أهل البيت عليشششهم السلام هم مفسروا القرآن
الفصل الأول- لولاك لما خلقت الأفلاك
العلاقة بين الإنسان والملائكة
الأمانة الإلهيَّة
الإنسان مظهر الجمال والجلال
ماذا يعني ( ربُّك )؟
حديث الملائكة
إقناع الملائكة
أسمائكم في الأسماء
أوّل ما خلق الله
توضيح كلام الإمام
لا يسبقونه بالقول
الملائكة اقتنعوا
غيب السموات والأرض
علم الغيب
ماذا كانت الملائكة تكتمه؟
الفصل الثاني- السجود لآدم عليه السلام
إبليس ليس من الملائكة
خلقتُ بيدَيّ
إبليس يبرِّر موقفَه
الفصل الثالث-العهد الإلهي لآدم عليه السلام
العهد و الولاية
أجر الرسالة
الفصل الرابع-صفات جنة آدم عليه السلام
بنو إسرائيل والمنُّ والسلوى
الشجرة المنهيَّة
الوسوسة !!
الفصل الخامس-الهبوط
فماذا حصل بعد الأكل ؟
نتيجة الهبوط
قبول توبة آدم لا ينافي هبوطه
متاع الغرور
النفس الأمّارة
متاع إلى حين !!
الفصل السادس-علل الأحكام والتكاليف
علل الشرائع و الأحكام
فلسفة بعث الرسل
الغاية من الخلق ؟
خلق الإنسان
الرجوع إلى الربّ
ملاقاة الجمال و ملاقاة الجلال
خُلقنا للبقاء
الرؤية الكونية ورحمة الربّ
العبودية = الرجوع إلى الله = الرحمة الإلهية
كلام الإمام قدِّس سرُّه حول الغاية من الخلق
المطلوب من الإنسان
ماذا تعني قربةً إلى الله ؟
لقاء الله
اللقاء في القرآن والسنَّة
لذَة الوصال ونار الفراق
لقاء الله في القصيدة العرفانيَّة للإمام
الرجوع إلى الله
الفصل السابع-الغاية من التشريع
العلَّة الغائيَّة
الغاية من الدين
الرجوع إلى الله سبحانه
سبيل الوصول إلى دولة المهدي
الفصل الثامن-الذكر
الذكر من أهمّ أدوار الأنبياء ؟
ذكر أهل البيت هو ذكر الله
ذكرهم أجر الرسالة
أهمية إحياء ذكرهم عليهم السلام
الفصل التاسع-يوم الوقت المعلوم
فمتى ذلك اليوم ؟
الأجل المُسمَّى
النتيجة-دولة الإمام المهدي عجَّل الله تعالى فرجه هي جنَّة آدم عليه السلام
وصول الإنسان إلى كماله المعنوي
مشاهدة المؤمنين بعضهم بعضاً
التوسعة الزمانيَّة
ظهور الملائكة والجن للناس
ذ هاب العاهة و تقوية القلوب
نزول البركات و التآلف بين الحيوانات
التأييد بالكرامات
الخاتمة-أفضل العبادة انتظار الفرج
معنى الانتظار في اللغة و الاصطلاح
أهميَّة انتظار الفرج
السرُّ في أهميَّة الانتظار
ميزان الأفضلية هو القرب إلى الله
الرجاء بالله
أفضل الجهاد
الانتظار و جانباه الإيجابي و السلبي
الانتظار و الرفض
الرفض من العبادات الاجتماعية
صفات المنتظر
الرفض الاجتماعي
إلى متى
الانتظار والرجاء
أمرهم صعبٌ مستصعب
دولة الإمام المهدي عليه السلام دولة النور
دور الأئمة عليهم السلام في التمهيد لدولة المهدي
مقـدمـة
القرآن الكريم هو الثقل الأكبر الذي أنزله الله تعالى بما فيه من العظمة والمنزلة على قلب رسوله محَّمدٍ صلى الله عليه وآله وسلَّم ثمَّ نزَّله على هيئة المُصحف الشريف المشتمل على الحروف والكلمات بلسان عربي مبين ليكون هدىً لعامَّة الناس العربيِّ وغير العربي.
فمن كانت لديه أدنى معرفة للغة العربيَّة فلا محالة سوف يُدرك جانباً من ظاهر هذا الكتاب قال تعالى:
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(يوسف/2).
ومع ذلك هناك العدد الكبير من الآيات الكريمة غير مفهومة لا من حيث المفهوم والمعنى ولا من حيث المصداق والتطبيق، وليست هناك أيُّة وسيلة عادية يمكننا من خلالها الإطِّلاع على تلك الآيات والوصول إلى محتواها الواقعي.
فيا ترى كيف نحلُّ هذه المشكلة؟
وهل هناك من يُطْمأنُّ به كي يُدلَّنا على محتواها وينبئنا عن تفسيرها أو تأويلها؟
أهل البيت هم مفسرُّوا القرآن
إنَّ القرآن الكريم بنفسه قد عرَّف لنا الوسيلة ورسم لنا السبيل لفهم تلك الآيات والوصول إلى حقيقتها، قال تعالى:
(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ*فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ*لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ)(الواقعة/79:77)
قال آية الله العظمى السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه(في مبحث مسِّ القرآن الكريم):
(ثم إن قوله عزَّ من قائل : لا يمسه إلا المُطهَّرون لا يستفاد منه حكم المسألة فضلاً أن يدلَّ عليه بالأولويـة، وذلك:
فلأنَّ المطهَّر غيرُ المتطهِّر..فالمطهَّر عبارةٌ عمَّن طهَّره الله سبحانه من الزلل والخطأ وأذهب عنه كلَّ رجس ، والمذكور في الآية المباركة هو المطهَّر دون المتطهِّر ففيها إشارة إلى قوله سبحانه : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا فمعنى الآية على هذا أن مس الكتاب-الذي هو كناية عن دركه بما له من البواطن-لا يتيسَّرُ لغير الأئمة المطهرين فإنَّ غير من طهره الله سبحانه لا يصل من الكتاب إلا إلى ظواهره)(التنقيح في شرح العروة الوثقى ج 3 ص315)
هذا وقال الإمام قدّس سرُّه:
(واعلم أنّ للكتاب التدويني الإلهي بطوناً سبعة باعتبارٍ وسبعين بطناً بوجهٍ لا يعلمها إلا اللّه والراسخون في العلم ولا يمسُّها إلاّ المطهّرون من الأحداث المعنوية والأخلاق الرذيلة السيئة والمتحلُّون بالفضائل العلمية والعمليَّة، وكلُّ من كان تنزّهه وتقدّسه أكثر كان تجلِّي القرآن عليه أكثر وحظُّه من حقائقه أَوفر)(شرح دعاء السحر ص71)
وقال:
(فإنَّ للقرآن منازلَ ومراحلَ وظواهرَ وبواطنَ أدناها ما يكون في قشور الألفاظ وقبور التعيّنات كما ورد إنَّ للقرآن ظهراً وبطناً وحدّاً ومطلعاً، وهذا المنزل الأدنى رزقُ المسجونين في ظلمات عالم الطبيعة، ولا يمسُّ سائرَ مراتبه إلا المطهّرون عن أرجاس عالم الطبيعة وحَدَثه ، والمتوضّئون بماء الحياة من العيون الصافية والمتوسّلون بأذيال أهل بيت العصمة والطهارة والمتَّصلون بالشجرة المباركة الميمونة ، والمتمسكون بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والحبل المتين الذي لا نقض له حتى لا يكون تأويله أو تفسيره بالرأي ، ومن قِبَل نفسه فإنَّه لا يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم)(شرح دعاء السحر).
ومن هنا نعرف أهميَّةَ ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال:
(إنِّي تارك فيكم الثقلين كتابَ الله و عترتِي أهلَ بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً وأنَّهما لن يفترقا حتّى يَردا عليَّ الحوض)(الحديث متواتر بين العامة و الخاصة راجع:بحار الأنوار ج2 ص100 رواية 59 باب14-ج2 ص285 رواية 2 باب34-ج 5 ص 21 رواية 30 باب1)
والحديث من أبرز الأحاديث المتواترة لفظاً لدى الفريقين وقد صدر عنه صلى الله عليه و آله هذا النصّ في مواطن عديدة ، ولو تأمَّلنا في مضمونه لاستنتجنا منها أموراً كثيرة .
نشير إلى ما ذكره الإمام الزرقاني المالكي حيث قال:
1- أنَّهم عليهم السلام عِدل كتاب الله .
2- أنَّ الهداية منحصرة بالتمسك بهما .
3- أنَّهم هم المفسرون والواقفون على أسرار القرآن ورموزه .
4-وجود من يكون أهلاً للتمسك بالقرآن من عترته في كل زمن إلى قيام الساعة حتّى يتوجَّه الحثُّ المذكور على التمسك به كما أنَّ الكتاب كذلك(الإمام الزرقاني المالكي يحكي في شرح المواهب ج7ص8 عن السمهودي نقله العلاّمة الأميني في الغدير).
أقول:مضافاً إلى ذلك فالمقصود من لن يفترقا ليس في عالم الدنيا فحسب بل في جميع العوالم من المُلك (الدنيا) والملكوت (البرزخ) والجبروت (الآخرة) حتى يردا عليَّ الحوض .
أهل البيت و تفسير القرآن الكريم
التفاسير التي نقلت عن أئمتنا عليهم السلام على نحوين رئيسين:
الأوَّل:ما يبيِّنونه عليهم السلام من معانٍ للآية من غير أن يكونوا بصدد إقناعنا نحن كقولهم في تفسير ما كنتم تكتمون:
(عن الإمام السجاد عليه السلام : ...وما كنتم تكتمون ظنَنَّا أنّ لا يخلق الله خلقاً أكرم عليه منّا)(بحار الأنوار ج 99 ص 205 رواية 19 باب36).
وفي هذه الموارد يأتي دور التعبُّد بكلامهم عليهم السلام وقبول ما صدر منهم حيث أنَّ كلامهم هو كلام الله .
الثاني:وهو الأكثر وذلك من خلال الإستشهاد بآياتٍ أخر متَّصلة بالآية المطلوب تفسيرها أو منفصلة عنها تكون دليلاً على معناها وهذا من تفسير القرآن بالقرآن عن الأئمَّة عليهم السلام.
ولهذا النوع من التفسير شواهدُ عديدةٌ في كلامهم عليهم السلام سوف تُواجه مواردَ كثيرةً منها ضمن البحث ، ولا بأس بذكر أحد النماذج البينَّة وهي قضية ابن أبي داود حين رجع من عند المعتصم وهو مُغتَم وكان يتمنَّى أنه لم يكُ حياً حيث أقرَّ رجلٌ على نفسه بالسرقة وأراد من الخليفة أن يُطهِّره بإقامة الحدِّ عليه فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وكلٌّ قد أفتى بما يراه وكان أبو داود من جملة الفقهاء الذين أفتَوا بغير علمٍ
(فالتفت الخليفة إلى محمَّد بن عليٍّ عليه السلام فقال : ما تقول في هذا ، أبا جعفر فقال : قد تكلم القوم فيه ، قال دعني ممّا تكلَّموا به ، أيُّ شيءٍ عندك قال أعفني عن هذا قال أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه فقال أما إذا أقسمت عليَّ بالله إنِّي أقول : أنَّهم أخطئوا فيه السنة فإنَّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف قال : و ما الحجَّة في ذلك قال قول رسول الله صلى الله عليه وآله السجود على سبعة أعضاء الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقال الله تبارك وتعالى و أن المساجد لله (الجن/18)يعنى به هذا الأعضاء السبعة التي يُسجد عليها فلا تدعوا مع الله أحداً وما كان لله لم يُقطع . قال : فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف)(بحار الأنوار ج 50 ص 6 رواية 7 باب1-ج 79 ص 191 رواية 33 باب91-ج 85 ص 128 رواية 1 باب27-ج 85 ص 138 رواية 21 باب 27).
فليس بإمكاننا معرفة حقيقة القرآن إلاّ بالرجوع إليهم عليهم السلام حيث أنَّه لا يَعرف القرآن إلاّ من خوطب به ، فنقول وبصريح الكلمة:
إنَّ القرآن يساوي أهلَ البيت وأهلُ البيت يساوون القرآن لا ولن يفترقا أبداً.
فلو واجهت في خلال البحث أنَّنا نُربط الآيات كلَّها بأهل البيت فلا تتعجَّبْ من ذلك ، فهُم القرآن الناطق و لا يُمكن فهم القرآن دونهم فكلَّما سلك الإنسان طريقاً مهما طال وبَعُد فلابدَّ أن يصل إليهم ويلتقي بهم من قبل أن يضِّل ويخزى .
الفصــل الأوَّل
لولاك لما خلقت آدم
(وإذ قال ربُّك للملائكةِ إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة)(البقره/30)
فيستفاد من ذلك أنَّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان قد شهد تلك المشاهد من بداية الخلق حيث يقول سبحانه:
(وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)
وبطبيعة الحال كان صلوات الله عليه يعلم تفصيلاً وعلى مستوى الجزئيات تلك القضايا والحوادث التي مرَّت من بداية خلق آدم وما حدث بعد ذلك ومهمّة القرآن ليست هي إلاّ تذكيره عليه السلام بها ، ومن هنا نشاهد أنَّه سبحانه يقول:
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)(يوسف/3).
ولا يخفى الفرق بينالغفلة وبين الجهل فهو صلوات الله عليه لم يكن جاهلاً بتلك القصص بل كان عالماً بها والقرآن إنَّما يُذكِّره بما كان يعلمه وغفل عنه. وقد ذُكرت كلمة إذ بهذا المعنى في أكثر من مائتي موردٍ من القرآن ، كما أنَّه قد صرَّح سبحانه بقوله(واذكر)في موارد عشـرة وهي:
1-(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا)(مريم/16).
2-(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)(مريم/41).
3- (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا)(مريم/51).
4- (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا)(مريم/54).
5- (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)(مريم/56).
6- (..وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(ص/17).
7-(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ)(ص/41).
8- (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ)(ص/45).
9- (واذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنْ الأَخْيَارِ)(ص/48).
10- (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ..)(الأحقاف/21).
فإذاً النبيُّ صلى الله عليه وآله كان عالماً بتأريخ السابقين من الأنبياء والأولياء وغيرهم وذلك لعلمه بالغيب وهذه الحقيقة من عقائدنا المسلَّمة الثابتة عقلاً ونقلاً وليس هنا موضع الحديث عنها.
على أنهم أوَّل ما خلق الله كما سيتضح لك فيما بعد وفي الزيارة الجامعة المنقولة في عيون أخبار الرضا عليه السلام مسنداً عن الإمام النقي عليه السلام :
(خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه مُحدقين حتَّى منَّ علينا بكم فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه)(بحار الأنوار ج100 ص103 رواية1 باب6)
العلاقة بين الإنسان والملائكة
ينبغي لنا أن نبيِّن مدى العلاقة والارتباط المتواجد بين الملائكة وبيننا نحن البشر ، فهناك ترابط حيوي له دور في حركة الإنسان الرسالي الذي ينطلق من مبدأ العقل والقلب ، فكما أنَّ الاعتقاد بالتوحيد والنبوة والإمامة وسائر الأصول له تأثير في تعامل الإنسان وارتباطه مع ما حولَه من الموجودات كذلك الاعتقاد بالملائكة أيضاً له ذلك الدور الذي يسيِّره نحو الكمال المطلق .
ومن هذا المنطلق صار الإيمان بالملائكة من جملة الأمور العقائديَّة التِّي قد آمن بها الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ، وآمن بها كلّ المؤمنين.
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(البقرة/285).
وفي موطن آخر نشاهد أنَّ الله سبحانه حكم علي الكافرين بالملائكةِ، بالضلال البعيد فيقول:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا)(النساء/136).
وأما دور الملائكة ومسئولياتهم الخطيرة تجاه الإنسان فهي كثيرة والملاحظ في القرآن الكريم أنَّ من أهمِّ أدوار الملائكة هو الصلاة المستمرة على النبيِّ تبعاً لصلاة الله تعالى عليه:
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(الأحزاب/56).
وأيضاً صلاتهم علي المؤمنين
(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)(الأحزاب/43).
ولابدّ أن نعلم أنَّ هناك مرحلة أهمّ من ذلك وهي التعرُّف على الملائكة الموكَّلةِ علينا خاصَّة لأنه لا محالة سوف نواجههم ويواجهوننا بل نصحبهم ويصحبوننا في كلٍ من عالمي البرزخ والآخرة.
ففي تفسير الإمام :
(قال عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... فإنَّ كلَّ واحدٍ منكم معه ملكٌ عن يمينه يكتب حسناته و ملكٌ عن يساره يكتب سيئاته...)(بحار الأنوار ج63 ص271 رواية 158 باب3)
كلُّ ذلك أدَّى إلى طرح موضوع خلقة آدم - وخلافة بنيه في الأرض -على الملائكة فقال تعالى لهم:
(..إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..)(البقرة/30).
وبالطبع هم نور واحد وحقيقة فاردة وإن تكثّروا في عالم الطبيعة ومن هنا نشاهد أنّه سبحانه لم يذكر الخليفة بصورة الجمع فلميقل خلائف أو خلفاء بل جعلها مفردة.
الأمانـة الإلهـيَّة
إنَّ الخلافة الإلهية تعني النيابة عنه تعالى في جميع شئونه وصفاته الجمالية والجلالية وهو أمر عظيم بل هو الأمر كما أنَّ الأوصياء هم أولوا الأمر ولعلها هي الأمانة الإلهية التيِّ يتطرق إليها سبحانه في قوله:
(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)(الأحزاب/72).
وحيث أنَّ الإنسان قد حمل تلك الأمانة فلا بدَّ إذاً من أن يُمدح ويُحمد على ذلك لا أن يُذمّ ويُعاتب ، وبالفعل قد مدحَه الله سبحانه بأنَّه كان ظلوماً جهولاً ، فانظر إلى لطافة هذا التعبير وتمعَّن في محتواه فإنَّ الإنسان كان من أوّل الأمر ظلوماً بالنسبة إلى ما سوى الله سبحانه ، وجهولاً بجميع الموجودات سوى بارئه تعالى ، فلم يكن يطلب إلاّ الله ولم يكن يعرف إلاّ المطلق .
(من بخال لبت أي دوست كرفتار شدم)
هكذا فسَّر إمامُنا قدِّس سرُّه هذه الآية المباركة وما أعظمه من تفسير!! وقال في بعض أشعاره:
(عارفان رخ تو جمله ظلوم اند وجهول....اين ظلومي وجهولي ، سر وسوداي من است)
أي عرفاء وجهك كلهم ظلومون وجهولون.... هذا الظلوم والجهول من أعظم ما يختلج في خاطري. قال الإمام قدس الله روحه:
(وهاتان الصفتان (أعني الظلومية والجهوليّة) هما أحسنُ صفتين اتصف بهما الإنسان من بين سائر صفاته)
أقول: إنَّ هذا التفسير نابعٌ من ذلك الفكر العرفاني الذي يبني عليه إمامُنا سائَر أفكارِه المميَّزة والذي هو أهم أساس لرؤيتِه العرفانيَّة وأفكاره النورانيَّة بل حتّى مواقفه الثورية ضد الطغاة المستكبرين.
وهذا الأساس هو (العشق بالكمال المطلق)(الأربعون حديثا ، الحديث11 ص 179 الى 187 و كتاب شرح دعاء السحر)والحديث عن هذا الموضوع ذو جوانب عديدة وشُعب كثيرة لعلِّي وُفقت لإفراد رسالة عنه إنشاء الله تعالى.
هذا:
الملائكة لم تتوفر لديها أرضيَّة الخلافة وكذا سائر الموجودات حيث أن الملائكة مظاهر جمال الله ليس إلا كما أنّ هناك موجودات كثيرة وبالأخص في جنس الحيوانات هي مظاهر الجلال الإلهي .
الإنسان مظهر الجمال والجلال
أماّ الإنسانفهو مظهر للجمال والجلال معاً وذلك لوجود الجانبين فيه ومن هنا نعلم السرّ في التعبير القرآني حيث يقول سبحانه مخاطباً لإبليس:
(..مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..)(ص/75).
قال الإمام قدِّس سرُّه:
(فهو تعالى بحسب مقام الإلهية مستجمع للصفات المتقابلة كالرحمة والغضب، و البطون والظهور، و الأوّليَّة والآخريّة ، و السخط والرضا، وخليفته لقربه إليه ودنّوه بعالم الوحدة والبساطة مخلوق بيدي اللطف والقهر وهو مستجمع للصفات المتقابلة كحضرة المستخلف عنه . ولهذا اعترض على إبليس بقوله تعالى: (..مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..)(ص/75).مع أنّك مخلوق بيد واحدة . فكل صفة متعلق باللطف فهي صفة الجمال ، وكل ما يتعلق بالقهر فهو من صفة الجلال . فظهور العالم ونورانيّته وبهائه من الجمال وانقهاره تحت سطوع نوره وسلطة كبريائه من الجلال وظهور الجلال بالجمال واختفاء الجمال بالجلال جمالك في كل الحقايق ساير وليس له إلاّ جلالك ساتر)(شرح دعاء السحر)
ثمَّ:إنَّ إمامنا له بيان آخر أدقّ مما ذكرناه قد بيَّنه في كتابه مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية
قال:
(نور: لعلّ الأمانة المعروضة على السموات و الأرض والجبال التي أبَينَ عن حملها و حمَلَها الإنسان الظلومُ الجهول هي هذا المقام الإطلاقي فإن السموات و الأرضيين و ما فيهن حدودات مقيدات حتى الأرواح الكلية و من شأن المقيَّد أن يأبى عن الحقيقة الإطلاقية . و الأمانة هي ظلّ الله المطلق وظّل المطلق مطلق يأبى كل متعين عن حملها و أما الإنسان بمقام الظلوميّة التي هي التجاوز عن قاطبة الحدودات و التخطي عن كافّة التعيَينات و اللاَّ مقامى المشار إليه بقوله تعالى شأنه على ما قيل: (يا أهل يثرب لا مقام لكم) والجهولية التي هي الفناء عن الفناء قابل لحملها فحملها بحقيقتها الإطلاقية حين وصوله إلى مقام قاب قوسين و تفكَر في قوله تعالى : ( أو أدنى ) و اطفِ السراج فقد طلع الصبح)(مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية ص96).
أقول:
إنَّ الفناء عن الفناء من المراتب الراقية للإنسان حيث لا يتوجَّه الإنسان إلى نفسِه أصلاً (بل هو فانٍ في الله) و لا يتوجَّه إلى عدم توجُّهه و فنائه ( لأنَّ التوجُّه إلى الفناء هو نوعٌ من الأنانيَّة ) .
قال مولانا جلال الدين الرومي:
(در خدا كُم شَو كمال اينست وبس كُم شدن كُم كُن وصال اينست)
ماذا يعني ( ربُّـك ) ؟
ولنرجع إلى الآية المباركة فنقول إِنَّ إضافة الربّ إلى ضمير الكاف في قوله ( ربّك ) تشير إلى أنّ القضية راجعة إلى شخص النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، فالله بما أنه ربّ النبي قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة، فالخلافة إذاً لها مساس جذري بشخصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.
حديث الملائـكة
ثمَّ إنَّ لحن كلام الملائكة حيث قالوا:
(..أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ..)(البقرة/30).
وإن كان الظاهر منه الاحتجاج أو التعجُب إلاّ أنَّهم لم يكونوا بصدد ذلك كيف وهم
(..عِبَادٌ مُكْرَمُونَ*لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(الأنبياء/26،27).
فماذا كانوا يهدفون من قولهم هذا ؟ إنَّهم كانوا يريدون أن يطَّلعوا على حقيقة الأمر في مسألة الخلافة الإلهية فكانوا لا يرون عملاً أعظم ممّا يمارسونه هُم من التسبيح بحمده تعالى والتقديس غافلين عن مرحلةٍ أخرى والتِّي هي أعظم من التسبيح والتقديس وهي العبوديَّة التِّي هي جوهرة كنهها الربوبيَّة ! ومن هنا كانوا يتسائلون حول هذه الخلافة ؟ وكانوا يتوقعون الوصول إلى مستوى الإستخلاف كما في الحديث :
(عن الصادق عليه السلام ...يا ربِّ إن كنت ولابدَّ جاعلاً في أرضك خليفةً فاجعله منّا)(بحار الأنوار ج 11 ص 108 رواية 17الباب1-ج57 ص 367 رواية 4 باب4-ج 61 ص 299 رواية 7 باب47-ج 63 ص 83 رواية 38 باب2-ج 99 ص 32 رواية 7 باب4)
ومن ناحية أخرى كانت الملائكة قد اطلعت ومن قبل أن يُخلق الإنسان أنَّه بخروجه من الجنَّة سوف يرتكب الجرائم البشعة من الإفساد في الأرض بل سفك الدماء حيث يقولون:
(..أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ..)(البقرة/30).
إقنـاع الملائـكة
وكيف أجابهم الله جلَّ شأنه؟
(..قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(البقرة/30).
وهاهنا يتوجَّه سؤال وهو: ماذا كان يعلم الله سبحانه وتعالى؟ هذا ما سيتبيَّن من خلال البحث . قال سبحانه:
(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا..)(البقرة/31).
وعلى ضوء ذلك أقول:
إنَّ الله سبحانه قد علَّم آدم الأسماء كلها وذلك بدليل الآية المباركة حيث التأكيد بـ ( كلِّها ) مضافاً إلى الجمع المحلَّى باللاّم الدال على العموم ، وهذه الأسماء كلَّها كاشفة عن المُسمَّيات العينية الخارجية فهي كانت حقائق لم يتيسَّر للملائكة الوصولُ إليها ولم تعرف الملائكة أسمائها من قبل أن ينبأهم آدم بأهمِّها التّي كانت مستوعبة ومخيِّمة على سائر الأسماء كما سنبيِّن ذلك . والأحاديث المبيِّنة لتلك الأسماء تتلخَّص في طوائف ثلاثة:
الأوَّل:
(عن الفضل بن عباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن قول الله عز وجل وعلم آدم الأسماء كلها ما هي؟ قال: أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض)(بحار الأنوار ج 11 ص 471 رواية 19 باب2).
الثاني:
(عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن قول الله وعلم آدم الأسماء كلها ماذا علمه قال الأرضيين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال و هذا البساط مما علمه)(بحار الأنوار ج11 ص147 رواية18 باب2)
الثالث:
(عن داود بن سرحان العطار قال كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدعا بالخوان فتغدينا ثم جاءوا بالطشت والدست سنانه فقلت جعلت فداك قوله وعلم آدم الأسماء كلها الطست والدست سنانه منه فقال الفجاج والأودية وأهوى بيده كذا وكذا)(بحار الأنوار ج11 ص147 رواية20 باب2).
أسـمائكم في الأسـماء
ولكنحيث أنّه لم تكن لجميع هذه الأسماء علاقة بمقام الخلافة الإلهيّة نجد أنَّه تعالى يعرض قسما مميَّزاً منها خاصَّة أعني مسمَّياتها ومصاديقها وبطبيعة الحال كانت لتلك المُسميّات علاقةً بالمهمِّ أعني الخلافة التِّي كان سبحانه بصدد إفهامها للملائكة لغرض توجيه خلق آدم عليه السلام .
أنظُر إلى هذا التعبير وتأمّل في كلمة (ثم) في قوله تعالى
فإنها قد فصَّلتْ بين جميعِ الأسماء وبين التّي عُرضَتْ على الملائكة . وتأمَّل أيضاً في الضمير (هم) فإنَّه لو كانت الأسماء هي المعنيَّة والمعروضة عليهم دون المسمَّيات أو كانت تعني المسميات التِّي لا تمتلك التعقُّلَ لكان التعبير الصحيح هو(عَرضَها)لا (عَرضَهُم).
وأصرح من ذلك قوله تعالى:
فهل يحتمل من يعرف ألف باء اللغةِ العربيةِ أنَّ كلمة هؤلاء تعني الموجودات من الجبال والشعاب والأودية والنبات والشجر بأصنافها؟! .
أقـول:
بل إنَّما هي أسماء من سيَأتون على الأرض من ذريَّة آدم الذين هم محلّ الاحتجاج والنزاع وبوجود تلك الذرِّية يمكن تبرير خلق آدم عليه السلام وجعله خليفة في الأرض ، وبهم تُجبَر جميعُ المفاسد التِّي سوف يرتكبها بعضُ أولاد آدم عليه السلام ولا يخفى أنَّ كلمة هؤلاء تدلُّ على حضورهم بعينهم آنذاك وهم بعرشه محدقين .
ولعلَّ قوله عليه السلام في الزيارة الجامعة الكبيرة وأسمائكم في الأسماء إشارة إلى هذه الحقيقة حيث كانت أسمائهم في الأسماء التِّي علَّمها الله آدم عليه السلام .
ثمَّإنَّه على ما ذكرناه يمكننا معرفة ما تروم إليه الأحاديث المتظافرة في هذا المجال، ورعاية للاختصار نذكُر بعضها:
ذكر العلامة المجلسي رحمه الله في البحار عنواناً في مساواة علي عليه السلام مع آدم وإدريس ونوح عليهم السلام نقله عن كتاب مناقب آل أبي طالب ، ومن جملة ما ذكر الروايةَ التالية:
(بإسناده عن على عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وآله: يا على أنت بمنزله الكعبة تُؤتى ولا تأتي، آدم باع الجنة بحبّات حنطة فأُمر بالخروج منها قلنا اهبطوا منها جميعا وعليٌ اشترى الجنة بقرص فأُذن له بالدخول فيها وجزاهم بما صبروا جنة، علم آدم الأسماء كلها وكان اسم علي وأسماء أولاده عليه السلام فعلَّم اللهُ آدم أسماءهم)(بحار الأنوار ج 39 ص 48 رواية 15 باب73)
وفي كتاب الإحتجاج للطبرسي:
(عن أبي محمَّد العسكري عليه السلام .... فقال رسول الله وهل شرفت الملائكة إلا بحبِّها لمحمَّد وعليٍّ وقبولها لولايتهما انه لا أحد من محبِّي عليٍّ عليه السلام نظف قلبه من قذر الغش والدغل والغل ونجاسة الذنوب إلا كان أطهر وأفضل من الملائكة، وهل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم إلا لما كانوا قد وضعوه في نفوسهم إنه لا يصير في الدنيا خلق بعدهم إذا رفعوهم عنها إلا و هم يعنون أنفسهم أفضل منهم في الدين فضلا و أعلم بالله و بدينه علما، فأراد الله أن يعرفهم أنهم قد أخطئوا في ظنونهم واعتقاداتهم فخلق آدم و علمه الأسماء كلَّها ثم عرضها عليهم فعجزوا عن معرفتها ، فأمر آدم أن ينبئهم بها و عرفهم فضله في العلم عليهم ، ثم أخرج من صلب آدم ذريَّة منهم الأنبياء والرسل و الخيار من عباد الله أفضلهم محمَّد ثم آل محمَّد، ومن الخيار الفاضلين منهم أصحاب محمَّد وخيار أمه محمَّد ، و عرف الملائكة بذلك أنهم أفضل من الملائكة إلى آخر الحديث...)[iii]
والرواية التالية المنقولة في الكافي خير شاهد على ذلك :
(عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن أبي جميلة عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أن الله مثَّل لي أمتي في الطين و علمني أسماءهم كما علم آدم الأسماء كلها فمرَّ بى أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي و شيعته أن ربى وعدني في شيعة علي خصلة ، قيل يا رسول الله و ما هي قال المغفرة لمن آمن منهم..)[iv]
أقـول:
الظاهر أن قوله عليه السلام ( علَّمني أسمائهم ) ثم تشبيهه صلى الله عليه وآله هذا التعليم بتعليم آدم عليه السلام الأسماء كلّها يدلُّ على أنَّ الأسماء التِّي علمَّها الله آدم عليه السلام ليست هي أسماء الجمادات والنباتات والحيوانات فقط بل هي شاملة للإنسان أيضاً.
أوّل ما خـلق الله
أقول:
إنهم عليهم السلام أوَّل ما خلق الله ولأجلهم خُلِقت سائر الموجودات
(لولاك لما خلقت الأفلاك)
وأيضاً
وهذه المسألة ثابتة عقلاً ونقلاً ففي الحديث:
(عن جابر بن عبد الله قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أول شئ خلق الله تعالى ما هو ؟ فقال نور نبيك يا جابر خلقَه الله ثم خلق منه كلَّ خير)[vi]
وقال مولى العارفين الإمام العظيم نوَّر اللهُ ضريحه في كتابه القيِّم مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية[vii]:
(مطلَع: إن الأحاديث الواردة عن أصحاب الوحي والتنزيل في بدء خلقهم عليهم السلام وطينة أرواحهم وأنّ أول الخلق روح رسول الله وعليّ صلى الله عليهما وآلهما، وأرواحهم إشارة إلى تعين روحانيتهم التي هي المشيئة المطلقة والرحمة الواسعة تعيّناً عقليّاً لأنّه أول الظهور هو أرواحهم عليهم السلام ، والتعبير بالخلق لا يناسب ذلك فإنمقام المشيئة لم يكن من الخلق في شيء بل هو الأمر المشار إليه بقوله تعالى: ( ألا له الخلق والأمر)، وأن يُطلق عليه الخلق أيضا كما ورد منهم "خلق الله الأشياء بالمشيئة والمشيئة بنفسها" وهذا الحديث الشريف أيضا من الأدلة على كون المشيئة المطلقة فوق التعيُّنات الخلقية من العقل وما دونه. ونحن نذكر رواية دالّة على تمام المقصود الذي أقمنا البرهان الذوقي عليه بحمد الله تيمّناً بذكره و تبرّكاً به في الكافي الشريف:
أحمد بن إدريس عن الحسين بن عبد الله الصغير عن محمد بن إبراهيم الجعفري عن أحمد بن على بن محمد بن عبد الله بن عمر بن على بن أبي طالب عليه السلام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أن الله كان إذ لا كان فخلق الكان والمكانýخلق نور الأنوار الذي نورت منه الأنوار وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار وهو النور الذي خلق منه محمداً وعليّاً ، فلم يزالا نورين أولين إذ لا شئ كون قبلهما فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد الله وأبي طالب عليهما السلام)[viii]
توضيح كلام الإمـام(قده)
إنَّ الله شاء فخلق، فأول ما صدر منه تعالى هوالمشيئة وبها خلق الأشياء ولهذا سميت الأشياءُ أشياءً لأنها تجلٍ للمشيئة الإلهية فكيف ظهرت تلك المشيئة بنفسها؟ وفي ماذا ظهرت؟ وبطبيعة الحال ذلك المظهر ليس هو شيئاً بل هو أعلى من مستوى الشيء وهو ما يُطلق عليه بالأمر كما تشير إليه الآية المباركة(ألا له الخلق و الأمر)[ix]ومن خلاله خُلقت الأشياء فأصبح هو واسطة للأشياء و رابطة بينها وبين الله تعالى .
فلا مشيئة قبل المشيئة حيث لا يمكن القول بأنَّ الله شاء أن يشاء أن يخلق الأشياء لأنَّه سوف يستمِّر هذا السؤال بالنسبة إلى المشيئة الأولى فربَّ قائل يقول: هل شاء أن يشاء أن يشاء أن يخلق الأشياء؟
وهذا السؤال لا ينتهي فيجرَّ الإنسان إلى ما لا نهاية لها من الأسئلة فيتورَّط في التسلسل الباطل فلا بدَّ إذاً أن يتوقَّف.
عالم المشيئة ليس هو من عالم الخلق بل هو من عالم الأمر والمشيئة لم تُخلق كخلق الأشياء الأخرى، بل لو أطلق عليها الخلق فيراد بذلك نمطٌ خاصٌّ من الخلق يختلف عن خلق سائر الأشياء، والمشيئة قد تجلَّت في المخلوق الأوَّل وهم أنوار محمد وآل محمد، ولأجل ذلك يطلق عليهم "أولوا الأمر"، وهمواسطة الفيض كما يُشير إلى ذلك قوله تعالى
(وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا)
ثمَّ إنَّه :قد ورد في زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم المنقول عن كلٍّ من الشيخ المفيد والسيد والشهيد:
(أوَّل النبيين ميثاقا وآخرهم مبعثاً الذي غمسته في بحر الفضيلة و المنزلة الجليلة و الدرجه الرفيعة و المرتبة الخطيرة فأودعته الأصلاب الطاهرة ونقلته منها إلى الأرحام المطهرة..)[x]
لا يسـبقونه بالقول
ثمَّ إنَّ الملائكة قد أظهروا عجزهم في قبال هذا الأمر:
(قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم)[xi]
وكلامهم هذا في غاية الأدب والخضوع حيث ابتدؤا بالتسبيح ثمَّ نفوا العلم بنحو مطلق عن أنفسهم ونَسبوه إلى ربِّهم وفي خصوص الأسماء حيث أنَّه تعالى لم يعلِّمهم ذلك فلا علم لهم ، ثمَّ أكَّدوا على أنَّ الله هو العليم الحكيم وفي ذلك إشارة إلى أنَّهم كانوا يرغبون في معرفة تلك الأسماء إن اقتضت الحكمة الإلهية .
الملائكة اقتنـعوا
وهاهنا يأتي دور الخطاب الموَّجَه إلى آدم عليه السلام وهونهاية المطاف وآخر مراحل الحديث مع الملائكة ومن خلال هذا الخطاب وجوابه وصل الملائكة إلى درجة الاطمئنان إن صح هذا التعبير بخصوص الملائكة!!
(قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأَهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)[xii]
أقول: إنَّ الله سبحانه في هذه المرحلة يخاطب آدم عليه السلام ويطلب منه أن يُنبأ الملائكة بتلك الأسماء، والإنباء ليس هو مجرَّد الإعلام بل يُطلَق على خبرٍ ذي فائدةٍ عظيمة وذلك الذي يحصل منه علم أو غلبة الظن. قال الراغب الاصفهاني في مُفرداته
(النبأ خبرٌ ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظنٍّ، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتَّى يتضمَّن هذه الأشياء الثلاثة..)
ومراجعة موارد استعمال الكلمة في القرآن الكريم أحسن دليل على ذلك قال تعالى:
(فقد كذبـوا فسيأتيهم أنبـاء ما كانوا به يستهزئون)[xiii] (ولقد جاءك من نبأ المرسلين)[xiv] (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون)[xv] (واتـل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه)[xvi] (قل هو نبأ عظيم)[xvii] (ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبـال أمرهم ولهم عذاب أليم)[xviii] (تلك القرى نقص عليك من أنبائها)[xix] (نَبِّأْ عبادي إنِّي أنا الغفور الرحيم)[xx] (قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا)[xxi]
ومن الواضح أنَّه تعالى كان يريد تثبيت شخصية آدم عليه السلام وبيان منزلته العظيمة لا كآدم عليه السلام فحسب بل باعتبار أنَّه المَنشأ للخلق الجديد الذي يُطلَق عليه إنسان ذو الخصوصيّات المتميِّزة بين سائر الموجودات.
وهل الله سبحانه كان يريد أن يتعرف الملائكة على مستوى علم آدم عليه السلام وعلى ضوئه يخضعوا له بالسجود؟ هذا ما اعتقد به جمعٌ من المفسرين مع ما يتوجَّه إليهم من الملاحظات التي لا يمكن التخلُّص من الكثير منها.
أقول:هناك احتمال آخر أقوى ممّا ذُكر يتلاءم مع الأحاديث الشريفة أيضاً، وهو أنَّه سبحانه بعد أن عرض على الملائكة تلك الأنوار الطاهرة خلفائَه على البرية وحججه على خلقه ولم يتعرف الملائكة لا على أشخاصهم ولا على أسمائهم، فبطبيعة الحال لم يسكن غليلهم ولم يطمئنوا حيث لم تتمُّ لديهم فلسفة خلق الإنسان، فأراد سبحانه من آدم عليه السلام أن يُعرِّفهم للملائكة بذكر أسمائهم قال يا آدم أنبأهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم أذعنوا بالأمر واستسلموا و انحلت تلك الشبهة الغامضة التي نشأت من رؤيتهم غير الصحيحة بالنسبة إلى خلق آدم وهي أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء!
ولابأس بالإشارة إلى حديثين في هذا المجال:
1- ما نقله العلامة المجلسي عن كتاب إكمال الدين:
(عن الصادق عليه السلام أن الله تبارك وتعالى علم آدم عليه السلام أسماء حجج الله كلها ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال الله تبارك وتعالى يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنباهم بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته ثم غيَّبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم وقال لهم ألم اقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)[xxii]
ما نقله العلامة المجلسي عن تفسير فرات ابن إبراهيم الكوفي:
(عن أبي عبد الله عليه السلام قال إن الله تبارك وتعالى كان ولا شئ فخلق خمسة من نور جلاله واشتق لكل واحد منهم اسما من أسمائه المنزلة فهو الحميد وسمّاني محمَّدا وهو الأعلى وسمى أمير المؤمنين عليا وله الأسماء الحسنى فاشتق منها حسنا وحسينا وهو فاطر فاشتق لفاطمة من أسمائه فلما خلقهم جعلهم الميثاق عن يمين العرش وخلق الملائكة من نور فلما أن نظروا إليهم عظموا أمرهم وشأنهم ولقنوا التسبيح فذلك قوله تعالى وإنا لنحن الصافون وإنّا لنحن المسبحون فلما خلق الله تعالى آدم عليه السلام نظر إليهم عن يمين العرش فقال يا رب من هؤلاء قال يا آدم هؤلاء صفوتي وخاصتي خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم اسما من أسمائي قال يا رب فبحقك عليهم علمني أسماءهم قال يا آدم فهم عندك أمانة سرّ من سرِّى لا يطَّلع عليه غيرك إلا بإذني قال نعم يا رب قال يا آدم أعطني على ذلك العهد فاخذ عليه العهد ثم علمَّه أسماءهم ثم عرض على الملائكة ولم يكن علمهم بأسمائهم فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال و أوفوا بولاية علي عليه السلام فرضا من الله أوف لكم بالجنَّة)[xxiii]
أقول:يستفاد من هذا الحديث أنَّ الملائكة كانوا قد شاهدوا هذه الأنوار قبل أن يُخلق آدم عليه السلام و ذلك بعد أن خلقهم الله حيث ورد في الحديث:
(وخلق الملائكة من نور فلما أن نظروا إليهم عظَّموا أمرهم وشأنهم ولقنوا التسبيح فذلك قوله تعالى وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون)
فكانوا يعرفون شأنهم ومرتبتهم عند الله ولكنَّهم لم يتوقَّعوا أنَّ هناك علاقة بينهم وبين خلق آدم عليه السلام ومن هنا نشاهد أنَّهم وبمجرَّد أن عَرفوا أسمائهم وصلوا إلى القناعة الكاملة وقالوا:
(سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم)
ولعلَّهم أشاروا بقولهم هذا أنَّه لا علم لنا أنَّ خلق آدم عليه السلام له علاقة بتلك الأنوار التي رأيناها سابقاً ولو كنّا نعلم ذلك لما اعترضنا أصلاً.
والجديربالذكر أنَّه ورد حديث في الكافي الشريف يقول:
(محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن أبي عمير أو غيره عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال قلت له جعلت فداك إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم قال: ذلك إليَّ، إن شئتُ أخبرتهم وإن شئت لم أخبرهم ثم قال: لكنِّى أخبرك بتفسيرها قلت عمَّ يتساءلون قال: فقال هي في أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول ما لله عز و جل آيه هي أكبر مني و لا لله من نبأ أعظم مني)(الكافي ج1 ص207 رواية3).
والحديث ينطبق مع ما نحن فيه حيثُ أنَّ الولاية العظمى هي التِّي كانت السبب لخلق آدم عليه السلام ومن هنا قال
(أنبأهم بأسمائهم)
غيب السـموات والأرض
هذا:وبعد أن أنباهم آدم بأسمائهم عليهم السلام:
(قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات و الأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)
والظاهر أنَّ علم الله بغيب السموات والأرض هو نفس العلم الذي جاء في الآية 30 حيث قال إنِّي أعلمُ ما لا تعلمون.
ومن هنا يُعلم أنَّ تلك المسمَّيات الخاصَّة التِّي عرضت على الملائكة هي أمور غيبية عن العوالم المختلفة السماوية والأرضية، وهي على ما ذكرنا أرواحُ أئمتنا الأطهار عليهم السلام حيث أنَّها فوق السموات والأرض وفوق جميع الموجودات حيث أنَّ جميع الموجودات تُعدُّ من عالم الخلق، وأمّا تلك الأرواح فهي من عالم الأمر والمشيئة كما لاحظت في تعبير الإمام قدس سرُّه فتأمَّل في ذلك.
ولعلَّ الرواية الأولى تشير إلى هذا الأمر حيث جاء فيها:
(علم آدم الأسماء كلها ما هي قال أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض)
وهذا التعبير يُشير إلى أنَّ تلك الأسماء لم تكن من الأرض بل هي غيب الأرض.
عـلم الغيـب:
هذا:وينبغي لنا أن نتحدَّث ولو باختصار حول علم الغيب فنقول:
إنَّ هناك تعابير مختلفة في القرآن الكريم تتعلَّق بغيب السماوات والأرض.
ألف:أنّ الله عالم بغيب السماوات والأرض وهي ثلاث آيات:
1-(قال ألم اقل لكم إني أعلم غيب السموات و الأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)[xxiv]
2-(إن الله عالم غيب السماوات و الأرض إنه عليم بذات الصدور)[xxv]
3-(إن الله يعلم غيب السماوات و الأرض والله بصير بما تعملون)[xxvi]
ب:أنَّ غيب السماوات والأرض لله خاصَّة وهي أيضاً ثلاث آيات:
1-(و لله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون)[xxvii]
2-(و لله غيب السماوات والأرض و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إنَّ الله على كل شيء قدير)[xxviii]
3-(قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات و الأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي و لا يشرك في حكمه أحدا)[xxix]
فهل يمكن للآخرين أن يطلِّعوا على علم الغيب أم لا ؟ فماذا يعني إذاً قوله تعالى:
(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول فإنَّه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا)[xxx]
لا يهمنا البحث عنه هنا حيث أنَّه لا يتعلق بما نحن بصدد بيانه .
ماذا كانت الملائـكة تكتمه؟
وأمّا قوله تعالى وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون وما كانوا يبدونه فواضح وأمّا الذي كانوا يكتمونه فغير معلوم إلاّ أنَّ هناك حديث عن الإمام السجاد عليه السلام يبيّن لنا ذلك وهو:
(قال عليه السلام : .. وما كنتم تكتمون ظناً أنّ لا يخلق الله خلقاً أكرم عليه منّا)[xxxi]
وهذا الكلام لا يُنافي ما كانوا يعلمونه سابقاً من خلق الأنوار كما مرَّ لأنَّهم في كلامهم هذا يُشيرون إلىعالم الخلق لا عالم الأمر حيث أنَّ الملائكة من عالم الخلق فلم يكونوا يتوقَّعون أن يخلق الله خلقاً أكرم عليه منهم فيأمرهم بالسجود له ففوجئوا بذلك .
الفصل الثاني
السجود لآدم عليه السلام
والظاهر أنَّ كل ما جرى بين الله والملائكة لم يكن إلاّ تمهيداً لأمرٍ واحدٍ وهو السجود لآدم عليه السلام، لا لأنَّه آدم بل لأنَّه مَجرىً للخلافة الإلهيَّة ومحلاً للفيض الربّاني، فالسجود في الواقع كان لله سبحانه وتعالى فإنَّ أحاديثنا الشريفة تُبَيِّن لنا حقيقةَ الأمر في ذلك:
(ففي رواية عن إمامنا موسى بن جعفر عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن على عليه السلام (في رواية طويلة حول أسئلة سألها يهودي من أمير المؤمنين عليه السلام فقال علي في جواب إحدى تلك الأسئلة) ولئن اسجد الله آدم ملائكته فان سجودهم لم يكن سجود طاعة أنَّهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل ولكن اعترفوا لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له)(بحار الأنوار ج10 ص29 رواية1 باب2).
ولم يأمر الله ملائكته بالسجود لآدم إلاّ بعد أن سوّاه ونفخ فيه من روحه حيث يقول:
(وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأٍ مسنون فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين)[xxxii]
ففي الواقع لم يكن السجود لجسم آدم بل إنَّما هو لروحه المنتسب إلى الله تعالى وهو من أمر الله
(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)[xxxiii]
وهناك أحاديث دالَّة على ذلك قد ذكرها المحدِّث الكليني رضوان الله تعالى عليه ننقل ثلاثة منها :
1- (عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن بحر عن أبي أيوب الخزاز عن محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عليه السلام عما يروون إن الله خلق آدم على صورته فقال هي صوره محدثه مخلوقه واصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه و الروح إلى نفسه فقال بيتي ونفخت فيه من روحي)[xxxiv].
2-(محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن خالد عن القاسم بن عروه عن عبد الحميد الطائى عن محمد بن مسلم قال سالت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل ونفخت فيه من روحي كيف هذا النفخ؟ فقال إن الروح متحرك كالريح و إنما سمى روحا لأنه اشتق إسمه من الريح وإنما أخرجه عن لفظة الريح لأن الأرواح مجانسة الريح و إنما أضافه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح كما قال لبيت من البيوت بيتي ولرسول من الرسل خليلي وأشباه ذلك وكل ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبَّر)[xxxv].
والظاهر أنَّ المراد من التصوير أيضاً ذلك حيث أنّه لا يُطلق على الإنسان إنسان إلاّ بعد أن تكتمل صورته الإنسانيَّة (لأنَّ شيئيَّة الشيء بصورته لا بمادته تأمَّل) وهذه الصورة تمثِّل ذلك الروح ومن هنا قال سبحانه وتعالى:
(ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين)[xxxvi]
ومن هنا تعرف السرّ في الحديث الأوَّل من الأحاديث الثلاثة التِّي ذكرناها من كتاب الكافي الشريف:
(...محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عليه السلام عما يروون إن الله خلق آدم على صورته..)[xxxvii]
وللإمام قدِّس سرُّه شرح عميق ومختصر لهذا الحديث في كتابه القيِّم الأربعون حديثاً الحديث 38 فراجع.
ولا بأس بذكر بعض النقاط التِّي ذكرها إمام الأمَّة هناك مع تلخيص:
قال:
(ويستفاد ممّا ذكرناه أنَّ الإنسان الكامل مظهر الاسم الجامع، ومرآة تجلِّي الاسم الأعظم).
ثمَّ ذكر آية الأمانة التِّي شرحناها سابقاً وقال:
(وتكون الأمانة لدى العرفاءالولاية المطلقة التِّي لا يليق بها غير الإنسان، وقد أشير إليها في القرآن الكريم بقوله تعالى: كلُّ شيء هالك إلاّ وجهه)
وفي كتاب الكافي بسنده :
(عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن أبي نصر عن محمد بن حمران عن أسود بن سعيد قال كنت عند أبي جعفر عليه السلام فانشأ يقول ابتداء منه من غير أن أساله نحن حجه الله ونحن باب الله ونحن لسان الله ونحن وجه الله ونحن عين الله في خلقه ونحن ولاة أمر الله في عباده)[xxxviii]
وفي دعاء الندبة
(أين وجه الله الذي يتوجَّه إليه الأولياء؟ أين السبب المتصل بين الأرض والسماء)
وفي زيارة الجامعة
(والمثل الأعلى)
وهذا المثل الأعلى وذلك الوجه الإلهي هو الوارد في الحديث الشريف
(إنَّ الله خلق آدم على صورته)
ومعناه أنَّ الإنسان هو المثل الأعلى للحق سبحانه، وآيته الكبرى، ومظهرها الأتم، وأنَّه مرآةٌ لتجلِّي الأسماء والصفات وأنَّه وجه الله وعين الله ويد الله وجنب الله.
انتهى كلامه رُفع في الخلد مقامه.
إبليس ليس من الملائكة
إنَّ الخصال الباطنيَّة لإبليس هي التِّي جرَّته إلى عدم إطاعة أمر الله بالسجود لآدم عليه السلام وأساس ذلك هو الكفر بالله سبحانَّه فهو الذي أدَّى إلى الاستكبار والإباء من السجود والفسق عن أمر ربِّه، وبذلك يمكننا الجمع بين الآيات الثلاثة وهي:
ألف:(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبي واستكبر وكان من الكافرين)[xxxix]
ب:(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى)[xl]
ج:(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه)[xli]
أقـول:
الظاهر أنَّ الآية الأخيرة لا تريد القول بأنَّ كلَّ من كان من الجنِّ فهو فاسق، كيف وهناك نفرٌ منهم آمنوا بالرسول صلى الله عليه وآله وقد تحدَّث عنهم القرآن بالتفصيل في سورة الجنّ، بل أنَّه تعالى حيث ذكر الملائكة قبل ذلك وبيَّن أنَّهم أُمروا بالسجود للإنسان ومن خصوصيّاتهم أنّهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، حيث أنَّهم عقول محضة لا تعتريها الهوى والشهوة، فربّما يستغرب السامع من عدم إطاعة إبليس فأراد الله سبحانه أن يدفع هذا الوهم المُقدَّر فقال:
(كان من الجنّ ففسق عن أمر ربِّه)
وقد فرَّع سبحانه الفسوق على كونه من الجنّ حيث أنَّه كان مخيَّراً بين الإطاعة وعدمها. فالاستثناء ليس مُتصِّلاً بل هو منفصل فيه لطافةٌ أدبيَّة يصل إليها المتأمِّل، والحديث التالي دليل على ذلك:
(ففي تفسير على بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال .. كان إبليس منهم بالولاء و لم يكن من جنس الملائكة)(بحار الأنوار ج63 ص234 رواية73 باب3-ج63 ص273 رواية160 باب3).
والحاصلأنَّ جميع الملائكة بلا استثناء سجدوا لآدم عليه السلام إلاّ إبليس حيث كان كافراً من قبل إلاّ أنَّه كان يكتُم كفره فأبى واستكبر حينما أُمر بالسجود:
(وعن أبي عبد الله عليه السلام قال فلما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد)[xlii]
ومن ثمَّ صار الكفر أقدم من الشرك
(ففي الكافي الشريف بإسناده عن مسعدة قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام ... إلى أن قال وسئل عن الكفر والشرك أيهما أقدم فقال الكفر أقدم و ذلك إنَّ إبليس أوَّل من كفر و كان كفره غير شرك لأنه لم يدع إلى عبادة غير الله و إنما دعا إلى ذلك بعد فأشرك)[xliii]
وأوَّل ما عصي به الله من الذنوب هو الكبر
(فقال على بن الحسين عليه السلام... فأوَّل ما عصى الله به الكبر وهي معصية إبليس حين أبي و استكبر وكان من الكافرين)[xliv]
خلقـتُ بيـدَيّ !
والجدير بالذكر ما ورد في الآية المباركة حيث عاتب الله سبحانه إبليسَ
(قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين)[xlv]
فقد بيَّن سبحانه ميزةً خاصَّةً في خلق آدم حيث قال خلقت بيدي.
قال الإمام قدِّس سرُّه نقلاً عن العارف الكامل كمال الدين عبد الرزاق الكاشاني في تأويلاته:
(الإنسان هو الكون الجامع الحاصر لجميع مراتب الوجود فربُّه الذي أوجده فأفاض عليه كماله، هو الذات باعتبار جميع الأسماء بحسب البداية المُعبَّر عنه بالله، ولهذا قال تعالى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي بالمتقابلين كاللطف والقهر والجلال والجمال الشاملين لجميعها انتهى)[xlvi]
أقـول:
وأمّا سائر الموجودات فقد خُلقت بيدٍ واحدة إمّا يد الجلال أو يد الجمال فالملائكة مثلاً مظاهر جمال الله سبحانه، وكذلك كثير من النباتات والجمادات كما أنَّ قسم من الجمادات والحيوانات قد تجلَّى فيها الجلال وأمّا الإنسان فهو الكون الجامع
(وفيك انطوى العالم الأكبر)
ثمَّ
إنَّ قوله تعالى ما منعك؟ عتابٌ وهذا العتاب يدلُّ على أنَّ إبليس كان عالماً بخصوصيّات آدم عليه السلام وكان يعلم أنَّه لابدَّ أن يخضع له بالسجود حتَّى لو لم يكن هناك أمرٌ إلهي ناهيك عمّا لو كان أمرٌ في البين كما هو كذلك.
من هـم العـالـون ؟
موقف إبليس السلبي تجاه أمر الله وعدم سجوده لآدم عليه السلام لا يخلو من أحد الوجهين :
ألف:أنَّه نابع عن الروحيَّة الاستكبارية الكامنة فيه أستكبرت وكان كذلك.
ب :أنَّه ممن لم يُطلب منه أن يسجد لآدم لعلوِّه وسموِّ مرتبته أم كنت من العالين .
وهاهنا سؤال يطرح نفسَه وهو: من هم العالون ؟
ومن المعلوم أنَّ العالين هم الذين من أجلهم قد أمر الله أن يَسجد الملائكة لآدم عليه السلام ولولاهم لم يخلق الله آدما ولا كان زيد في الوجود ولا عمر وهذا واضح عند التمعُّن في ما ذكرنا سابقاً، على أنَّ هناك حديثٌ نقله الشيخ الصدوق رحمه الله في كتابه كتاب فضائل الشيعة:
(باسناده عن أبي سعيد الخدرى قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ اقبل إليه رجل فقال يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز و جل لإبليس استكبرت أم كنت من العالين فمن هم يا رسول الله الذين هم أعلى من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين كنا في سرادق العرش نسبح الله وتسبح الملائكة بتسبيحنا قبل أن يخلق الله عز وجل آدم بألفي عام، فلما خلق الله عز وجل آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له ولم يأمرنا بالسجود فسجدت الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس فانه أبي أن يسجد فقال الله تبارك وتعالى استكبرت أم كنت من العالين أي من هؤلاء الخمس المكتوب أسماؤهم في سرادق العرش الخبر)(بحار الأنوار ج11 ص142 رواية9 باب2).
وقد نقل في كتاب كنز العمال أيضاً.
إبليس يبرِّر موقـفَه
من خصوصيات العبد المؤمن أن يُسلِّم جميع أموره إلى مولاه ويعلم أنَّه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فهو الفقير بالذات كما أنَّ ربَّه هو الغني بالذات فالتساؤل والتردُّد في قبال أوامره تعالى دليل على عدم الإيمان به فكيف بالوقوف ومحاولة تبرير الموقف وتوجيه الجريمة وذلك بالقياس الباطل ، وهذا ما صدر من إبليس وعلَّم أولياءه حيث اعتمدوا على نفس الأسلوب فانظر إلى طريقة توجيه إبليس ومستوى جهله بل تجاهله
(قال أنا خير منه خلقتني من نـار وخلقته من طـين)[xlvii] (قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين* قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون ، قال فاخرج منها فإنك رجيم)[xlviii]
وإطلاق كلمة بشر يدلُّ على أنَّ إبليس تغافل عن الجانب الإنساني والنوراني فيه وقايس ما خُلق به هو النار ما خلق به آدم الطين ومن الطبيعي أنَّ هذا النمط من القياس ليس صحيحاً من جهات شتَّى:
منـها:ما ورد الإشارة إليها سابقاً من أنَّ اللازم على العبد تسليم جميع أموره إلى مولاه لا ينحرف عنه قيد أنملة لأنَّ دينَ الله لا يُصاب بالعقول وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك نكتفي بحديثين منها:
(ابن عصام عن الكلينى عن القاسم بن العلاء عن إسماعيل بن على عن ابن حميد عن ابن قيس عن الثمالى قال قال علي بن الحسين عليه السلام عليه السلام: إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة و الآراء الباطلة و المقاييس الفاسدة و لا يصاب إلا بالتسليم فمن سلم لنا سلم و من اهتدى بنا هدى ومن دان بالقياس و الرأي هلك..)[xlix]
ومن المعلوم أنَّ الدين لا يُراد منه العبادات والمعاملات فحسب بل يشمل جميع القضايا التِّي تمسُّ الدين فليس للعقول طريق للوصول إلى كنهها ومحتواها، والدليل عليه الحديث التالي:
(محمد بن الحسن القطان عن عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبي زرعه عن هشام بن عمار عن محمد بن عبد الله القرشى عن ابن شبرمه قال: دخلت أنا وأبو حنيفه على جعفر بن محمد عليه السلام فقال لأبي حنيفة اتق الله ولا تقس الدين برأيك فان أول من قاس إبليس أمره الله عز وجل بالسجود لآدم فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ثم قال أتحسن أن تقيس رأسك من بدنك قال لا قال جعفر عليه السلام: فأخبرني لأي شئ جعل الله الملوحة في العينين والمرارة في الأذنين والماء المنتن في المنخرين والعذوبة في الشفتين قال لا أدرى..الخ الحديث)[l]
ونفس الحديث بتفصيل آخر وأمثلة أخرى نقله صاحب كتاب دعائم الإسلام فراجع[*][/color][/font][/font][/url]
ولا يخفى على القارئ الكريم أنّنا لا نريد القول ببطلان الاستنتاج العقلي بنحو مطلق حتّى ما اعتمد عليه علماء الأصول من الحسن والقبح العقليَين فإنَّ ذلك بابٌ آخر لا مجالَ للحديث عنه هنا فراجع مظانّه.
منـها:أنَّ الله سبحانه يمكنه أن يخلق الأشياء لا من شيء أصلاً فالطين والنار ليس لهما دور في مستوى المخلوق منهما ولا علاقة كبيرة بين المخلوق والمخلوق منه، نعم هناك آثار خاصَّة لخصوص جسم كلٍّ منهما ، ومن هنا نشاهد سرعة انتقال الجنّ ودخولهم وخروجهم وحركتهم بحيث لا يمكن رؤيتهم بسهولة، حتى أنَّه تعالى في معجزة العصى شبَّه سرعة العصى واهتزازها بالجان:
لو قلنا أنَّ الآية تعني الجن.
كلُّ ذلك لأنَّ الجن قد خُلق من النار والنار سريع الانتقال دون الإنسان الذي خُلق من الطين، ولكن ليست هذه فضيلة في الجنّ مادام أنَّه لا يملك ما يملكه الإنس، ومن هنا نشاهد أنَّ الإنسان لو أراد أن يستغلَّ روحانيته ونورانيته استغلالاً صحيحاً لتمكَّن من الوصول إلى مستويات من الرقي والعلوّ والنورانيَّة ما لا يخطر ذلك لدى الملائكة المخلوقين من النور ناهيك عن الجنّ ولهذا نشاهد وصول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في عروجه إلى مرحلةٍ بحيث
(قال جبرئيل تقدَّم يا رسول الله ليس لي أن أجوز هذا المكان و لو دنوت أنملة لاحترقت)[liii]
يقول سبحانه وتعالى عنه :
وقد وردت الأحاديث الكثيرة التِّي تُفضِّل الإنسان المؤمن على الملائكة وأنَّ:
(الملائكة خدام المؤمنين)[lv] (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً به)[lvi] (وإذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة)[lvii]
منـها:أنَّه ما الدليل على أفضليَّة النار على الطين بل ربَّما تكون القضيَّة بالعكس كما ثبت علمياً أهميَّة الطين من نواحٍ مختلفة والجدير بالذكر أنَّه لولا الطين لما أمكن للخبراء أن يُسيطروا على آبار النفط حين حفرها !! فتأمَّل في نتائج ذلك.
ثمَّ إنَّ هناك آيةً تدلّ على مستوى عداوة إبليس لآدم وذريتَه:
(قال أ رأيتك هذا الذي كرمت عليَّ لئن أخرتن إلى يوم القيامةِ لأحتنكنَّ ذريته إلا قليلا)[lviii]
وفي اللغة حنك: يجوز أن يكون من قولهم حنكت الدابة أصبت حنكها باللجام والرسن .... فيكون معناه لأستولين عليهم.
الفصل الثالث
العهد الإلهي لآدم عليه السلام
(وَلَقد عَهِدنا إلى آدم مِن قبل فنسي ولم نجد له عزما)
ما هو ذلك العهد؟ قيل:أنه قوله تعالى:
(لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)[lix]
ويحتمل أن يكون العهد:هو عدم سماع مقولة إبليس وعدم التأثر بإضلاله الشيطاني كما تدلُّ عليها بعض الروايات أيضاً فهي التِّي نَسيها آدم.
وقال العلامة الطباطبائي قدس سرُّه في الميزان:
وهذا الاحتمال غير صحيح لقوله تعالى :
(فوسوس لهما الشيطان وقال ما نهاكما ربُّكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إنِّي لكما لمن الناصحين)[lx]
فهما حينما اقتربا إلى الشجرة كانا يذكران ذلك النهي ولم ينسياه .
ثمَّ:إنَّه قدس سرُّه ذكر احتمالاً آخرَ في هذا المجال وقوّاه.
ملخَّصُه:أنَّ العهد بمعني الميثاق الذي أخذه الله من بني آدم عامَّة ومن الأنبياء خاصة وبوجه آكد ، وهو أن لا ينسى الإنسان في أيِّ حالة من الحالات ربَّه وخالقَه ويكون دائماً على ذُكر من ذلك فإنَّ نسيان ذلك يُؤدِّي إلى أن يبتلي بالحياة الدنيا ويعاني أنواع التعب والعناء حيث أنَّه يرى الأشياء أموراً مُستقلَّة لها أضرار ومنافع وينبع منها الخير والشرّ ومع هذه الرؤية نراه يتقلَّب بين الخوف عمّا يخاف فوته والحذر من الخطر والحزن على ما فات والتحسُّر مما افتقده من المال والمنصب والبنون . وفي هذه الحيوة الدنيا كلَّما نضج جلدُه واعتاد بمكروه بُدِّل إلى جلدٍ آخر ليذوق العذاب ، فمن وقع في الدنيا واتَّبع هدى الله فبطبيعة الحال ينجو من هذه الآلام ولهذا نراه سبحانه يُعقِّب تلك الآيات بقوله:
وهذه الهداية تتمركز في ذكر الله على كلِّ حال وعدم نسيانه تعالى، وفي قبال ذلك:
ومن هنا يُعلم أنَّ اقتراب تلك الشجرة كان يؤدِّي إلى التعب والشقاء الذي يحصل من العيش في الدنيا ناسياً للربِّ تعالى[lxiii] انتهى كلام العلامة مع تلخيص وتنقيح.
البقرة 31
[ii] البقرة 31
[iii] بحار الأنوار ج 11 ص 137 رواية 1 باب 2
ج 21 ص 227 رواية 6 باب 29
ج 26 ص 338 رواية 4 باب 8
[iv] الكافي ج 1 ص 443 رواية 15
[v] بحار الأنوار ج 16 ص 406 رواية 1 باب 12
ج 40 ص 20 رواية 36 باب 19
[vi] بحار الأنوار ج 15 ص 24 رواية 43 باب 1
ج 25 ص 21 رواية 37 باب 1
ج 57 ص 170 رواية 116 باب 1
[vii] مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية ص 105
[viii] الكافي ج 1 ص 441 رواية 9
[ix]الأعراف 54
[x] بحار الأنوار ج 100 ص 183 رواية 11 باب 2
[xi] البقرة 32
[xii] البقرة 33
[xiii] الشعراء 6
[xiv] الأنعام 34
[xv] الأنعام 67
[xvi] يونس 71
[xvii] ص 67
[xviii] التغابن 5
[xix] الأعراف 101
[xx] الحجر 49
[xxi] الكهف 78
[xxii] بحار الأنوار ج 11 ص 145 رواية 15 باب 2
ج 26 ص 183 رواية 38 باب 6
[xxiii] بحار الأنوار ج 37 ص 62 رواية 31 باب 50
[xxiv] البقرة 33
[xxv] فاطر 38
[xxvi] الحجرات 18
[xxvii] هود 123
[xxviii] النحل 77
[xxix] الكهف 26
[xxx] الجن 26
[xxxi] قد مرّ في الهامش رقم 6
[xxxii] الحجر 28،29
[xxxiii] الإسراء 85
[xxxiv] الكافي ج 1 ص 134 رواية 4
[xxxv] الكافي ج 1 ص 133 رواية 3
[xxxvi] الأعراف 11
[xxxvii] الكافي ج 1 ص 134 رواية 4
[xxxviii] الكافي ج 1 ص 145 رواية 7
[xxxix] البقرة 34
[xl] طه 116
[xli] الكهف 50
[xlii] بحار الأنوار ج 63 ص 234 رواية 73 باب 3
[xliii] الكافي ج 2 ص 386 رواية 8
وبحار الأنوار ج 72 ص 96 رواية 11 باب 98
[xliv] الكافي ج 2 ص 317 رواية 8
ج 2 ص 130 رواية 11
[xlv] ص 75
[xlvi] شرح دعاء السحر ص22
[xlvii] ص 75و76
[xlviii] الحجر32-34
[xlix] بحار الأنوار ج 2 ص 303 رواية 41 باب 34
[l] بحار الأنوار ج 2 ص 291 رواية 11 باب 34
[*][/font][/color][/font][/color][/url] بحار الأنوار ج 10 ص 221 رواية 22 باب 13
[lii] النمل 10
[liii] بحار الأنوار ج 18 ص 380 رواية 86 باب 3
[liv] النجم 9
[lv] الكافي ج 2 ص 33 رواية 2
[lvi] الكافي ج 1 ص 34 رواية 1
[lvii] الكافي ج 1 ص 38 رواية 3
[lviii] الإسراء 62
[lix] البقرة 35
[lx] الأعراف 21
[lxi] طه 123
[lxii] طه 124
[lxiii] الميزان ج14 ص 224