ما الدليل على جواز شد الرحال لزيارة قبر النبي المكرم صلى الله عليه وآله وسلم ؟
الجواب :
اتفق المسلمون على جواز زيارة القبور وخاصة زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، إلا ما حكي عن ابن سيرين والنخعي والشعبة والنسبة غير ثابتة ، وقد تضافرت الروايات على هذا الجواز وأن النبي (ص) زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال : (( استأذنت ربي أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكّركم الموت )) (1)
وقال : (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكّر الآخرة )) (2)
ونقتصر من الروايات الكثيرة على هذا المقدار (3)
وقد روى في السنن كيفية زيارة النبي الأكرم لقبور البقيع ، فلاحظ المصدر (4)
وأما زيارة قبر النبي الأكرم فليس هناك أي خلاف بين المسلمين في استحباب زيارته ، وهذا محمد بن عبد الوهاب يقول : (( تسن زيارة النبي (ص) إلا أنه لا يشد الرحال إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه )) (5)
نعم ، ينسب إلى ابن تيمية التشكيك في مندوبية زيارة النبي الأكرم ، ولكن كلامه في كتاب الرد على الاخنائي على خلاف ذلك (6)
حتى أن المقدسي (7) صرح بأنه كان معتقداً بزيارة النبي الأكرم وقال : (( قال رحمه الله (يعني ابن تيمية) في بعض مناسكه ، باب زيارة قبر النبي (ص) : إذا أشرف على مدينة النبي (ص) قبل الحج أو بعده ، فليقل ما تقدم فإذا دخل استحب له أن يغتسل ، نص عليه الإمام أحمد ، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى وقال : بسم الله والصلاة على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء ، ثم يأتي قبر النبي (ص) فيستقبل جدار القبر ولا يمسه ولا يقبّله ، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وجاه النبي (ص) وقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منكّس الرأس غاض الطرف متحضراً بقلبه جلالة موقفه ثم يقول :
السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه ، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم لنبيين وقائد الغرّ المحجّلين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ، أشهد أنك قد بلّغت رسالات ربك ونصحت لأمتك ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتى أتاك اليقين ، فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته . اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً )) (8)
ولذلك لا نطيل الكلام في إثبات استحباب زيارة قبر النبي الأكرم ، ولعلنا نخصص بحثنا لبيان حكم مطلق الزيارة وبالأخص زيارة قبور الأنبياء والأولياء في المستقبل ، إنما الكلام هنا هو التركيز على حكم شد الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم ، فقد رآه ابن تيمية ومن لف لفه ، أمراً حراماً مستدلاً بحديث أبي هريرة أنه (ص) قال :
(( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الكعبة ، ومسجدي هذا ومسجد إيليا ))
وروي في صورة أخرى وهي :
(( تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد ... )) (9)
أقول : رفع القناع عن وجه الحقيقة يتوقف على دراسة أمرين :
الأول : ما يدل على استحباب السفر لزيارة قبره (ص) .
الثاني : دراسة وتحليل الحديث الذي تمسك به ابن تيمية على تحريم السفر .
وإليك الكلام حولهما واحداً تلو الآخر .
ما يدل على استحباب السفر :
يمكن الاستدلال على استحباب السفر بوجوه كثيرة لكننا نقتصر على وجهين :
الأول : إطباق السلف والخلف على السفر للزيارة :
وهذا لا يمكن لأحد إنكاره ، وقد استمرت السيرة قروناً عديدة ، وممن أوضح تلك الفقيه السبكي ، بقوله :
1-إن الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته (ص) ، ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج ، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا ، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة ، كما ذكرنه في الباب الثالث ، وذلك أمر لا يرتاب فيه ، وكلهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه ، وإن لم يكن طريقهم ، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الأموال ، ويبذلون فيه المهج ، معتقدين أن ذلك قربة وطاعة ، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على مر السنين . وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم ، يستحيل أن يكون خطأ ، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرب به إلى الله عز وجل ، ومن تأخر عنه من المسلمين فإنما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير ، مع تأسفه عليه وودّه لو تيسر له ، ومن ادعى أن هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطئ (10)
إن جريان السيرة على السفر في القرون الماضية بلغ في الوضوح ما لم يستطع أحد أن ينكره ، حتى أن الحنبلي المقدسي الذي أفرد كتاباً في الرد على السبكي لم يتعرض للسيرة وما تحدث عنها بكلمة مع أنه كان بصدد نقد الكتاب ، ولأجل أن تتضح حال السيرة نذكر بعض نصوص العلماء :
2-قال أبو الحسن الماوردي ( ت / 450 هـ ) : فإذا عاد ولي الحاج ، سار به على طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله ليجمع لهم بين حج بيت الله عز وجل ، وزيارة قبر رسول الله رعاية لحرمته وقياماً بحقوق طاعته وذلك وإن لم يكن من فروض الحج ، فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجيج المستحبة (11)
3-قال ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي ( ت / 737 هـ ) : وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة ، فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار ، والمسكنة والفقر ، والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع ويحضر قلبه وخاطره إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون ... إلى آخر ما ذكره (12)
4-قال شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي ( ت / 925 هـ ) في ما يستحب لمن حج : ثم يزور قبر النبي ويسلّم عليه وعلى صاحبيه بالمدينة المشرفة (13)
إلى غير ذلك من النصوص الواردة حول استحباب السفر لزيارة قبر النبي (ص) الحاكية عن تطابق الأمة على السفر .
5-قال الشيخ علاء الدين الحصكفي الحنفي في آخر كتاب الحج : وزيارة قبره (ص) مندوبة بل قيل واجبة لمن له سعة ، ويبدأ بالحج ولو كان فرضاً ويخيّر لو كان نفلاً ما لم يمرّ به ، فيبدأ بزيارته لا محالة ولينوي معه زيارة مسجده )) (14)
6-وقد نقل أنه لما صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس جاءه كعب الأحبار فأسلم ففرح به ، فقال عمر له : هل لك أن تسير معي إلى المدينة ، وتزور قبره وتتمتع بزيارته ؟ قال : نعم (15)
7-وقد تضافر النقل على أن بلالاً بعد ما نزل الشام وأقام بها ، شد الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم ، قال جمال الدين المزي : أنه لم يؤذن لأحد بعد النبي إلا مرة واحدة في قدمة قدمها لزيارة النبي (ص) طلب منه الصحابة ذلك ، فأذن ولم يتم الأذان (16)
الثاني : في أنّ مقدّمة المستحب مستحبة :
إذا كان زيارة النبي الأكرم أمراً مندوباً ولم تخصص الزيارة لمن كان مقيماً في المدينة ونزيلاً لها ، فلم لا تكون مقدمتها مستحبة إذ أن من القواعد إن وسيلة القربة قربة ، وقد وردت روايات على مشروعية تلك القاعدة .
يقول السبكي في هذا الصدد :
قال (ص) : (( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط )) رواه مسلم (17) والخطى إلى المساجد إنما شرّفت لكونها وسيلة إلى عبادة .
وقال (ص) : (( إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ، ثم خرج إلى المسجد ، لا تخرجه إلى الصلاة ، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطّ عنه بها خطيئة )) رواه البخاري ومسلم (18)
وقال (ص) : (( أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى )) رواه البخاري ومسلم (19)
وقال رجل : ما يسرّني أن منزلي إلى جنب المسجد ، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي ، فقال رسول الله (ص) : (( قد جمع الله لك ذلك كله )) رواه مسلم .
وقال جابر : كانت ديارنا نائية عن المسجد ، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقرب من المسجد ، فنهانا رسول الله (ص) فقال : (( إن لكم بكل خطوة درجة )) رواه مسلم .
وقال (ص) : من تطهّر في بيته ، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله ، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة )) رواه مسلم .
وقال (ص) : (( من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له نزلاً كلما غدا أو راح )) رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد (20)
هذا كله ما ذكره السبكي في مقدمة المستحب وقال بالملازمة بين استحباب ذي المقدّمة ومقدمته .
ولو قلنا بعدم الملازمة بين الاستحبابين ولكن لا محيص عن عدم التضاد بين الحكمين ، إذ كيف يمكن أن تكون الزيارة مستحبة للنائي ويكون السفر حراماً ؟ فلا محيص عن كونه مباحاً لا حراماً .
هذا كله حول دليل القائل بجواز شد الرحال .
دراسة دليل القائل بالتحريم :
ليس للقائل بالتحريم إلا دليل واحد وهو ما عرفت من رواية أبي هريرة وقد نقلت بصور مختلفة قد تعرفت عليها ، والمناسب لما يرومه المستدل الصورة التالية :
(( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى )) فتحليل الحديث يتوقف على تعيين المستثنى منه وهو لا يخلو من صورتين :
1-لا تشد إلى مسجد من المساجد إلا إلى ثلاثة مساجد ...
2-لا تشد إلى مكان من الأمكنة إلا إلى ثلاثة مساجد ...
فلو كانت الأولى كما هو الظاهر ، كان معنى الحديث عدم شد الرحال إلى أي مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة ولا يعني عدم شد الرحال إلى أي من مكان من الأمكنة إذا لم يكن المقصود مسجداً ، فالحديث يكون غير متعرض لشد الرحال لزيارة الأنبياء والأئمة الطاهرين والصالحين لأن موضوع الحديث إثباتاً ونفياً هو المساجد ، وأما غير ذلك فليس داخلاً فيه ، فالاستدلال به على تحريم شد الرحال إلى غير المساجد ، باطل .
وأما الصورة الثانية : فلا يمكن الأخذ بها إذ يلزمها كون جميع السفرات محرمة سواء كان السفر لأجل زيارة المسجد أو غيره من الأمكنة ، وهذا لا يلتزم به أحد من الفقهاء .
ثم إن النهي عن شد الرحال إلى أي مسجد من غير المساجد الثلاثة ليس نهياً تحريمياً ، وإنما هو إرشاد إلى عدم الجدوى في سفر هكذا ، وذلك لأن المساجد الأخرى لا تختلف من حيث الفضيلة ، فالمساجد الجامعة كلها متساوية في الفضيلة ، فمن العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع بلد آخر مع أنهما متماثلان .
وفي هذا الصدد يقول الغزالي : القسم الثاني وهو أن يسافر لأجل العبادة إما لحج أو جهاد ... ويدخل في جملته : زيارة قبور الأنبياء - عليهم السلام - وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء ، وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد وفاته ، ويجوز شد الرحال لهذا الغرض ، ولا يمنع من هذا قوله (ص) : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى )) ، لأن ذلك في المساجد ، فإنها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد ، وإلا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل ، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند الله )) (21)
يقول الدكتور عبد الملك السعدي : إن النهي عن شد الرحال إلى المساجد الأخرى لأجل أن في إتعاب النفس دون جدوى أو زيادة ثواب لأن في الثواب سواء ، بخلاف الثلاثة لأن العبادة في المسجد الحرام بمائة ألف ، وفي المسجد النبوي بألف ، وفي المسجد الأقصى بخمسمائة ألف فزيادة الثواب تحبب السفر إليها وهي غير موجودة في بقية المساجد (22)
والدليل على أن السفر لغير هذه المساجد ليس أمراً محرماً ما رواه أصحاب الصحاح والسنن : (( كان رسول الله يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً فيصلي فيه ركعتين )) (23)
ولعل استمرار النبي على هذا العمل كان مقترناً لمصلحة تدفعه إلى السفر إلى قباء والصلاة مع كون الصلاة فيه أقل ثواباً من الثواب في مسجده .
دراسة النهي عن شد الرحال
ةإن لابن تيمية في المقام كلمة فيها مغالطة واضحة ، إذ مع أنه قدّر المستثنى منه لفظ المساجد إلا أنه استدل على منع شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين بمدلوله أي بالقياس الأولوي ، فقال في الفتاوى :
(( فإذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتفاق الأئمة الأربعة بل قد نهى عنه الرسول (ص) فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد وأوثاناً وأعياداً ويشرك بها وتدعى من دون الله حتى أن كثير من معظّميها يفضّل الحج إليها على الحج إلى بيت الله )) (24)
ولو صح ذلك النقل من ابن تيمية ففي كلامه أوهام شتى وإليك بيانها :
1-قال : (( إذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع )) .
يلاحظ عليه : من أين وقف على أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرّم ، وقد عرفت أن النهي ليس تحريمياً مولوياً وإنما هو إرشاد إلى عدم الجدوى ، ولأجل ذلك لو ترتبت على السفر مصلحة لجاز كما عرفت من سفر النبي إلى مسجد قباء مراراً .
2-نسب عدم المشروعية إلى الأئمة الأربعة ، إلا أننا لم نجد نصاً منهم على التحريم ، ووجود الحديث في الصحاح لا يدل على أنهم فسّروا الحديث بنفس ما فسر به ابن تيمية .
ولا يخفى على الأئمة ظهور الحديث في الدلالة على عدم الجدوى ، لا كون العمل محرّماً .
3-إن عدم جواز السفر إلى غير المساجد الثلاثة لا يكون دليلاً على عدم جوازه إلى (( بيوت أذن أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه )) (25) إذ لا ملازمة بينهما ، لأنه لا يترتب على السفر في غير مورد الثلاثة أية فائدة سوى تحمّل عناء السفر ، وقد عرفت أن فضيلة أي جامع في بلد ، نفسها في البلد الآخر ، وليس اكتساب الثواب متوقفاً على السفر ، وهذا بخلاف المقام فإن درك فضيلة قبر النبي يتوقف على السفر ، ولا يدرك بدونه .
4-يقول : (( إن المسلمين يتخذون قبور الأنبياء أوثاناً وأعياداً ويشرك بها ))
(( كبرت كلمة تخرج من أفواههم )) أفمن يشهد كل يوم بأن محمداً عبده ورسوله ويكرمه ويعظّمه لأنه سفير التوحيد ومبلغه ، - أفهل - يمكن أن يتخذ قبره وثناً ؟!
5-يقول : (( تدعى من دون الله )) إن عبادة الغير حرام لا مطلق دعوته ، فعامة المسلمين حتى ابن تيمية يقول في صلاته (( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته )) . والمراد من قوله تعالى : (( ولا تدعوا مع الله أحدا )) (الجن-18) : لا تعبدوا مع الله أحداً . قال سبحانه : (( ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين )) (غافر-60) فسمّى سبحانه دعوته : عبادة فإذاً الدعوة على قسمين : دعوة عبادية إذا كان معتقداً بإلوهية المدعو بنحو من الأنحاء ، ودعوة غير عبادية ، إذا دعاه على أنه عبد من عباده الصالحين ، يستجاب دعاؤه عند الله ، والدعوة بهذا النوع تؤكد التوحيد .
6-نقل : أن بعض المسلمين يفضّل السفر إلى تلك الأماكن على الحج إلى بيت الله ، لكنها فرية بلا مرية ، وليس على وجه البسيطة مسلم واع يعتقد بهذا ويعمل عليه .
7-لو كان السفر إلى القبور أمراً محرماً فلماذا شد النبي الرحال لزيارة قبر أمه بالأبواء ، وهو منطقة بين مكة والمدينة ، أفصار النبي بهذا - والعياذ بالله - مشركاً أو أن الرواية التس أطبق المحدثون على نقلها مكذوبة ، الله لا هذا ولا ذاك وإنما .........
8-إن ما ذكره من أسباب المنع تتحقق للمجاور للقبر بدون شد الرحال فاللازم ، منع ارتكاب المحرّمات عند قبره لا منع السفر إليه .
9-احتمال أن المراد من زيارة القبور هو زيارة جميع القبور بدون تخصيص لزيارة قبر مشخّص ، احتمال ساقط وذلك لأن (ال) (الجنسية) إذا دخلت على الجمع أبطلت جمعيته وصار المراد بالمدخول أي فرد يتحقق به جنس القبر ويستوي في ذلك المفرد والجمع .
10-كيف يقال ذلك مع أن السيدة عائشة كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن بخصوصه (26) حتى أن النبي يخص بعض القبور بالزيارة وقد وضع حجرات على قبر أخيه من الرضاعة عثمان بن مضعون وقال : (( لتعرف بها قبر أخي )) ولا تترتب على التعرف فائدة سوى زيارته .
_____________________________________________________________________________
الهوامش :
(1) مسلم : الصحيح : 3/65 ، باب استئذان النبي ربه في زيارة قبر أمه .
(2) الترمذي : الصحيح : 3/274 ، باب الجنائز المطبوع مع شرح ابن العربي المالكي . وقال بعد نقل هذا الحديث عن بريدة : حديث بريدة صحيح والعمل على هذا عن أهل العلم ولا يرون بزيارة القبور بأساً وهو قول ابن مالك والشافعي وإسحاق .
(3) تحسن مراجعة المصادر الآتية : سنن ابن ماجة : 1/114 ط. الهند باب ما جاء في زيارة القبور ، أبو داود : الصحيح : 2/195 ، كتاب الجنائز ، باب زيارة القبور .. مسلم : الصحيح : 4/73 كتاب الجنائز ، باب زيارة القبور . إلى غيرها من المصادر .
(4) النسائي : السنن : 4/76-77 مضافاً إلى المصادر المتقدمة .
(5) الهدية السنية ، الرسالة الثانية .
(6) لاحظ ابن تيمية : الرد على الأخنائي : 13 .
(7) أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي .
(8) المقدسي : الصارم المنكي في الرد على السبكي : ص7 . ط1 ، القاهرة ، المطبعة الخيرية .
(9) مسلم : الصحيح : 4/126 ، كتاب الحج ، باب لا تشد الرحال . أبو داود : السنن : 1/469 كتاب الحج . النسائي : السنن : 2/37-38 المطبوع مع شرح السيوطي .
(10) الإمام تقي الدين السبكي ، شقاء السقام في زيارة خير الأنام : 100 .
(11) أبو الحسن الماوردي : الأحكام السلطانية : 105 .
(12) ابن الحاج : المدخل : 1/257 فضل زيارة القبور .
(13) أسنى المطالب في شرح روضة الطالب : 1/501 .
(14) الحنفي المتي بدمشق ( ت / 1088 ) : الدر المختار في شرح تنوير الأبصار ، آخر كتاب الحج .
(15) الزرقاني المالكي المصري : شرح المواهب : 8/299 .
(16) جمال الدين المزي : تهذيب الكمال : 4/286 ، ابن منظور : مختصر تاريخ دمشق .
(17) ورواه الإمام مالك ، وأحمد ، والترمذي ، والنسائي .
(18) ورواه أبو داود والبيهقي ، وفيه زيادات ، وكذلك الطبراني والحاكم .
(19) ورواه ابن ماجة .
(20) السبكي : شفاء السقام ، باب كون السفر إليه قربة : 102 ، ولكلامه صلة فمن أراد فليرجع إليه فإنه ممتع .
(21) الغزالي : إحياء علوم الدين : 2/247 كتاب آداب السفر ، ط دار المعرفة ، بيروت .
(22) الدكتور عبد الملك السعدي ، البدعة : 60 .
(23) مسلم : الصحيح : 4/127 . البخاري : الصحيح 2/76 . النسائي : السنن 2/37 المطبوع مع شرح السيوطي .
(24) ابن تيمية : الفتاوى ، كما في كتاب البدعة للدكتور عبد الملك السعدي .
(25) سورة النور : 36 .
(26) ابن قدامة : المغني : 2/270 .
المصدر : كتاب (البدعة) للشيخ جعفر السبحاني
الجواب :
اتفق المسلمون على جواز زيارة القبور وخاصة زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، إلا ما حكي عن ابن سيرين والنخعي والشعبة والنسبة غير ثابتة ، وقد تضافرت الروايات على هذا الجواز وأن النبي (ص) زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال : (( استأذنت ربي أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكّركم الموت )) (1)
وقال : (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكّر الآخرة )) (2)
ونقتصر من الروايات الكثيرة على هذا المقدار (3)
وقد روى في السنن كيفية زيارة النبي الأكرم لقبور البقيع ، فلاحظ المصدر (4)
وأما زيارة قبر النبي الأكرم فليس هناك أي خلاف بين المسلمين في استحباب زيارته ، وهذا محمد بن عبد الوهاب يقول : (( تسن زيارة النبي (ص) إلا أنه لا يشد الرحال إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه )) (5)
نعم ، ينسب إلى ابن تيمية التشكيك في مندوبية زيارة النبي الأكرم ، ولكن كلامه في كتاب الرد على الاخنائي على خلاف ذلك (6)
حتى أن المقدسي (7) صرح بأنه كان معتقداً بزيارة النبي الأكرم وقال : (( قال رحمه الله (يعني ابن تيمية) في بعض مناسكه ، باب زيارة قبر النبي (ص) : إذا أشرف على مدينة النبي (ص) قبل الحج أو بعده ، فليقل ما تقدم فإذا دخل استحب له أن يغتسل ، نص عليه الإمام أحمد ، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى وقال : بسم الله والصلاة على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء ، ثم يأتي قبر النبي (ص) فيستقبل جدار القبر ولا يمسه ولا يقبّله ، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وجاه النبي (ص) وقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منكّس الرأس غاض الطرف متحضراً بقلبه جلالة موقفه ثم يقول :
السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه ، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم لنبيين وقائد الغرّ المحجّلين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ، أشهد أنك قد بلّغت رسالات ربك ونصحت لأمتك ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتى أتاك اليقين ، فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته . اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً )) (8)
ولذلك لا نطيل الكلام في إثبات استحباب زيارة قبر النبي الأكرم ، ولعلنا نخصص بحثنا لبيان حكم مطلق الزيارة وبالأخص زيارة قبور الأنبياء والأولياء في المستقبل ، إنما الكلام هنا هو التركيز على حكم شد الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم ، فقد رآه ابن تيمية ومن لف لفه ، أمراً حراماً مستدلاً بحديث أبي هريرة أنه (ص) قال :
(( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الكعبة ، ومسجدي هذا ومسجد إيليا ))
وروي في صورة أخرى وهي :
(( تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد ... )) (9)
أقول : رفع القناع عن وجه الحقيقة يتوقف على دراسة أمرين :
الأول : ما يدل على استحباب السفر لزيارة قبره (ص) .
الثاني : دراسة وتحليل الحديث الذي تمسك به ابن تيمية على تحريم السفر .
وإليك الكلام حولهما واحداً تلو الآخر .
ما يدل على استحباب السفر :
يمكن الاستدلال على استحباب السفر بوجوه كثيرة لكننا نقتصر على وجهين :
الأول : إطباق السلف والخلف على السفر للزيارة :
وهذا لا يمكن لأحد إنكاره ، وقد استمرت السيرة قروناً عديدة ، وممن أوضح تلك الفقيه السبكي ، بقوله :
1-إن الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته (ص) ، ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج ، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا ، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة ، كما ذكرنه في الباب الثالث ، وذلك أمر لا يرتاب فيه ، وكلهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه ، وإن لم يكن طريقهم ، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الأموال ، ويبذلون فيه المهج ، معتقدين أن ذلك قربة وطاعة ، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على مر السنين . وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم ، يستحيل أن يكون خطأ ، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرب به إلى الله عز وجل ، ومن تأخر عنه من المسلمين فإنما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير ، مع تأسفه عليه وودّه لو تيسر له ، ومن ادعى أن هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطئ (10)
إن جريان السيرة على السفر في القرون الماضية بلغ في الوضوح ما لم يستطع أحد أن ينكره ، حتى أن الحنبلي المقدسي الذي أفرد كتاباً في الرد على السبكي لم يتعرض للسيرة وما تحدث عنها بكلمة مع أنه كان بصدد نقد الكتاب ، ولأجل أن تتضح حال السيرة نذكر بعض نصوص العلماء :
2-قال أبو الحسن الماوردي ( ت / 450 هـ ) : فإذا عاد ولي الحاج ، سار به على طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله ليجمع لهم بين حج بيت الله عز وجل ، وزيارة قبر رسول الله رعاية لحرمته وقياماً بحقوق طاعته وذلك وإن لم يكن من فروض الحج ، فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجيج المستحبة (11)
3-قال ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي ( ت / 737 هـ ) : وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة ، فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار ، والمسكنة والفقر ، والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع ويحضر قلبه وخاطره إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون ... إلى آخر ما ذكره (12)
4-قال شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي ( ت / 925 هـ ) في ما يستحب لمن حج : ثم يزور قبر النبي ويسلّم عليه وعلى صاحبيه بالمدينة المشرفة (13)
إلى غير ذلك من النصوص الواردة حول استحباب السفر لزيارة قبر النبي (ص) الحاكية عن تطابق الأمة على السفر .
5-قال الشيخ علاء الدين الحصكفي الحنفي في آخر كتاب الحج : وزيارة قبره (ص) مندوبة بل قيل واجبة لمن له سعة ، ويبدأ بالحج ولو كان فرضاً ويخيّر لو كان نفلاً ما لم يمرّ به ، فيبدأ بزيارته لا محالة ولينوي معه زيارة مسجده )) (14)
6-وقد نقل أنه لما صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس جاءه كعب الأحبار فأسلم ففرح به ، فقال عمر له : هل لك أن تسير معي إلى المدينة ، وتزور قبره وتتمتع بزيارته ؟ قال : نعم (15)
7-وقد تضافر النقل على أن بلالاً بعد ما نزل الشام وأقام بها ، شد الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم ، قال جمال الدين المزي : أنه لم يؤذن لأحد بعد النبي إلا مرة واحدة في قدمة قدمها لزيارة النبي (ص) طلب منه الصحابة ذلك ، فأذن ولم يتم الأذان (16)
الثاني : في أنّ مقدّمة المستحب مستحبة :
إذا كان زيارة النبي الأكرم أمراً مندوباً ولم تخصص الزيارة لمن كان مقيماً في المدينة ونزيلاً لها ، فلم لا تكون مقدمتها مستحبة إذ أن من القواعد إن وسيلة القربة قربة ، وقد وردت روايات على مشروعية تلك القاعدة .
يقول السبكي في هذا الصدد :
قال (ص) : (( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط )) رواه مسلم (17) والخطى إلى المساجد إنما شرّفت لكونها وسيلة إلى عبادة .
وقال (ص) : (( إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ، ثم خرج إلى المسجد ، لا تخرجه إلى الصلاة ، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطّ عنه بها خطيئة )) رواه البخاري ومسلم (18)
وقال (ص) : (( أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى )) رواه البخاري ومسلم (19)
وقال رجل : ما يسرّني أن منزلي إلى جنب المسجد ، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي ، فقال رسول الله (ص) : (( قد جمع الله لك ذلك كله )) رواه مسلم .
وقال جابر : كانت ديارنا نائية عن المسجد ، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقرب من المسجد ، فنهانا رسول الله (ص) فقال : (( إن لكم بكل خطوة درجة )) رواه مسلم .
وقال (ص) : من تطهّر في بيته ، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله ، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة )) رواه مسلم .
وقال (ص) : (( من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له نزلاً كلما غدا أو راح )) رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد (20)
هذا كله ما ذكره السبكي في مقدمة المستحب وقال بالملازمة بين استحباب ذي المقدّمة ومقدمته .
ولو قلنا بعدم الملازمة بين الاستحبابين ولكن لا محيص عن عدم التضاد بين الحكمين ، إذ كيف يمكن أن تكون الزيارة مستحبة للنائي ويكون السفر حراماً ؟ فلا محيص عن كونه مباحاً لا حراماً .
هذا كله حول دليل القائل بجواز شد الرحال .
دراسة دليل القائل بالتحريم :
ليس للقائل بالتحريم إلا دليل واحد وهو ما عرفت من رواية أبي هريرة وقد نقلت بصور مختلفة قد تعرفت عليها ، والمناسب لما يرومه المستدل الصورة التالية :
(( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى )) فتحليل الحديث يتوقف على تعيين المستثنى منه وهو لا يخلو من صورتين :
1-لا تشد إلى مسجد من المساجد إلا إلى ثلاثة مساجد ...
2-لا تشد إلى مكان من الأمكنة إلا إلى ثلاثة مساجد ...
فلو كانت الأولى كما هو الظاهر ، كان معنى الحديث عدم شد الرحال إلى أي مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة ولا يعني عدم شد الرحال إلى أي من مكان من الأمكنة إذا لم يكن المقصود مسجداً ، فالحديث يكون غير متعرض لشد الرحال لزيارة الأنبياء والأئمة الطاهرين والصالحين لأن موضوع الحديث إثباتاً ونفياً هو المساجد ، وأما غير ذلك فليس داخلاً فيه ، فالاستدلال به على تحريم شد الرحال إلى غير المساجد ، باطل .
وأما الصورة الثانية : فلا يمكن الأخذ بها إذ يلزمها كون جميع السفرات محرمة سواء كان السفر لأجل زيارة المسجد أو غيره من الأمكنة ، وهذا لا يلتزم به أحد من الفقهاء .
ثم إن النهي عن شد الرحال إلى أي مسجد من غير المساجد الثلاثة ليس نهياً تحريمياً ، وإنما هو إرشاد إلى عدم الجدوى في سفر هكذا ، وذلك لأن المساجد الأخرى لا تختلف من حيث الفضيلة ، فالمساجد الجامعة كلها متساوية في الفضيلة ، فمن العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع بلد آخر مع أنهما متماثلان .
وفي هذا الصدد يقول الغزالي : القسم الثاني وهو أن يسافر لأجل العبادة إما لحج أو جهاد ... ويدخل في جملته : زيارة قبور الأنبياء - عليهم السلام - وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء ، وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد وفاته ، ويجوز شد الرحال لهذا الغرض ، ولا يمنع من هذا قوله (ص) : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى )) ، لأن ذلك في المساجد ، فإنها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد ، وإلا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل ، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند الله )) (21)
يقول الدكتور عبد الملك السعدي : إن النهي عن شد الرحال إلى المساجد الأخرى لأجل أن في إتعاب النفس دون جدوى أو زيادة ثواب لأن في الثواب سواء ، بخلاف الثلاثة لأن العبادة في المسجد الحرام بمائة ألف ، وفي المسجد النبوي بألف ، وفي المسجد الأقصى بخمسمائة ألف فزيادة الثواب تحبب السفر إليها وهي غير موجودة في بقية المساجد (22)
والدليل على أن السفر لغير هذه المساجد ليس أمراً محرماً ما رواه أصحاب الصحاح والسنن : (( كان رسول الله يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً فيصلي فيه ركعتين )) (23)
ولعل استمرار النبي على هذا العمل كان مقترناً لمصلحة تدفعه إلى السفر إلى قباء والصلاة مع كون الصلاة فيه أقل ثواباً من الثواب في مسجده .
دراسة النهي عن شد الرحال
ةإن لابن تيمية في المقام كلمة فيها مغالطة واضحة ، إذ مع أنه قدّر المستثنى منه لفظ المساجد إلا أنه استدل على منع شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين بمدلوله أي بالقياس الأولوي ، فقال في الفتاوى :
(( فإذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتفاق الأئمة الأربعة بل قد نهى عنه الرسول (ص) فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد وأوثاناً وأعياداً ويشرك بها وتدعى من دون الله حتى أن كثير من معظّميها يفضّل الحج إليها على الحج إلى بيت الله )) (24)
ولو صح ذلك النقل من ابن تيمية ففي كلامه أوهام شتى وإليك بيانها :
1-قال : (( إذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع )) .
يلاحظ عليه : من أين وقف على أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرّم ، وقد عرفت أن النهي ليس تحريمياً مولوياً وإنما هو إرشاد إلى عدم الجدوى ، ولأجل ذلك لو ترتبت على السفر مصلحة لجاز كما عرفت من سفر النبي إلى مسجد قباء مراراً .
2-نسب عدم المشروعية إلى الأئمة الأربعة ، إلا أننا لم نجد نصاً منهم على التحريم ، ووجود الحديث في الصحاح لا يدل على أنهم فسّروا الحديث بنفس ما فسر به ابن تيمية .
ولا يخفى على الأئمة ظهور الحديث في الدلالة على عدم الجدوى ، لا كون العمل محرّماً .
3-إن عدم جواز السفر إلى غير المساجد الثلاثة لا يكون دليلاً على عدم جوازه إلى (( بيوت أذن أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه )) (25) إذ لا ملازمة بينهما ، لأنه لا يترتب على السفر في غير مورد الثلاثة أية فائدة سوى تحمّل عناء السفر ، وقد عرفت أن فضيلة أي جامع في بلد ، نفسها في البلد الآخر ، وليس اكتساب الثواب متوقفاً على السفر ، وهذا بخلاف المقام فإن درك فضيلة قبر النبي يتوقف على السفر ، ولا يدرك بدونه .
4-يقول : (( إن المسلمين يتخذون قبور الأنبياء أوثاناً وأعياداً ويشرك بها ))
(( كبرت كلمة تخرج من أفواههم )) أفمن يشهد كل يوم بأن محمداً عبده ورسوله ويكرمه ويعظّمه لأنه سفير التوحيد ومبلغه ، - أفهل - يمكن أن يتخذ قبره وثناً ؟!
5-يقول : (( تدعى من دون الله )) إن عبادة الغير حرام لا مطلق دعوته ، فعامة المسلمين حتى ابن تيمية يقول في صلاته (( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته )) . والمراد من قوله تعالى : (( ولا تدعوا مع الله أحدا )) (الجن-18) : لا تعبدوا مع الله أحداً . قال سبحانه : (( ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين )) (غافر-60) فسمّى سبحانه دعوته : عبادة فإذاً الدعوة على قسمين : دعوة عبادية إذا كان معتقداً بإلوهية المدعو بنحو من الأنحاء ، ودعوة غير عبادية ، إذا دعاه على أنه عبد من عباده الصالحين ، يستجاب دعاؤه عند الله ، والدعوة بهذا النوع تؤكد التوحيد .
6-نقل : أن بعض المسلمين يفضّل السفر إلى تلك الأماكن على الحج إلى بيت الله ، لكنها فرية بلا مرية ، وليس على وجه البسيطة مسلم واع يعتقد بهذا ويعمل عليه .
7-لو كان السفر إلى القبور أمراً محرماً فلماذا شد النبي الرحال لزيارة قبر أمه بالأبواء ، وهو منطقة بين مكة والمدينة ، أفصار النبي بهذا - والعياذ بالله - مشركاً أو أن الرواية التس أطبق المحدثون على نقلها مكذوبة ، الله لا هذا ولا ذاك وإنما .........
8-إن ما ذكره من أسباب المنع تتحقق للمجاور للقبر بدون شد الرحال فاللازم ، منع ارتكاب المحرّمات عند قبره لا منع السفر إليه .
9-احتمال أن المراد من زيارة القبور هو زيارة جميع القبور بدون تخصيص لزيارة قبر مشخّص ، احتمال ساقط وذلك لأن (ال) (الجنسية) إذا دخلت على الجمع أبطلت جمعيته وصار المراد بالمدخول أي فرد يتحقق به جنس القبر ويستوي في ذلك المفرد والجمع .
10-كيف يقال ذلك مع أن السيدة عائشة كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن بخصوصه (26) حتى أن النبي يخص بعض القبور بالزيارة وقد وضع حجرات على قبر أخيه من الرضاعة عثمان بن مضعون وقال : (( لتعرف بها قبر أخي )) ولا تترتب على التعرف فائدة سوى زيارته .
_____________________________________________________________________________
الهوامش :
(1) مسلم : الصحيح : 3/65 ، باب استئذان النبي ربه في زيارة قبر أمه .
(2) الترمذي : الصحيح : 3/274 ، باب الجنائز المطبوع مع شرح ابن العربي المالكي . وقال بعد نقل هذا الحديث عن بريدة : حديث بريدة صحيح والعمل على هذا عن أهل العلم ولا يرون بزيارة القبور بأساً وهو قول ابن مالك والشافعي وإسحاق .
(3) تحسن مراجعة المصادر الآتية : سنن ابن ماجة : 1/114 ط. الهند باب ما جاء في زيارة القبور ، أبو داود : الصحيح : 2/195 ، كتاب الجنائز ، باب زيارة القبور .. مسلم : الصحيح : 4/73 كتاب الجنائز ، باب زيارة القبور . إلى غيرها من المصادر .
(4) النسائي : السنن : 4/76-77 مضافاً إلى المصادر المتقدمة .
(5) الهدية السنية ، الرسالة الثانية .
(6) لاحظ ابن تيمية : الرد على الأخنائي : 13 .
(7) أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي .
(8) المقدسي : الصارم المنكي في الرد على السبكي : ص7 . ط1 ، القاهرة ، المطبعة الخيرية .
(9) مسلم : الصحيح : 4/126 ، كتاب الحج ، باب لا تشد الرحال . أبو داود : السنن : 1/469 كتاب الحج . النسائي : السنن : 2/37-38 المطبوع مع شرح السيوطي .
(10) الإمام تقي الدين السبكي ، شقاء السقام في زيارة خير الأنام : 100 .
(11) أبو الحسن الماوردي : الأحكام السلطانية : 105 .
(12) ابن الحاج : المدخل : 1/257 فضل زيارة القبور .
(13) أسنى المطالب في شرح روضة الطالب : 1/501 .
(14) الحنفي المتي بدمشق ( ت / 1088 ) : الدر المختار في شرح تنوير الأبصار ، آخر كتاب الحج .
(15) الزرقاني المالكي المصري : شرح المواهب : 8/299 .
(16) جمال الدين المزي : تهذيب الكمال : 4/286 ، ابن منظور : مختصر تاريخ دمشق .
(17) ورواه الإمام مالك ، وأحمد ، والترمذي ، والنسائي .
(18) ورواه أبو داود والبيهقي ، وفيه زيادات ، وكذلك الطبراني والحاكم .
(19) ورواه ابن ماجة .
(20) السبكي : شفاء السقام ، باب كون السفر إليه قربة : 102 ، ولكلامه صلة فمن أراد فليرجع إليه فإنه ممتع .
(21) الغزالي : إحياء علوم الدين : 2/247 كتاب آداب السفر ، ط دار المعرفة ، بيروت .
(22) الدكتور عبد الملك السعدي ، البدعة : 60 .
(23) مسلم : الصحيح : 4/127 . البخاري : الصحيح 2/76 . النسائي : السنن 2/37 المطبوع مع شرح السيوطي .
(24) ابن تيمية : الفتاوى ، كما في كتاب البدعة للدكتور عبد الملك السعدي .
(25) سورة النور : 36 .
(26) ابن قدامة : المغني : 2/270 .
المصدر : كتاب (البدعة) للشيخ جعفر السبحاني