاق والحقيقة
يجب الالتفات قبل البحث عن خلود الأخلاق إلى أن الفلاسفة يقولون بخلود الحقيقة والعلم والأخلاق.
ولن نعرض هنا لخلود الحقيقة، ولكن نثير سؤالا ماسا وهو: لماذا فتحوا للأخلاق والحقيقة حسابين؟
ما الفرق بين الأصول الأخلاقية وسائر الأصول التي نسميها حقيقة؟
وما يقال به خلود الأصول العلمية يجب أن يشمل الأصول الأخلاقية أيضا:
[6]
ولكن الحق أن يفصل بين الفئتينc:
يجب أن نلتفت في البدء إلى مسألة صغيرة ليعلم أن بحث خلود الأخلاق يهمنا كثيرا، وأنه مرتبط بخلود الإسلام.
وتلك المسألة هي أن الأخلاق سلسلة تعليمات.
ومن يرى التعاليم الأخلاقية غير ثابتة يرى التعاليم الإسلامية كذلك.
وهذا ينسخ كثيرا من الإسلام.
ولتكامل الحقيقة صلة بالإسلام أيضا، لكن صلة نسبية الأخلاق به أقوى منها.
فلماذا فصلوا الأخلاق عن الحقيقة؟
الحقيقة أصل نظري، والأخلاق أصل عملي.
فالحقيقة حكمة نظرية، والأخلاق حكمة عملية.
ولا يمكن لأصول الحكمة العملية أن تدخل حظيرة الحقيقة، لأن الحكمة النظرية تبيّن الحقائق الموجودة في الماضي والحاضر، فهي صورة الواقع على ما هو.
أما الحكمة العملية فمرتبطة بالإنسان، والبحث فيها
[7]
مرتبطة بما يجب أن يفعله.
فهي إنشاء.
والحكمة النظرية خبر عن الواقع، والبحث فيها يتناول مطابقتها للواقع وعدمها، وثبات هذه المطابقة وتغيرها.
وليس في الأخلاق خبر عن الواقع ولا مطابقة.
وتناولت كُتُبنا العقلين العملي النظري بعنوان (عقلي الإنسان) أو (قُوَّتَيْةِ) لكنها لم تتناول التفاوت الأساسي بينهما تناولا كافيا، مع أنها دلت على بداية حسنة.
فقد بُحث العقلان بحثاً نفسِيَّ الطابع، فقيل: في الإنسان قوتان: إحداهما العقل النظري، والأخرى العقل العملي.
والعقل النظري قوة في النفس تكسف بها عما هو خارج عنها.
والعقل العملي سلسلة إدراكات تدبر بها البدن.
فهو مختص بطبيعة النفس، والعقل النظري مختص بما فوقها.
ولذا كانوا يقولون: للنفس كمالان: نظري، وعملي.
والفلاسفة يرون ماهية الإنسان وجوهره وكماله في
[8]
العلم خلافا للعرفاء الذين لا يرون الكمال في العلم، لاعتقادهم بأن الإنسان الكامل هو الذي يبلغ الحقيقة لا الذي يكشف عنها.
وكانوا يقولون بشأن العقل العملي: إنه يسعى لتدبير البدن أحسن تدبير بسلسلة أحكام تمكنه من بلوغ الكمال.
ويرجع القدماء توازن البدن إلى الحرية، لأن النفس محتاجة إلى البدن، ولا تستطيع أن تبلغ الكمال النظري من دونه.
ولهذا يجب أن تتعادل القوى.
والقوة التي تقييم هذا التعادل هي القوة العاملة.
وإذا تعادلت القوى لم يقهر البدن النفس، وإنما يكون مقهورا لها.
ويكونوا يرون التوازن في خضوع البدن للنفس وقهرها له.
هذا ما قاله قدماؤنا، وربما لم يبحث أحد الحكمتين النظرية والعملية أكثر من الشيخ أبي على (أراد الشيخ الرئيس الحسين بن عبدالله بن سينا الفيلسوف الطبيب الفقيه الأديب المولود في صفر سنة سبعين وثلاثة مئة للهجرة أي في آب سنة 980 للميلاد )
[9]
فقد قسم الحكمة في الإلهيات من الشفاء على نظرية وعملية.
وزادها تفصيلاً في المنطق من الشفاء (الشفاء من كتب الشيخ بالعربية وهو أربعة أقسام: المنطق، والرياضي، والطبيعي، والإلهيات)
وربما كان تفصيلها في المباحثات (كتاب له أيضا نشره الدكتور عبدالرحمن بدوي في كتابه أرسطو عند العرب ). سنة 1947) أوسع منه في غيره.
وهذه المباحث القديمة مجتمعة بسطت يد التحقيق في هذه المسألة، لكنها توفها حقها منه.
حتى العقل العملي ما زال يشوبه الإبهام.
ويظهر من كلام لهم أن العقل العملي هو قوة إدراك النفس، يعنون أن لعقلنا إدراكين هما: إدراك العلوم النظرية، وإدراك العلوم العملية.
ويستفاد من كلام آخر كلمة العقل مشتركة لفظا في العقلين العملية والنظري، وأن العقل مشتركة لفظا في العقلين العملي والنظري، وأن العقل العملي ليس من سنخ (سنخ: اصل)
الإدراك فهو قوة عاملة لا قوة عالمة.
[10]
هكذا ورد في كلمات الحاج ملاّ هادي السبزواري.
فالعقلان العملي والنظري ليسا واضحين في كلامهم.
ولا يعنينا كونهما قوتين أو قوة واحدة، ولا كون أحداهما قوة عالمة والآخر قوة عاملة، حتى إذا أطلق العقل في الصورة الأخيرة على العقل العملي كان من باب الاشتراك اللفظي، يعني أن العقل العملي ليس في الواقع من سنخ العقل العالم.
ويذكر هنا أن ما بحثه السيد الطباطبائي في المقالة السادسة من أصول الفلسفة التي لم يسنح لنا التعليق عليها كان إبتكاراً ثميناً جداً لا ريب فيه.
ونقصه الوحيد أنه تصدى له وفكر فيه وبلغ غايته منه، لكنه لم يربطه بكلمات قدمائنا ليعرف جذر هذه المطالب في كلمات الشيخ وأمثاله، ويعلم العقل العملي والعقل النظري.
ولو أنه بدأ من كلماتهم ووصلها بكلماته، لكان خيراً.
وعلة هذا القطع عن كلمات الفلاسفة القدماء هو أنه بلغ ذلك الابتكار عن أصول الفقه لا عن الفلسفة.
[11]
واستلهم القسم الأول من بحثه من آراء المرحوم الحاج الشيخ محمد حسين الإصفهاني في باب الإعتبارات، فقد أقتفاه ومضي، ولهذا لم يربطه بآراء الفلاسفة.
فقال: "كل ما نستنتجه مرتبط بالحكمة العملية، ومتعلق بعالم الأفكار الإعتبارية.
فالحكمة النظرية أو الحقيقة على وفق التعبير هنا معناها الأفكار الحقيقية التي هي الصورة الواقعية للأشياء.
والأفكار العملية معناها الأفكار الإعتبارية.
والأفكار الإعتبارية هي كل الأوامر والنواهي وكل ما يطرح في علم الأصول.
وقد طرحت في علم الأصول طرحا أحسن من طرحها في كل ماعداه".
وهو يرى الاعتبار فكرة حقيقية نطبقها ونعممها على أمر آخر، وليس للنفس أو العقل مثل هذه القدرة أن تبدع مفهوما مثل باب الحقيقة أو المجاز.
[12]
فكل مجازٍ عبارة عن حقيaقةٍ مصداق واقعيتها ليس مجازاً.
وسواء قبلنا رأي السكاكي وقلنا: إن اللفظ يبقى على معناه، ونعتبر مصداقه شيئاً آخر، أم رددناه وقلنا: إن اللفظ يستعمل في غير معناه.
فالعقل ليس قادرا أن يخلق فكرة مثل مفهوم الملك دفعة، ولكنه يحفظ مفهوماً في صورة حقيقية يعتبره مجاز لشيء آخر.
الحسن والقبح
من ها هنا بدأ وتقدم، واتسع الباب اتساعاً كبيراً يستوعب كل المفاهيم التي تذكر في الأخلاق كالحسن والقبح، وتراها إعتبارية.
فهل انتزع الحسن من الوجوب، أو الوجوب من الحسن؟
هذا ما بحثه مفصلاً.
وكتب في النجف مقاله في العلوم الإعتبارية بالعربية تضمنها بحثه بالفارسية.
[13]
ووصل في مسألة الوجوب إلى أن كل وجوب ناشىء من أن الطبيعة لها أغراض في صميمها تسعى إليها، فالجماد والنبات والحيوان ينجز الأفعال غريزياً، والإنسان ينجزها فطرياً.
وتلك هي الطبيعة التي تتحرك صوب غايتها.
ويفعل الإنسان أفعالاً يريدها ويفكر فيها من أجل غاية لا ينالها إلا بإرادته.
وهذه الغاية هي في الواقع غاية الطبيعة التي لا تباشر الوصول إليها، وإنما تتذرع بالإدارة والفكر.
من هنا تمس الحاجة إلى الإعتبارات تلقائياً.
فطبع الإنسان كطبع النبات يحتاج إلى الغذاء، ولكنه يكسبه بالفكر والإدارة، بينما النبات يستمد غذاءه من التربة بجذوره الضاربة فيها.
والحيوان يندفع إلى غذائه من تلقاء نفسه بحكم غريزية التي لا تعرف ماهيتها.
ولا يفعل الإنسان هكذا، بل يفعله على وفق الإدارة التي لا يعلم أنها جهاز مسلط من جهاز الطبيعة.
فالإنسان يتحرك بجهازين: الطبيعة، والفكر والإرادة.
[14]
وجهاز الفكر والإرادة ينبغي تحقيق ما يصبو إليه جهاز الطبيعة.
فالغاية تظهر بصورة حاجة مثل اشتهائه الزاد.
وقدماؤنا بينوا مقدمات الإدارة، فقالوا: مقدمات الفعل الاختياري هي: تصوره، ثم التصديق بفائدته، والرغبة فيه التي اختلفوا فيها، ثم الجزم، والعزم، فتحصل الإرادة وبعدئذ يحدث الفعل الإختياري.
والسير الطباطبائي يقبل هذه المقدمات، لكن الشيء الأساسي عنده هو الحكم الذي تحكم به النفس، لا الحكم النظري الذي كان القدماء يصدقون بفائدته.
بل هو حكم إنشائي يجب أن تفعل هذا.
وما يتكىء عليه هو أن كل فعل اختياري يضم حكماً إنشائياً واعتبارياً دائماً، مثل جيب فعل كذا ويجب عدم فعل كذا.
وهذا الوجوب هو الذي يجبر الإنسان على ابتغاء القصد الطبيعي.
وربما رد السيد كل الإيرادات إلى العلم.
وهذا كان مثل أكثر أعماله الأخرى التي هي في البدء
[15]
فكرة تخطر له، فيتعقبها دون التفات إلى ما قاله الآخرون بشأنها.
وقد قلت له مرة: هل ما تقوله هنا موافق لما قاله القدماء في الفرق بين الحكمتين العملية والنظرية وتصريحهم بأن الحسن والقبح إعتباريان.
وإذ واجه قدماؤنا المتكلمين ذكروا للبرهان نوعاً من المبادئ.
وعندما ذكروا مبادئ للخطابة والجدل ذكروا الحسن والقبح، وصرحوا بأنهما لا يستفاد منهما في مبادئ البرهان، وعدوهما جزءاً من المشهورات، وضربوا قبح ذبح الحيوان عند الهنود لهما مثلاً.
ولو بحث أحد بآفاق الفلسفة لما واجه مسألة يستند إثباتها إلى الحسن والقبح خلافاً للمتكلمين الذين يستندون إليهما في كل مسألة مثل أن اللطف حسن، وهذا قبيح على الله، وذاك واجب عليه.
والفلاسفة يرون هذه أموراً اعتبارية، ويعدونها من المسائل النظرية غير القابلة للاستدلال.
وهذا يبين أنهم مثل العلامة الطباطبائي يرون الحسن
[16]
والقبح اعتباريين.
والموضوع الآخر الذي يعطي حديث الطباطبائي الأهمية الكبرى هو أن ناساً مثل راسل الذي جاء اليوم بفلسفة حديثه يعود كل ما جاء به إلى ما قاله الطباطبائي.
ولا ريب في أن الطباطبائي لم يطّلع على أفكار هؤلاء.
وما انتبهت إذ كتبتُ عنه أصول الفلسفة أنه جاء بفلسفة جديدة في العلوم العملية والأخلاقية هي أحدث ما قدمه العصر في الأخلاق.
وربما لاح له هذا النظر قبل حوالي أربعين سنة عندما كان في النجف، وهو مقارن لظهور نظر الأوربيين المشابه له لا متأخر عنه.
وهو لم يطلع على آرائهم قط.
ومن المحدثين راسل الذي فصّل هذا الموضوع تفصيلاً حسناً.
ومن يطالع تاريخ فلسفته، ولا سيما ما يخص نظرية أفلاطون يجد رأي راسل في هذه المسألة.
فأفلاطون تحدث في الأخلاق حديثاً رفيعاً، لكنه رأى
[17]
الحكمتين النظرية والعملية نوعاً واحداً، ونظر إليهما بعين واحدة، وتناول الخير في الأخلاق قائلاً: الأخلاق هي أنه يجب أن يطلب الإنسان الخير الذي هو حقيقة مستقلة عن النفس الإنسانية تجب معرفتها.
أي أن ما يطلبه الإنسان في باب الأخلاق وفي باب الحقيقة واحد.
فهو مثل الرياضيات التي تبحث في الأعداد المستقلة عن ذهننا، والطب الذي يتناول موضوعات خارج الذهن.
فيظهر من قول أفلاطون أن الخير الأخلاقي موجود مستقل عن الإنسان الذي يجب عليه أن يعرفه كما يعرف الحقائق الأخرى.
من هنا يتضح أن قدماءنا ألفوا بين أقوال الماضين، فاصطفوا الحسن، واطرحوا سواه من غير أن يدلوا على المصطفى منها والمطرح.
وقد استقوا كثيراً من قول أفلاطون في الأخلاق، لكنهم استبعدوا منه ما ذكرناه آنفا، وهو جدير بالاستبعاد.
وضمن نقل راسل لرأي أفلاطون يعرض رأيه هو قائلاً: يجب أن نفتح مسألة الأخلاق ونرى ما يتجلى لنا
[18]
منها، فكيف فكر أفلاطون الذي قال: للخير وجود فيما وراء وجودنا؟
وقدم هنا جواباً هو رأي السيد الطباطبائي نفسه قال: أصل الحسن القبح مفهوم نسبيّ يطرح في علاقة الإنسان بالأشياء، فعندما يكون لنا غاية نريد بلوغها نقول: هذه وسيلة حسنة؟
والآن ما معنى هذه وسيلة حسنة؟
معناه وجوب التوسل بها إلى غايتنا، وحسن هذه الوسيلة هو هذا الوجوب لا صفة واقعية لتلك الوسيلة.
فقد حسب أفلاطون الحسن والقبح موجودين في الأشياء وجود البياض والكروية وأمثالهما فيها، وهما ليسا كذلك.
وقولنا: الصدق حسن يعني أنه حسن بالنسبة لأمر معين.
أي: أنه حسن، لأنه يوصلنا إلى ذلك الأمر، لا لأنه حسن للجميع.
وبالتحليل المنطقي وصل رسل وآخرون إلى أن الحسن والقبح اعتباريان، وأن ما ابتلى به الفلاسفة حتى اليوم هو أنهم ظنوا المسائل الأخلاقية كالمسائل الرياضية
[19]
والطبيعية، وفكروا فيها كما يفكرون في هذا المسائل.
فعدوا البحث في الأخلاق عن حسن عمل وقبحه كالبحث في الطبيعة عن الجاذبية مثلا.
فالحسن والقبح عندهم مما يكتشف، وهما ليسا كذلك.
فلو صدق أحد أو كذب في قوله: الظلام حالك لما أتصف ظرف قوله، أعني الوجود العينيّ للظلام بصفةٍ عينيّة اسمها الحسن، بصفة غير عينيّة اسمها القبح.
وذلك لأن هاتين الصفتين ليستا من صفات الشيء نفسه.
وإنما هما من صفات توصيله وعدم توصيله إلى غاية معينة.
واعتبر الصدق حسناً، لأنه لا يوصل إلى هذه الغاية، فيجب أن يقال.
واعتبر الكذب قبيحاً، لأنه لا يوصل إليها، فيجب ألا يقال.
وهذا يعني أنه ليس لدينا هنا سوى وجوب القول وعدمه.
[20]
والحسن والقبح ينتزعان من هذا الوجوب وعدمه.
وليست نتيجة هذا الكلام أن الأخلاق لا حقيقة لها.
وما جاء به هؤلاء جديد للغاية ي نظرهم، وهو مورد اهتمام الفلسفة الأوربية الآن ومحط قبولها
وهو عندهم ناسخ للنظريات الأخلاقية كنظرية أفلاطون وارسطو وكانت وأمثالها.
وقلنا: إن ما جاءوا به قد ورد في كلام الحكماء الإسلاميين.
ونقص عمل السيد الطباطبائي هو أنه لم يربطه بآراء حكمائنا القدماء.
وكان الأستاذ الحائري يقول: إن الأوربيين سألوه في الامتحان عن هذه النظرية وهذا حاكٍ عن تعاطيهم لها.
ما الرابطة بين العلوم النظرية والعملية؟
والعلوم النظرية في اصطلاح هي النظرة إلى الكون.
والعلوم العملية هي المنطق والجدل والفلسفة المادية.
فكيف نحصل على نتيجة من مقدمات من أصل الحقيقة الذي هو من سنخ الإنشاء؟
[21]
ولا إشكال في كون المقدمات خبرية والنتيجة خبرية.
فتقول مثلاً: ألف مساوٍ لباءٍ، وباء مساوٍ لجيمٍ.
فألف إذن مساوٍ لجيم.
وهنا حصلت نتيجة خبرية من مقدّمتين خبريتين.
لكن كيف نحصل على نتيجةٍ إنشائية من مقدمتين خبريتين؟
هل هناك قياس مقدمتاهُ خبريتان ونتيجته إنشائية؟
لا نريد أن نقول لا.
فما تحليله إذا كان موجوداً؟
وهذا محل نقاشٍ حاد في أوروبا استنتج منه رسل وأمثاله أنه ليس هناك أصول أخلاقية دائمة.
إلى هنا استنتجنا ما نريد من أن الحسن والقبح ليسا صفتين عينيتين للأشياء يجب اكتشافهما على نحو ما يجري. في العلوم العصرية.
أي أن من يسلك هذا السبيل إلى الأصول الأخلاقية لا يدرك غايته، لتشابه الأمر الاعتباري عليه بالأمر الحقيقي.
[22]
هل الاعتباريات ثابتة أو متغيرة؟
أو هل هي نوعان: ثابت ومتغير؟
فهذه مسألة متصلة، ولنا مناقشة للغربيين فيها.
والسيد الطباطبائي يرى الاعتباريات نوعين: ثابتا ومتغيرا.
ولم يبحث كثيرا عن الاعتبارات الثابتة على نحو ما فعل بالمسألة برمتها، لكن أساس نظريته هو أن لدينا اعتبارين.
وضرب العدل والظلم ونظائرهما أمثلة للاعتباريات الثابتة، وقال: حسن العدل وقبح الظلم أمران اعتباريان ثابتان لا يتغيران، ولدينا الكثير من الاعتبارات المتغيرة أيضا.
من هنا يجب أن ندخل بحث الواجبات.
ولا ريب في أن بعض الواجبات فردي وجزئي، فالمحتاج إلى درس معين يقول: يجب أن أتلقى هذا الدرس وغير المحتاج إليه يقول: يجب ألا أتلقى هذا الدرس.
وكل من المتحاربين يحارب لوجوب معيّن.
فالوجوبات الفردية الجزئية لا ريب في نسبيتها، أي
[23]
أنها تتغير من امرئ لآخر.
فعندما أقول: هذا الغذاء لذيذ لي، فإن فيه جانباً نظرياً هو علمي بلذته.
كما أنه في جانباً عملياً هو وجوب تناوله.
والمسألة في الأخلاق هي: هل هناك سلسلة وجوبات يعمل الناس على أساسها عملا واحدا؟
هل لدينا من قبيل {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}(الشمس8). و {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ الخيرات}(الأنبياء73).
والطباطبائي يفرق بين (أوحينا إليهم فعل الخيرات) و (أوصينا إليهم أن افعلوا الخيرات)

[25]
الوجوبات الكلية
إذا كان لدينا مثل هذه الوجوبات، فكيف توجه مع المقاصد الجزئية؟
ومن هنا نصل إلى نتيجة عالية هي أن لا يكفي لفرق الحكمة النظرية من العملية أن نقول: هذه مجموعة وجودات، وتلك مجموعة وجوبات.
وهذا لا يكفي لتفسير الحكمة العملية، لارتباطها بالوجوبات الكلية.
فالصناعة مرتبطة بعدة وجوبات، لكنها لا تستطيع أن تكون حكمة عملية، لأن وجوباتها جزئية.
والوجوبات الكلية هي تكون في جميع الأذهان.ولا تكون لمقاصد جزئية.
وأصل هذه الوجوبات القبول بأن الروح مجردة، وأن
[26]
الإنسان غير محدود بالطبيعة المادية، وهذا نفسه من أدلة تجرد النفس.
وقد وصل كانت أيضا إلى تجرد النفس بالمسائل الأخلاقية.
والإنسان محتاج بدنياً إلى أشياء محدودة متفرقة نسبية، فاحتياج زيد يخالف احتياج عبيد.
وموجبات هذه الاحتياجات الفردية متناقضة جدا، ولذا كانت غير أخلاقية.
ومثلما تجر الطبيعة المادية الإنسان تجره الروح إلى مكانة عالية، ولذا سخر لها إرادته وفكرة.
وتريد الطبيعة المادية للإنسان أن تبلغ الكمال بسد الحاجة إلى الغذاء.
فنحن على ما يقول شوبنهاور: نلقي في أفواهنا اللذيذ والحلو، وننطلق وراء اللذة في عالم الفكر، ولا نعلم أن الطبيعة تريد أن تبلغ غايتها فينا، ولهذا أتاحت لنا اللذة، فإذا نبحث عن اللذة في عالم الفكر نتحرك في الوقت نفسه صوب مقاصد الطبيعة.
فالطفل مثلا يبكي، لأن الطبيعة تريد أن تهبه النضج فهو لا يبكي من إحساسه بالألم فقط، بل الطبيعة تعلن
[27]
حاجته بهذه الوسيلة، وتتيح له الإحساس والإدراك.
وللإنسان سموّ روحي لعل أصله هذا الشرف والكرامة المستقران فيه
وبعض الوجوبات مسخرة لبلوغ هذا الكمال.
فعندما يقول: يجب أن أفعل كذا، فإنه يعني أن يبلغ ذلك السمو، وإن لم يظهر هذا القصد في شعوره.
وهذا لمعالي مشتركة بين الناس، ولذا يحسون بها إحساسا واحدا.
والتوجيه الثاني للوجوبات الكلية هو مسألة الطبع الاجتماعي، إذا يقال: إنه فُطِر على الاجتماع، وإنه منح سلسلة من البواعث لسدّ حاجاته الاجتماعية لا الفردية فحسب.
فهو مفطور على سد الحاجات الفردية والاجتماعية.
ولولا هذا الميل الاجتماعي لديه لما نشأ هذا الوجوب لذلك، فأنا أعمل كذا ليشبع فلان مثلا، ولو لم يكن له صلة بي لما نشأ هذا الحكم.
وهذا الحكم مرتبط بالأنا الأعلى فرديا كان أم
[28]
اجتماعيا، وهذا الأنا الأعلى يريد الوصول إلى مقصده، وهو الذي يرغمني على الأفعال الأخلاقية التي هي أصول ثابتة، أي: وجوبات لا تتغير.
وهي كلية، ولدى الناس جميعاً، ودائمة لا مؤقتة.
والمسألة الأخرى التي قالها هي فلسفة الوجود، وفلسفة الصيرورة.
وفلسفة الوجود مرتبطة بثبات الأخلاق، فهي ترى أن الأخلاق خالدة، وأن هذا الأصل الأخلاقي صحيح إلى الأبد.
فيما تراه فلسفة الصيرورة نسبياً موقتاً معتبراً في زمان، وغير معتبر في آخر.
وهذه المسألة مهمة جداً، لأنها لا تختص بالأخلاق وحدها، بل تشمل الأحكام أيضا.
فهؤلاء يعتقدون بأن الحقائق متبدلة لا تستقر على حال أبدا، حتى الدستور كذلك، لأن الفرق بين الحقيقة والأخلاق أن الأولى خبر، والثانية إنشاء.
ولا بد أن تشمل الأخلاق بهذا التبدل الدائم.
[29]
الحقيقة ثابتة أم متغيرة؟
لا ملازمة بين فلسفة التحول وكون الحقيقة مؤقتة على نحو ما قيل، لأن فلسفة التحول ليست مرتبطة بالواقع الخارجي.
وعلى فرض أنه ليس في الواقع إلاّ الصيرورة، فإنها لا تستلزم تغير الحقيقة في الفكر.
وإذا كانت الوقائع ومنها فكر الإنسان متغيرة، فإن الحقيقة ستتغير، ولكن أولئك لا يقولون هذا.
وعلى وفق نظرنا لا يتجرد محتوى الفكر عن الموجود الذهني والعيني حتى بالاعتبار.
فقولنا: "زيد قائم يوم الجمعة" صادق أبدا.
فهذه الجملة بغض النظر عن وجودها العينيّ والذهنيّ ليست شيئا يقال عنه: إنه ليس في الذهن ولا في الخارج.
فزيد قائم قضية تصدق على محتواها دائما.
وهذا غير ممكن، لأن هذه القضية إما أن يكون لها وجود ذهني أو عيني، لكن الإنسان حين يفكر فيها يجردها
[30]
من وجودها الذهني، ثم يقول عن المفهوم أو المعنى المجرد في مقام الاعتبار: صادق أبدا.
وبناء عليه نقول: إذا كان الفكر متغيرا، فالمعتبر متغير أيضا، ولا يبقى (زيد قائم يوم الجمعة) في ذهننا على ما تصورناه أمس، لأنه متبدل في الأساس وصائر غيره.
ولكن هؤلاء لا يقولون هكذا.
وما ورد في بحث ثبات الحقيقة وارد في الأخلاق فيقال لهم: لو أخذنا بفلسفة الصيرورة، لامنا بتغير الحقائق، والأخلاق مجموعة من الأوامر والنواهي، فهي مجموعة من الاعتبارات.
وتغير الوقائع لا يستوجب تغير الاعتبارات.
وفي حديثنا عن ختم النبوة قلنا: إذا قال أحد إن كل شيء متغير، فلا معنى لخاتمة الرسالات، قلنا: إن تغير الوقائع لا يستلزم تغير هذه الرسالة، لأنها عهد، وتغير الوقائع لا يشمل العهود
فالقول بأن فلسفة الصيرورة تقتضي تغير الأخلاق ليس صحيحا.
ويمكن رد ذلك بهذا البيان:
[31]
يقولون: كل دستور سواء أكان أخلاقيا أم غير أخلاقي قائم على مصالح.
وهذا ما قاله المتكلمون واتبعهم الأصوليون، فقالوا: "الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية".
أو بتعبير المرحوم النائيني: المصالح والمفاسد هي في علل الأحكام، والأحكام هي ما يجب وما لا يجب في الوصول إلى تلك المصالح، فهي تابعة لتلك المصالح والمفاسد كما يتبع المعلول علته.
المصالح أمور واقعية، والأوامر والنواهي عهود واعتبارات.
بيد أن المصالح والمفاسد التي تنشأ عنها هذه الأوامر والنواهي بحكم واقع متغير يؤدي إلى تغير الأوامر والنواهي الناشئة عنه.
وهذا الإشكال يجد صورة أخرى في ضوء هذا البيان الذي هو أحسن بيان.
ونريد الآن أن نعرض الموضوع على وفق المعايير الأخلاقية، ونخص بحث الأخلاق باصطلاحنا الخاص، فبحث الأخلاق واسع متعدد الفروع كالمعاملات والعبادات، لكن بحثنا فعلاً مختص بالأخلاق بمعناها الخاص.
[32]
ثبات الأخلاق
يمكن بيان الخلود في الأخلاق التي نسميها اصطلاحا الحقيقة بأن قولنا: (هذه معاملة حسنة). يعني أنها حسنة في عينها، وهكذا لو وصفت بالقبح.
أي أن كل فعل حسن في عينه أو قبيح في عينه.
ويمكن القول بأن بعض الأفعال لا حسن في عينه ولا قبيح في عينه.
ومعنى ذلك هو أن الحسن والقبح عينيان، والصفة العينية لا تتخلّف ولا تختلف.
وسيبقى الحسن حسنا والقبيح قبيحاً ما دام العالم.
والعقل أيضا يحكم بإنجاز الحسن واجتناب القبيح، ولا نقاش في البديهة العقلية.
ويستند عادة إلى ذاتية الحُسن والقبح في الأشياء.
ولئن لم يبحث حكماؤنا هذه المسألة، فإنهم لم يعتقدوا بالحسن والقبح العينييين.
وترون الاستناد في المنطق إلى الحسن والقبح كالاستناد إلى المشهورات المناسبة للجدل والخطابة.
وقد سبق التذكر بأن الحسن والقبح مختلفان عند
[33]
الأمم والأقوام، ولذا يمثلون بقبح ذبح الحيوان لدى الهنود، ولكنهم لم يبحثوا أكثر من ذلك، ولم يبينوا سبب جعلنا الحسن والقبح من مبادئ البرهان، ولم يذكروا علة الافتراق من القضايا الرياضية.
كل ما قالوه هو أن الحسن والقبح من أحكام العقل العملية.
ومن الحسن معرفة أن العقل العملي يتيح للإنسان التوصل إلى ...
وما ذكروا ولا أوضحوا أكثر من هذا.
وأكثر الحكماء بحثا في هذا المجال السيد الطباطبائي، وذلك في المقالة السادسة عن أصول الفلسفة، وقد كتبنا حاشية على القسم الأول من هذه المقالة، ولم نكتب حاشية على القسم الثاني لضيق الوقت.
وأغلب أقسام هذا البحث غير مقبولة لدينا على الرغم من أنه بحث أساسي وعميق جدا جدير بالفلسفة وبناء الذهن بناء فكريا، فضلا عن ملاءمته لعلم الأصول.
لقد تناول في هذه المقالة الأفكار الاعتبارية وكيفية حصولها، وهي جديرة بالبحث والمناقشة. إلا أننا هنا نقدم خلاصة ما يرتبط منها ببحثنا.
[34]
يبدأ حديثه من أن قدرة الذهن وعمله هو أن يلتقط أفكار عن الأشياء الخارجية العينية، وهو أفكار حقيقية ولا قدرة للذهن على اختراعها، ويطبقها على واقع ما، أي يطبق شيئا على شيء، وبالتعبير الاصطلاحي والأدبي يصنع مجازا.
وليس المجاز - بنظر السكاكي - استعمال اللفظ لمعنى آخر، فنننزع كلمة أسد مثلا مما وضعت له ونستعملها في غيره كإطلاقها على رجل شجاع لمشابهته الأسد.
لا ليس المجاز تصرفاً للأسد واقعاً، ثم نطلق اللفظ عليه.
وهذا إنشاء يقوم به الذهن.
وللمرحوم السيد البروجردي تعبير لطيف في هذا الصدد، إذ كان يقول: عندما نقول: رأيت أسدا يرمي، فإننا نستعمل جملة بدلاً من أثنتين.
فكأننا قلنا: رأيت زيدا يرمي، وزيد مثل الأسد.
وكان يقبل كلام السكاكي في المجاز.
هذا الحديث قاله الطباطبائي في باب قدرة الذهن على الانتزاع والإنشاء وما شابه، يعني أنه يجعل الشيء مصداقا
[35]
لشيء آخر على وفق حساب.
وله كلام آخر وهو حسن الغاية -لكن تعميمه غير مقبول لدينا- وهو قوله: فرق الموجود ذي الروح من الموجود بلا روح أن الأخير ليس له سوى سبيل واحد وحركة واحدة إلى غايته، وأنه يتجه إليها مجبرا.
فالطبيعة في هذه المرحلة تتجهز بوسائل تعينها على التحرك إلى مقصدها.
وذو الروح من الناحية البدنية هكذا يتحرك إلى غايته، ولكن تجهز الطبيعة ليس بكاف لبلوغ ما تريد، فيستعين الحيوان بجهازه الشعوري والإدراكي.
فيحصل في الواقع تنسيق بين الطبيعة العينية والتكوينية، الطبيعة الفاقدة للإحساس فينشأ جهاز الشعور الذي يعمل على إيصال الطبيعة إلى ما تريد، والإنسان يحسب أن هذين إتحدا إتفاقا.
فالطبيعة الإدراكية للإنسان والحيوان هي أنه تصور أو أدرك شيئا مال إليه ورغب فيه، فإذا ناله سر به، وإلا اغتم.
فهو يسعى إلى الإلتذاذ بنيل شيء أو النجاة من خطر، فإذا لذعه الجوع انتفض يبحث عن طعام لما عرف من لذته.
والطبيعة تواجه حاجات لا تنتهي تدعوها إلى بلوغ
[36]
غاياتها.
فالحيوان يلتذ بالطعام والطبيعة تحقق مبتغاها، هذان العملان غير مرتبط أحدهما بالآخر؟
هل اجتمعا مصادفة؟
هل يمكن أن يحصل هذا بنحو أخر، فيلتذ الأكل بتناول الحجر مثلا والمعدة تحتاج إلى مواد أخرى؟
هل تنفع الأطعمة اللذيذة آكلها وتسد حاجة الجسم والطبيعة إتفاقاً؟
ليس في الأمر اتفاق، وإنما هناك صلة بين الأثنين، سوى أن أحدهما أصل والآخر فرع.
وإذا كان الأمر كذلك، فهل الأصل هو القوة الإدراكية التي تريد الإلتذاذ والإنفلات من أذى الجوع، وتحتاج إلى جهاز يمكِّنها من بلوغ اللذة المنشودة ويعدها للذائذ أخرى؟
أو أن الطبيعة هي الأصل الذي يسخِّر المرء لخدمته؟
ولا شك في تناسب العمل وتناسقه، ولهذا يلتذ كل حيوان بما تحتاج إليه الطبيعة، وهي لا تحتاج لغير ما تلتذ به.
فالمرأة مجهزة بالترائب والحليب وجهاز الإنجاب،
[37]
وتلتذ بذلك في حين أن الرجل يتقزز حتى من تصور الولادة.
وهذا يكشف عن أن ذلك على وفق حساب حكيم، فالحيوان البيوض يلتذ بالبيض، والولود يتلذ بالولادة.
إنه لتنسيق رائع في العمل.
ومن الخطأ التصور أن المطامح مختصة بذي الشعور، وهذا ما قاله الشيخ وآخرون.
وإذ يقال: للطبيعة غاية، يُشكل عليه بأنها ليست ذات شعور، فتكون لها غاية.
ومن الاتفاق تعلق الغاية بهذه الطبيعة التي لا شعور لها، فامتلاك جهاز الشعور تبع لغاية الطبيعة التي هي التحرك صوب كمالها.
وامتلاك الشعور بقول الشيخ لا يجعل عديم الغاية ذا غاية.
وامتلاك الغاية مربوط بالطبيعة نفسها، بيد أنها تشعر بهذه الغاية حينا، ولا تشعر بها حينا.
ولا انسجام بين اللذة وحاجة الطبيعة دائما، فكثير من اللذات ضرر على الطبيعة وإبعاد لها عن كمالها.
[38]
ويرد هذا الإشكال بأنه لا يعبأ بالموارد الشاذة في شأن الإنسان الذي يعمل بحكم العقل.
أعني أن الانسجام متحقق حتى إنه لا يمكن حمله على الاتفاق (المصادفة ).
وهناك استثناءات من قبيل المريض المحتاج إلى دواء لا تستطيبه النفس، فيحصل نوع من التغايير بين مقتضيين، وله تفصيل خاص به، فالحيوان يلتذ بتناول دوائه بحكم الغريزة، فيما لا يلتذ به الإنسان بحكم العقل.
لندع هذا.
قال السيد الطباطبائي: من هنا يشرع عالم الاعتبار، عبر تعبيرا يظهر منه أن الأفكار الاعتبارية موجودة في الإنسان وغيره.
وليس هذا التصميم بمقبول لدينا.
وقال: بين الطبيعة والغايات -على ما تعبر عنه الآثار- رابطة وجوب وضرورة من النوع العيني والتكوينى والفلسفي الذي بين كل علةٍ ومعلولها، ولكن الإنسان في عالم الإعتبار يقيم هذا الوجوب العيني المقابل للإمكان والإمتناع في الطبيعة بين شيئين ليس بينهما هذه الرابطة
[39]
الإدراكات الاعتبارية
من هنا تنشأ هذه الوجوبات التي يخلقها الذهن.
وهذا الوجوب قائم في الأفعال الاختيارية لمدى كل ذي شعور.
وبهذا الوجوب قال القدماء، وما كان هذا أمراً، فقد قالوا: في البدء يتصور الإنسان الشيء أو يحس به، ثم يميل إليه ويرغب فيه.
وبيّنوا مراتبه المختلفة.
وبعد الرغبة في الشيء ينشأ العزم على بلوغه، ثم التصديق بفائدته بعد تصورها.
وهذا التصديق في نظرهم تصديق بأمر عيني، يعني التصديق بأن الشيء الفلاني فيه الفائدة الفلانية.
[40]
وتأتي بعد ذاك المراتب الأخرى التي آخرها الإرادة.
ولكن هؤلاء لم يقولوا بهذا الحكم الإنشائي.
أما السيد الطباطبائي، فقد قال: من هنا ينشأ اعتبارا الحُسن.
فعندما أقول "يجب أن أنجز هذا العمل" ينتزع منه الحسن.
وهذه أيضا مسألة، وهي أيُّما ينتزع من صاحبه، الحسن من الوجوب أم الوجوب من الحسن؟
ولاعتقاد السيد الطباطبائي بأن الوجوب هو الاعتبار الأول يعتقد بانتزاع الحسن منه.
والحُسن في الواقع مبين لنوع من الملاءمة، مثلما يرى الإنسان المحاسن الواقعية في الأفعال.
وهو يصدع بقول يكرره في مواضع مختلفة كتفسير الميزان، وهو أ، أحد الاعتبارات هو الاستخدام.
وهو أن للإنسان صلة بقواه وأعضائه، وهي صلة عينية وتكوينية وواقعية.
فقوة أيدينا في خدمتنا إنما هو أمر تكويني، يعني أن يدي واقعا وتكوينا في خدمتي.
[41]
وجميع أعضاء الإنسان مملوك واقعي له.
ورأي السيد أن كل مادة خارجية هي وسيلة للإنسان ينتفع بها انتفاعه بيده، فمثلما أن يده هي ملكه، فإن هذه المادة وذاك الشيء ملكه أيضا.
وهذا توسعة لهذا الاعتبار.
والإنسان يوسع واقعة المحدود بوجوده هو إلى الأشياء الأخرى.
وهذا النوع من الاعتبار أمرٌ غريزي عند الإنسان في نظر السيد الطباطبائي الذي قال: إن الاعتبار غير مختص بالمواد الخارجية والجمادات والنباتات، فالإنسان ينظر حتى إلى الإنسان الآخر بعين الاستخدام.
ورأيه أن هذا الاعتبار عام وفطري، فالإنسان خلق بطبعه مستغلا.
وذهب إلى أن المسائل الاجتماعية والأخلاقية أصل ثانوي لم يتناوله في هذه المقالة، لكنه بحثه في الميزان تفسير الآية الثالثة عشرة والمائتين من سورة البقرة {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}(البقرة/213).
[42]
وربما بحثه في مواضع أخرى من أقواله بما يخالف هذا ولو بحسب الظاهر.
فقد قال هنا: الاستخدام أمر فطري، والعدل الاجتماعي أمر فطري أيضاً إلاّ أنه يستند إلى فطرة معدلة.
وصرح في التفسير بأن الإنسان مدني بالتطبع لا بالطبع.
هنا -في المقالة السادسة من أصول الفلسفة- قال: الإنسان مدني بالطبع، لكن الطبع المقول به هنا غيره في أماكن أخرى من كلامه.
فهو لا يقبل أن الإنسان مجبول على الاجتماع. وإنما يرى اجتماعه نتيجة لتعادل وتزاحم غريزتين.
فكلامه يشبه قول الداروينية الحديثة المعتقدة بأن الأصل في الإنسان والحيوان هو تنازع البقاء، الذي عبر عنه هو بالاستخدام.
وذلك لأن الأصل في الإنسان التنازع الذي جاء التعاون بعده، فالإنسان يتنازع ليبقى.
وليس العدو نوعاً واحداً دائماً، فقد يصطف ناس على عدو مشترك، لإحساسهم انهم غير قادرين على مواجهته.
[43]
متفرقين، وأن بقاءهم رهن بتآزرهم، فنشأ التعاون كما تنشأ المعاهدات التي تبرمها الدول فيما بينها دفعاً لخطر مشترك.
فهو في الحقيقة تعاون منبعث من التنازع، ولهذا تحدث الحرب بين الأصدقاء في الظاهر عندما يزول العدو المشترك.
وبعد مدة يسيرة ينشأ الخلاف بين الفئة الغالبة، وتحصل الحرب ثانية، وهكذا، حتى إذا بقي اثنان، احتربا أيضاً، وكان البقاء للأصلح.
وإذا بحثنا عن جذور المبادئ الأخلاقية للتعاون والتآلف والإتحاد وأمثالها، وجدناها ناشئة عن التنازع.
ومعنى هذا أنك إذا أردت أن تبقى إزاء العدو من طبيعة وغيرها، فسبيلك الصدق والاستقامة وأمثالهما.
هذا هو قول التكامليين الذي يمكن استنباط مثله من أقوال السيد الطباطبائي على الرغم من أنه لم يصدع بذلك، لكنه لازم قوله.
فهل يميل الإنسان إلى الشر أخلاقياً؟
هذا هو شأن الإنسان على كل حال، ولكن بنحو نسبيّ.
[44]
فقد خلق الإنسان باحثا عن مصلحته هو ناظراً إلى كل شيء بعين الاستخدام، ولا يستطيع ألاّ ينظر هذه النظرة، هذا هو قول السيد الطباطبائي.
هل التنازع من أجل البقاء والاستخدام أمرٌ واحدٌ؟
لم نرد أن نقول: إن المفهومين مفهوم واحد، وإنما أردنا القول: إن المفهومين ينتهيان إلى نقطة واحدة.
فقولنا: كل امرئ غايته الأولى استخدام غيره، وهذا إحساس عام للناس جميعا، نتيجته الحتمية هي الحرب وتنازع البقاء.
واستدام بحثه عن الإدراكات الاعتبارية، وهو أقرب إلى علم الأصول منه إلى الفلسفة.
لقد قال: ما يجب وما لا يجب هما وسيلة لبلوغ مقاصد متغيرة، وتغيرها يستدعي تغير الأحكام، فما يجب باقٍ ما دام المقصد، فإذا تغير المقصد، تغير الوجوب قهرا.
ولهذا قال: الإدراكات الاعتبارية على خلاف الإدراكات الحقيقية، فهي مؤقتة.
وبهذا يكاد يقول بأن الأخلاق لا يمكن أن تدوم.

[45]
نعم، لقد قال: أصول الاعتبارات باقية، وهي في حدود خمسة أو ستة.
ولا ينهض بحثنا هذا (ثبات الأخلاق) بمعالجتها، فتناولها الآن غير مثمر.
والجدير بالإيضاح هنا هو أن أصل الاستخدام الذي رآه السيد عاما للأحياء ليس مقبولا لدينا.
وقد كتبنا حاشية على كتابه طرحنا فيها المطلب طرحاً ليس في مثل هذا التعميم.
الإنسان ليس صادقا في أفعاله الاختيارية كلها، وإنما في جزء منها وهو ما ينجزه بفكر.
هنا ترد مسألة ما يجب وما لا يجب والحُسن والقبح العقليين.
وأما الإنسان الذي يبلغ الرشد كالطفل الذي يرضع، فإن أعماله طبيعيّة وشبيهة بالإعمال الغريزية، بل إنها غريزية حقا.
وفي حديث آخر فرقنا بين الرغبة والإدارة.
فالحيوان على الرغم من التساهل في التعبير عنه أنه متحرك بالإدارة، فإنه متحرك بالميل.

[46]
من هنا يجب التعبير عن الإنسان الراشد بأنه متحرك بالإرادة.
وبين العقل والإرادة ارتباط من جهة.
الميل حالة انفعالية لا مجال للفكر والعقل معها عندما ينجز إنسان أو حيوان عملاً على وفقها، إذ يخرج ذلك العمل عن دائرة الاختيار.
فإذا رأي الإنسان الغذاء مثلاً، اشتهاه، ومد يده إليه كأن قوة خارجية اجتذبته إليها.
على خلاف الإنسان الذي ينجز عملاً بإرادته، فإنه طليق من الجواذب الخارجية يتخذ قراره من صميم نفسه.
فإذا اشتهى غذاء ما مثلاً، حدث نفسه بشأنه: ما نفعه؟ ما ضرره؟ ما قيمته؟
وإذا وجد ما هو أطيب منه مد يده لذاك الأطيب بإرادة.
وإذا مال إلى طعام لا ينفعه ردته إرادته جامعة انتشار ميله من الخارج لتكفه في أعماق نفسه
ولهذا تساوي الإرادة الحرية.
فالعقل والإرادة يُعتقان الإنسان من قيود الميول
[47]
والأهواء، ويسندانه إليهما، فيسير بفكر على الرغم من هواه.
ومن الممكن أن يجتمع الميل والإرادة في مورد ما، فيشتهي شيئا تتعلق به الإرادة أيضا بحكم العقل.
هل الإرادة غير موجود عندما يحصل الميل إلى شيء وتمتد إليه اليد، أو موجودة لكنها ضعيفة؟
الإرادة ضعيفة إذ قوي الميل لدي الإنسان.
وقد جاء في كلام السبزواري والملا صدرا والشيخ الرئيس أن القول بأن الإرادة والشوق واحد ليس صحيحاً.
وصرح الشيخ الرئيس في مواضع أخرى بأن الإرادة غير الشوق، وأنها التصميم النفسي الذي يدخل فيه العقل ويحسب ويرجح ويحمل على الفعل أو تركه.
وكلما كان الحال كذلك كانت الإرادة أقوى.
ومسألة ما يجب وما لا يجب على الإنسان العاقل مطروحة على نحو ما رآها قدماؤنا جزءاً من العقل العملي لا من جانب الحسن والقبح العملي.
حكم العقل عملي، فهو القوة المفكرة المدركة للكليات.
[48]
وهذا الحكم من ناحية تدبيره البدن.
وهذا المجاز عن مختصات الإنسان الذي وصل فكرة إلى مقايسة شيء بشيء آخر، فسمى هذا الزمان المحدَّد شهراً، وهذا المخلوق العاقل إنسانا.
ونظرا إلى جمال الإنسان، وأحسن به، ثم حدّ هذا الجمال بذاك، لينقل إحساسه به إليه، وهذا من دلائل الرشد الإنساني التي لا تنسى لغيره.
وهذا في الواقع نوع من التزيين.
أهذا هو المنبه الشرطي لبافلوف؟
لا، ليس هو، فالمنبه الشرطي لبافلوف مرتبط بالمادة في مجال الإدراك، إذا يراد توجيه الفكر صوب الماديات لا الاعتباريات.
فهو يتحدث عما يجري للإنسان قهراً، وهو تداعي المعاني أو المنبه الشرطي الذي يعني أن شيئا يستدعي حدوث شيء آخر.
أما الاعتبارات والمجاز، فهو شيء آخر ليس فيه حدوث شيء بعد حدوث آخر، إنما هو أن يرى إنسانٌ الشيء شيئاً سواه، وذلك بأن يقرن شيئا إلى غيره، ويضفي عليه
[49]
خصائصه، لا أن أفكاره تتابع واحدا بعد واحد.
وبناء عليه يشكل على قول الطباطبائي: إن عالم الإعتبار لا ينسب إلى كل الموجودات الحية، فهو خاص بالإنسان.
وسنتناول الاستخدام الذي قال به.
تعريف الحكمة العملية:
وقد عرف قدماؤنا الحكمة العملية الشاملة للأخلاق بقولهم:
العلم بأفعال الإنسان الاختيارية كيف ينشأ، وكيف تكون الأفضل والأحسن والأكمل.
وهذا شبيه بتعريف الحكمة النظرية المرتبط بنظام الأحسن والأكمل.
فهل هذا النظام موجود؟
هذا عن الوجود والعدم اللذين لا مجال لهما في البحث عن أفعال الإنسان الإختيارية التي يجري البحث فيها عن كيفية نشوئها وبلوغها الصورة الفضلى والحسنى.
وربما عرف العلماء المحدثون الأخلاق بقولهم: هي
[50]
العلم بكيفية الحياة لا كيف يعيش الإنسان، بل كيف يجب أن يعيش؟
وهذا قريب من تعريف القدماء للأفعال الاختيارية، وقصدهم القاعدة العامة للناس جميعا لا كيف يسلك هذا أو ذاك منهم.
فالمراد هو الكليّة الشاملة.
وربما زاد المحدثون على تعريفهم قيداً هو قولهم: كيف يعيش الإنسان حياة طاهرة سامية؟
وقيد الطهر والسمو يدنيهم من تعريف القدماء كثيراً.
وما يفيد ذكره هنا أنهم يقولون عادة: الأخلاق هي معرفة كيفية العيش.
وهذه الكيفية تشمل السلوك والملكات، أي: كيف يسير، وكيف يجب أن يكون ذا ملكاتٍ ليكون نافعاً.
ويروج اليوم قول هو في فلسفتنا، وهو أن الأخلاق هي لكيفية الحياة، أي أنها تحدد ماهية الإنسان.
وهذا الإنسان المعلوم الماهية يريد أن يعرف كيف يجب أن يحيا حياة طاهرة وسامية على كل دنية.
[51]
وما جاء به الوجوديون اليوم من أصالة الوجود ورد في كلام المرحوم الآخوند بمعنيين.
أحدهما أصالة الوجود: بمعناها العام.
والآخر وجود الإنسان بالقوة وعدم تعيُّنه.
وهو بهذا المعنى أكثر الموجودات عدم تعين، وأفعاله هي التي تصنع ملكاته، ولا هوية له من غير هذه الملكات، فهي ليست عارضة لهويته، وإنما هي صانعة لها.
فلملكاته جوهر وجوده الجوهري، يعني أن الإنسان يغير بالأخلاق والطباع كل شيء حتى نمط وجوده.
وبتعبير أدق من الأول: ليبست الأخلاق معرفة كيفية الوجود فحسب وإنما هي معرفة ما الوجود أيضا.
فكيفية الوجود إذ تقال يراد بها أننا حددنا قبلاً ما نحن، ثم نبحث في هذا المحدد الثابت المؤلف من وجود وماهية محددين محرزين في كل إنسان، كيف ينشآن؟
وعلى وفق الرأي القائل بأن الملكات صانعة الماهية يكون للأخلاق شأن آخر، فإذا صنع واقع الإنسان بخلقه وطبعه، وغير ماهيته، وصارت صورته الباطنية صورة أخرى فإن الأخلاق تكون في مقام رفيع.
[52]
صورة الناس واحدة، وواقعهم التابع لما عندهم من الأخلاق والملكات متعدد حتى إن بعضهم لا ينطبق عليه من الإنسان إلا صورته، لأن جوهره لا يتعدى حد الحيوان.
ولو أتيح للناس النظر بعين الحقيقة، لرأوا أكثرهم على خلاف صورهم.
وبعدما عرفنا الحكمة العملية نتابع المبحث السابق، فقد قلنا: إن الوجوب والحُسن والقبح هي في الواقع مبينة لرابطة الإنسان بفعل معيّن ناشئة من إحساساته.
يعني أن طبيعة الإنسان تريد شيئا، فتوجد احساسات في جهاز الشعور والإدراك متناسبة مع ما تريده الطبيعة.
وهذا الذي تريده الطبيعة يحس بحاجته إليه، فيحبه فيراه حسنا.
وما قاله رسل وإضرابه يعود إلى قول الطباطبائي الذي هو هذا، قالوا: لا يمكن اتخاذ الأخلاق معيارا، فمنتهى قولنا: هذا الشيء حسن هو أن القائل يحب ذلك الشيء، وحبه لا يعني أن الجميع يحبونه.
فالحسن عندي هو شيء آخر عند غيري، وما كان حسناً لدى الماضين هو غيره لدى اللاحقين به.
والمهم في هذا الباب هو: بم تُثبت المسائل الأخلاقية

[53]
أساسا؟ وبأي طريقة يبرهن على أن هذا الأخلاق حسنة وتلك سيئة؟
وقد صرح السيد الطباطبائي بأن هذه المسائل ليست قابلة للبرهنة عليها، وأن البرهان لا يرد في الأمور الاعتبارية.
فالشيء الذي يعتبره الذهن هو لمقصد ما، فإذا لم يوصل إلى مقصده، فهو باطل.
ولا طريق للنقد سوى طريق الإلغاء، فهو ليس أمراً عينياً حتى نجربه أو نستدل عليه، لأنه غير ممكن لا من طريق قياسي ولا من طريق تجريبي.
فلا يمكن من طريق قياسي، لأن مبادئ القياس يجب أن تكون من البديهيات أو المحسوسات، أو الوجدانيات أو المجربات في حين أن الحكمة العملية متعلقة بمفهوم الحسن والقبح، وهو منتزع مما يجب وما لا يجب.
وما يحب وما لا يحب تابعان للمحبوب والمكروه.
وليس المحبوب والمكروه واحداً عند الجميع، فالناس متفاوتون فيهما على حسب الوضع الشخصي والمصلحة المعينة أو الحال الفئوي ونحوه.
[54]
فأصحاب هذه العقيدة لهم مقاصد مختلفة عن مقاصد غيرهم.
وعليه يتبين أن ما يجب وما لا يجب وكذلك الحسن والقبيح أمور نسبية وذهنية تماما.
فالمعاني الأخلاقية إذن ليست مجموعة عينية قابلة للتجربة والاستدلال المنطقي اللذين لا يجريان إلا في الأمور العينية.
[55]
ما هو معيار تمييز الحسن من القبيح؟
برتراند رسل من الذين وصلوا إلى هذه النتيجة في فلسفة التحليل المنطقي، فقال في كتاب تاريخ الفلسفة في شرحه لنظرية أفلاطون بشأن العدالة واعتراض تراسيما خوس الذي قال لأفلاطون: ليست العدالة سوى منافع الأقوياء.
قال رسل: هذا الرأي يضع المسألة الأساسية للأخلاق والسياسة، وهي هل هناك معيار لتمييز الحسن من القبيح غير هذا الذي يريده مستعمل هذه الكلمات؟
وإذا لم يوجد مثل هذا المعيار، فلا يمكن اجتناب الكثير من النتائج التي استنتجها تراسيماخوس.
لكن كيف يمكن القول بعدم مثل هذا المعيار؟
وفي موضع آخر قال رسل: اختلاف أفلاطون وتراسيماخوس ذو أهمية بالغة، فأفلاطون يرى أنه يمكن
[56]
إثبات أن جمهوريته المطلوبة حسنة.
ولا مريء ديمقراطي معتقد بعينيّة الأخلاق أن يقول:
يمكن إثبات أن جمهورية أفلاطون سيئة، فيما سيقول الموافق لتراسيماخوس: ليس البحث في الإثبات ورده، وليس قابلاً للإثبات والرد أصلا.
فالبحث هو في المحبة وعدمها فقط، فأنت تقول: هذا حسن، يعني أفضله، وهذا كالمسائل الذوقية.
فمن يحب طعاما ما يقول عنه حسن، والآخر يحب غيره، فيقول عنه حسن.
فأيما على حق؟
كلاهما على حق، فكل منهما حكم على وفق محبته، فليس لدينا حسن مطلق نزن به الصواب والخطأ.
ثم قال: ما أحببتم، فهو حسن لكم، وما لم تحبوا، فهو قبيح لكم.
ولا يمكن الحكم على شيء بموجب حب فئة وبغض أخرى، إلا بالقوة.
وهذا هو معنى قولهم: العدالة للأقوياء، فإذا اختلفت فئتان في حب شيء حملت أقواهما الأخرى ما تحب، فصار
[57]
ذلك قانونا.
وخلاصة قول رسل هي أن مفهوم الحسن والقبح مبين للرابطة التي بين الباحث ومورد بحثه.
فإذا كانت رابطة محبة عددنا الشيء حسنا، وإذا كانت رابطة بغض عددناه سيئا، وإذا لم تكن رابطة محبة ولا رابطة بغض، لم يكن ذاك الشيء حسنا ولا سيئا.
وكتبنا أن جواب رسل وهو أنه يجب أن نُحرز أوّلاً جذر المحبة، فتعرف لماذا يحب الإنسان هذا الشيء ولا يحب ذاك؟
يحب الإنسان الشيء الذي يفيده ويصلح حياته، فالطبيعة تخف صوب كمالها، ولذا ترغم الإنسان بالإرادة والاختيار، وتملوءه شوقاً وميلاً وتعلقاً به .
وهكذا تعبيه بمفهوم ما يجب وما لا يجب، والحُسن والقبح.
ومثلما تُسرع الطبيعة إلى جهة كمال الفرد ومصلحته تسرع إلى كمال النوع ومصلحته، فليس كمال الفرد بمعزل عن كمال النوع، وإنما هو مرتبط به إرتباطا وثيقا.
ولهذا تبعث الطبيعة الجميع على حب أشياء يتحقق بها كمال النوع.
[58]
وهذه المحبوبات متشابهة دائمة كلية مطلقة، وهي معيار المحاسن والمساوي.
والعدالة والقيم الأخلاقية كلها من الأمور التي تراها الطبيعة من مصالح النوع وتسرع إليها، وتثير بالأعمال الاختيارية شوقاً إليها في نفوس الجميع.
فتحصل في النفس سلسلة مما يجب ومما لا يحب بصورة أحكام إنشائية.
فلا ضرورة أن يكون لنا معيار كلي في الأخلاق، وهذا الحسن والقبح من قبيل البياض و السواد والتدوير والتربيع والتكعيب ندعوه الأمور العينية.
والأصل الذي التفت إليه رسل من (أنا أحب) هو أنه عنوان لفرد يفكر بمنافعه المادية والجسمية فقط.
ولم يلتفت إلى أنه أصل لفرد يحس بكرامة أغلى من روحه، ولا إلى أنه أصل لفرد يحب مصالح النوع.
وسنذكر هنا فرضين أو ثلاثة.
في البدء يجب أن نحقق في مرحلتين:
الأولى أن ننظر هل يوجد في وجدان الأفراد عدّة أحكام مشتركة ودائمة، أو لا؟
[59]
وهذه صغرى يجب الحصول عليها من التجربة.
يعني علاوة على الحسن والقبح الموقت والجزئي والفردي المقطوع بوجوده هل يوجد في وجدان أولئك سلسلة مسائل تتوحد إزاءها نظراتهم؟
أي هل هناك ما ليس فيه جنبة ذاتية كالذوق الشخصي يمكن الحكم على أساسه على الرغم من البواعث الشخصية والمقتضيات الفردية؟
يمكن القول: لا أعلم تحليل المطلب، لكني أعلم أنني وجميع الناس نحكم بأن الصدق حسن بذاته، وهذا حكم كلي.
أو نحكم بأن جزاء الإحسان بالإحسان حسن، وهذا الحكم فيما وراء المصالح الفردية، حتى إذ قيل إن رجلا جازى من أحسن إليه بالإحسان قبل ألف عام حظي بمدحنا له وثنائنا عليه.
وإذا قيل: إن رجلاً قابل المعروف بالمنكر في الماضي السحيق، حظي بذمنا واحتقارنا.
ولا يستطيع أحد إنكار أن ها هنا نوعين من العمل:
أحدهما جدير بالمدح وهو ذو قيمة.
[60]
والآخر حقيق بالذم ولا قيمة له.
ولو جرد الإنسان ذهنه، ونظر إلى الفعلين والفاعلين، فوضع مثلا أبا ذر ومعاوية أحدهما إزاء الآخر ليحكم عليهما، لرأي معاوية قد أغدق كل شيء مسخراً لأبي ذرّ وزيّن له كل شيء من أجل أن يرتبط به، إلا أنه أبى إباءً كريماً ولم يحد عن مبادئه التي هي إنسانية.
هنا لا بد للمرء من الاعتزاز بأبي ذر والاشمئزاز من معاوية.
ويمكن النظر بذهن مجرد إلى جومبي ولو محباً، فلا تختلف النتيجة عن سابقتها.
والنكتة الأولي هي أننا لا شأن لنا بمن حللوا وقالوا: كل ما يجب وما لا يجب يعود إلى الاعتبار والحب.
فهذا أمر حسن ومحفوظ عليهم.
وما نريده نحن بالدرجة الأولى هو هل بين الناس أحكام مشتركة؟
إذا كانت -وهي كائنة_ تتبعناها بالدرجة الثانية، لنرى على ما قالوه قابل للتوجيه، أو أنه ليس كذلك حتى على وفق ما قاله السيد الطباطبائي ورسل وأمثالهما؟

[61]
قلنا: لدينا نوعان هما: ما يجب، وما لا يجب، وهما فرديان جزئيان نواجههما يومياً من قبيل يجب أن أتناول هذا الطعام، وأن ألبس ذاك القميص.
وهما أيضا كليان، وقد ذكر مثالهما.
والآن ما جذر الحسن والقبيح الكليين؟
وما مبناهما بعد أن رفضنا قول المتكلمين بأنهما صفتان عينيتان، وأن الحسن والقبح ذاتيان في الأشياء؟
كيف يوجه الحسن والقبح بعدما قلنا في النهاية: إنهما رابطة بين الإنسان والشيء؟
هناك ثلاثة توجيهات:
الأول هو أن للإنسان أهدافا لسد حاجاته الذاتيه، فإذا جاع، وُجد له هدف هو أن يطعم، وأمثال ذلك.
وللإنسان أهداف أخرى، وهي الأهداف النوعية، وهي أن يحب الشيء لا من أجل نفسه، وإنما من أجل الآخرين.
فيحب أن يرتوي غيره ويشبع كما يحب لنفسه، هكذا خلق الله الإنسان.
وإذا قبلنا هذا التوجيه، إختل رأي السيد الطباطبائي
[62]
الذي قال: إن جهاز الإنسان الحِسِّي مطابق لجهازه الطبيعي والتكويني.
يعني كلما تحركت طبيعته الفردية نحو شيء ما كان جهازه الحسي وهدفه في خدمتها.
وهو يرى الاستخدام أصلاً عاماً ضرورياً.
والتوجيه المذكور آنفا يخالف قوله، فعلى وفق هذا التوجيه يكون العمل اعتياديا ومبتذلا إذا عاد على عامله، ويكون متعالياً وكريماً إذا عاد على الآخرين.
فالغيرية ملاك الرفعة، والذاتية ملاك الضعة.
فإذا كان العمل من أجل النفس، لم يكن ذا شأن.
وإذا كان من أجل الناس بما هم ناس، تعلق بهم هم، وكان أخلاقيا.
فمعيار الأخلاقية هو العمومية، ومعيار غير الأخلاقية هو الخصوصية.
فالعمومية تضفي على الفعل قيمة مع أنه لا يختلف عن الفعل الذاتي.
إذن صحيح أن الحسن هو ما أحب، ولكني أحب حيناً لنفسي، وحيناً لغيري.
[63]
وما أحبه لغيرة يخرج من البعضية إلى الكلية قهراً، ويصير عاماً دائماً أخلاقياً، لأنه ينبع من حب الخير للآخرين.
وهذا أصل كلي ودائم.
[65[
الأخلاق كلية ثابتة
وهذا التعريف للأخلاق يوجّه أشياء من قبيل الكذب ابتغاء مصلحة.
لماذا الصدق حسن؟
لأن فيه الخير العام، ولو كان فيه مفسدة لكان قبيحاً.
فالصدق بما هو صدق ليس حسناً، ولكنه حسن لخدمته الآخرين، فملاك حسنه الأصلي هو هذه الخدمة العامة.
فلو ترتب عليه ضر الآخرين كان قبيحاً.
وهذا يعني أن الأخلاق اجتماعية الطابع، وهو ما يقال هذه الأيام.
[66]
وعلى وفق هذا التوجيه نصل إلى أصل أخلاقي كلي خالد تتغير مصاديقه وهو ثابت.
والفرق كبير بين تغير الأصل وتغير مصاديقة.
ومدار البحث هو هل الأصول الأخلاقية ثابتة أولا؟
وعلى هذا التوجيه نرد جميع الأخلاق نرد جميع إلى أصل واحد ثابت دائم هو خدمة الآخرين.
سؤال:
هذا الأصل في الواقع يشبه مصطلحاً اصطلحنا عليه أو عقداً عقدناه، ففرضنا أن الأخلاق لخدمة الآخرين، ثم قلنا: إنها كلية وثابتة.
ألا يمكن لامرئ أن يفرض أن الأخلاق لخدمة النفس، ثم يقول أيضا: هذا أصل كلي وثابت؟
جواب:
غفل السائل عن المقدمة الأولى. قلنا: لدينا أمور يحكم عليها الجميع حكماً واحداً، وكلهم يرونها ذات قيمة.
وخدمة الآخرين أمر أنظر إليه النظرة التي تنظرونها
[67]
أنتم إضافة إلى أني أمراً سامياً كريماً فوق المصالح الخاصة تماماً كما ترونه أنتم.
ثم قلنا: كيف يكون هذا الأصل كلياً والحسن والقبح ناشئا من الحب والكره وهذان متغيران مختلفان أبداً؟
هذا الكلام يصح إذا كان الحب والكره ذاتيين على ما قال رسل وما يستفاد من كلام السيد الطباطبائي، ولكن ما المانع أن يكون الإنسان قد فطر على غايتين؟
سؤال:
لفظ الآخرين الوارد في التعريف مبهم، والظاهر أنه لا يعمُّ الآخرين مطلقاً، فالجندي الذي يقاتل من أجل الأجانب يخدم الآخرين، لكن عمله ليس أخلاقيا.
جواب:
لم نقل: إن الآخرين يعني أيا كان، بل قصدنا نوع الإنسان، يعني العمل الذي يعود على الناس بالخير، لا الذي يعود على هذا بالنفع وعلى ذاك بالضر.
فنحن لدينا نفس واحدة بإنسان معيّن.
ولدينا أسرة تشمل المتعلقين بإنسان ما تعلقا قرابيا، وكل جبار محسن إلى أسرته عادل رؤوف فيهم.
[68]
وهنا يجد مفهوم النفس توسعة له.
والعمل عندما يكون أخلاقيا يجتاز حدود النفس إلى الناس عامة، وما أسعد صاحبه إذا اجتاز دائرة الناس أيضا، فكان الله!
وكلما كسر العمل طوق النفس، ومضى إلى دائرة أوسع كان أخلاقيا.
وهذا الرأي تنال منه نظرية السيد الطباطبائي التي لا تقبله بسهولة، فأصل الطباطبائي لا يمكن اجتيازه بسرعة.
ولا يستطيع القائل بعدم الانسجام بين جهاز الإدراك وجهاز الطبيعة الفردية عبوره.
فطبيعة الإنسان الفردية تتحرك إلى جهة، وطبيعته الإدراكية تتحرك إلى جهة أخرى، وتسعى إلى الكمال النوعي من غير عبءٍ بالكمال الفردي.
وجهاز الإدراك الذي هو في خدمة الجهاز الطبيعي ويجب أيضا أن يكون كذلك- هو في خدمة النوع من دون ارتباط بالفرد ومصالحه.
سؤال:
هل خدمة النوع جزء من طبيعة الإنسان على ما قيل؟
[69]
جواب:
لا، ليست خدمة النوع جزءً من طبيعة الفرد، لكن الفرد يحس بلذة حين يحسن إلى الآخرين، وليست هذه اللذة سُدى، لأنه لا يمكن الإلتذاذ إذا لم تبلغ الطبيعة الفردية الكمال.
ولأبي علي كلام لطيف هو أن الإنسان إذا أدرك اللذة، فليس لأن الطبيعة ذات جريان وإحساس وإنما لأن هذه الطبيعة تنشد الكمال، وإذا تبلغه، فإن علم الشيء علماً حضورياً كان باعثاً على الإحساس باللذة.
وهذا يعني عبور الطبيعة من القوة إلى الكمال.
وإن علم الشيء علماً حضورياً هو عين اللذة، يعني نيل اللذة الذي هو الكمال، وذلك عند اقتران هذا النيل بالإدراك.
ولا يمكن للإنسان، يلتذ دون أن تبلغ الطبيعة الكمال.
[71]
الأنا الكلية
والنظرية الأخرى هي التي يلتزمها عدة من العصريين قائلين: لا يمكن أن يكون ما يريده الإنسان غير مرتبط بالأنا، وكل ما التذ به لا بد أن يعود على نفسه هو، لكنه ذو نفسين: فردية واجتماعية.
فالإنسان من جهة نظر حياتية فرد يحسُّ بأنا واحدة هي الفردية الشخصية.
والمسألة الأخرى التي قالها دوركهايم والآخرون، واستنبطها السيد الطباطبائي من القرآن الكريم إطلاع على رأي أولئك.
وهذه المسألة هي أن المجتمع له شخصية، وشخصيته حقيقية لا اعتبارية، فتركيبه من الأفراد ليس اعتباريا.
وليس الأفراد ذوو الأصالة هكذا.
فالمجتمع له نوع خاص من التركيب، فهو يختلف عن
[72]
التركيب الطبيعي الذي تزول فيه مميزات العناصر.
فهو مركب تركيباً معيناً لا نظير له، فكل أفراده يتمتعون باستقلالهم وإرادتهم، فكل منهم يحس بنوعين من الأنا إحداهما فردية، والأخرى جماعية.
وعلى قول الباحثين الاجتماعيين، فإن المجتمع عرف نفسه في الفرد، يعني أن الجماعة يحس بوجودها في وجود الفرد.
وللعرفاء قول شبيه بهذا، ولوليم جيمس قول شبهه مع اختلاف يسير.
وبين نفوس العرفاء وحدة تقريبا، فهم يرون الأنا الواقعية هي الأنا الكلية، ويقولون: عندما يقول المرء أنا، ويتخيل نفسه منفصلا، فهو مشتبه.
ويرجعون النفس الواقعية إلى الحق- تعالى- ولا يرون الأنا الفردية إلا تجليا لتلك النفس الواقعية.
فكأن هناك روحا كلية في الواقع تتجلى في مختلف الأفراد، أي أن كل أنا ترجع إلى أنا واحدة.
وقد توصل وليم جيمس إلى هذا المطلب بنوع من التجارب النفسية فقال: ترتبط ضمائر الأفراد في الباطن أحدها بالآخر دون إطلاع غالبا، فمن يزكي نفسه، يستطيع
[73]
أن يطّلع على تلك الضمائر عن طريق ارتباطها الداخلي بعضها ببعض، مثلها مثل آبار ارتبطت منابعها تحت الأرض وانفصلت مواردها فوق الأرض.
والارتباط الحاصل ناشئ من اتصالها بالمنبع الإلهي.
ولا يذهب علم الاجتماع إلى هذا، فهو يقول: إن الأفراد يكتسبون بعد التركيب واقعاً حضارياً هو واقع حقيقي، فيحس الإنسان أحيانا بأن نفسه ليست فردية، وإنما هي كلية، فيعمل حينئذ عملين: أحدهما من أجل أنا الفردية، والآخر من أجل أنا الجماعية في نفسه.
وفي هذا نظريتان: اتكأت الأولى على وجود الإنسان واتخذته هدفا، فهو يعمل من أجل الأنا عملاً ومن أجل غيرها عملا.
واتكأت النظرية الثانية على إحساس الإنسان بنوعين من الأنا، فهو يحس بالأنا الفردية، فيعمل من أجلها ويحس بالأنا الجماعية ويعمل من أجلها.
فإذا حلت الأنا الجماعية حصل الاستنتاج السابق، وهو أن قيمة العمل الأخلاقي هي ألا يكون للأنا الفردية التي لا بد من عدها.
فالأنا الجماعية شيء كلي دائم، وكل ما انبعث منها
[74]
أخلاقي، وما انبعث من غيرها ليس أخلاقيا.
ويمكن أن تتغير مصاديق هذا لأصل مع أنه كلي دائم.
وهناك رأي آخر، وهو أنه ليس بإمكان الإنسان أن يعمل دون ارتباط بذاته الخاصة، فعمله من أجل غيره دون ارتباط به غير ممكن.
فللإنسان نوعان من الأنا هما التحتى والعليا، فكل أمرىء له درجتان هو في إحداهما مثل جميع الحيوان، وفي الأخرى هو ذو واقع علويّ.
والعجب من عدم قول السيد الطباطبائي لهذا، مع أنه ينسجم مع أصوله كلها ومنها ما ذهب إليه في باب الأخلاق.
فحين نقول طبيعة الإنسان إنما نقصد واقعه لا مظهره المادي.
فهو ذو واقع وجودي يخدمه جهاز الإحساس لديه.
وهذا الواقع الوجودي في درجة، وواقعه الحيواني في درجة، وواقعه الملكوتي الذي هو القسم الأصل في درجة أعلى من الدرجتين المذكورتين آنفا.
[75]
فعندما يقال: إن طبيعة الإنسان تسرع إلى الكمال، فالمقصود هو طبيعته الحيوانية وواقعه الإنساني.
وهو يحس بالأنا العليا في نفسه، بل يحس بما هو أعمق منها أيضا.
فحين تتنازعه المقتضيات الحيوانية والإنسانية يميّز هذه من تلك بعقله، ويسعى بإرادته إلى تغليب المقتضيات التي ينتصر لها العقل.
وقد يوفق في هذا الكفاح، وقد لا يوفق فيه، ففي الغذاء مثلاً يقتضي العقل نوعاً ومقداراً غير ما تقتضيه الشهوة، فإذا غلبته الشهوة انهزم فيه الإنسان، وإذا غلبها أحس بالظفر في نفسه في حين أنه لم ينتصر عليه أحد ولا انتصر على أحد.
وإنما انتصر جانب من وجوده على جانب آخر منه، وفي الحالين يجب أن يحس بالظفر والهزيمة على حسب الظاهر فكلاهما حدثا في عرصة وجوده، ولكننا لا نراهما كذلك.
فعند غلبة العقل يحس بالنصر، وعند غلبة الشهوة يحس بالهزيمة، وهذا لأن الأنا عنده عقلانية وإرادية، والجنبة الحيوانية عنده هي السفلى، وهو بمنزلة مقدمة
[76]
لواقعه الذي هو الجنبة السفلى التي هي نفسه وغيره في آن واحد.
وإذا نظرنا إلى مثل هذه الأثنينيّة في وجود الإنسان، يكون توجيه الأصول الأخلاقية على هذا النحو.
للإنسان كمالات بحسب الأنا الملكوتية، وهي كمالات واقعية، إلا إنشائية، لأن الإنسان ليس بدنا فقط، وإنما هو جسم وروح أيضا.
والعمل المتناسب وكمال الإنسان المعنوي الروحي عمل علوي قيم، والعمل الذي لا يتلاءم وعلو الروح عمل اعتيادي ويعد تافها.
وعلى هذا النحو نقبل الحسن والقبح اللذين قال بهما السيد الطباطبائي ورسل وسواهما.
والبحث هنا أيُّ أنا نحبها التّحتى أم العليا؟
فإذا كان المحبوب هو الأنا الفوقي، كان الحب أخلاقيا وذا قيمة، وإحساس الإنسان بالأخلاق ناشئ من هنا.
وإذا يرى الإنسان جنبة من وجودة سامية والأعمال المرتبطة بها رفيعة ليس إعتباراً، بل لأنه يرى تلك الجنبة في وجوده أكمل وأقوى من غيرها.

[77]
وكل الكمالات ترجع إلى هذا الوجود، وكل المناقص ترجع إلى عدمه.
ولذا رد الصدق والصواب والإحسان والرحمة والخير وأمثالها إلى الأنا الأعلى في الإنسان.
وقد قال الحكماء: إن الحكمة العملية مربوطة بالفعل الاختياري من ناحية الفضل والكمال، ويعيدون الأمر في النهاية إلى النفس، ويصرحون بأن لنفس الإنسان كمالين:
نظري وعملي.
واكتساب حقائق العالم كمال نظري، ومكارم الأخلاق كمال عملي للنفس ينميها ويوازن بينها بين الجسم، ويدعم ما لديها من كمال واقعي.
وإذا أخذنا بهذا الرأي، وصلنا إلى أصل إسلامي كبير لم يقله الحكماء، وهو أن الإنسان يحس بالسمو بحكم ما لديه من شرف وكرامة ذاتيين وهما جنبة ملكوتيه ونفحة إلهية فيه من دون إنتباه.
ويحسن بان هذا العمل أو الملكة مناسبة للشرف أو غير مناسبة، فإذا ناسبته وانسجمت معه، عدت خيرا وفضيله وإلا كانت رذيلة.
وعلى نحو ما تدل الغريزة الحيوان إلى ما ينفعه وما
[78]
يضره، فإن لنفس الإنسان فيما وراء الطبيعة كمالات تناسبها طائفة من الأعمال والرغبات.
وتوجه ما يجب وما لا يجب والحسن والقبيح هو أن الناس خلقوا متشابهين في الكمال، ولخلقهم متشابهين كان ما يحبون لوناً واحداً، وهكذا نظراتهم، يعني أنهم متشابهون في الكمال الصعودي والمعنوي على الرغم من اختلافهم في الأجسام والأماكن وتغيرهم في الحاجات البدنية، ولا بد أن تكون المحبوبات والطيبات والمساوي والمنكرات واحدة دائمة كلية.
وبهذا تُعلّل الفضائل الاجتماعية وغيرها كالصبر والاستقامة.
والنظريتان السابقتان تعلّل الأخلاق الاجتماعية فقط كالإيثار وإعانة الغير، ولكنهما لا تعللان الصبر والاستقامة خلافاً للنظرية الأخيرة التي تعلل الأصول الأخلاقية كافة.
وبقبولنا هذا الأصل المبين لجميع المحاسن والمساوي وأنها ناشئة من ارتباط الشيء بكماله، فإننا نستكشف به إن هذه المحاسن والمساوي مشتركة كلية ودائمة.
أضف رد جديد

العودة إلى ”المنتدى الإسلامي“

الموجودون الآن

المتصفحون للمنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائران