السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آله أجمعين
الإمام محمد بن علي الجواد(ع)
الإمامة المعجزة
من أئمة أهل البيت(ع) الإمام محمد بن علي الجواد(ع)، ونحن إذ نتحدّث عن حياته(ع)، فلكي نتعلّم كيف نعيش الإسلام من خلال هذه الصفوة الطيّبة من أهل البيت(ع)، وكيف نواجه حاضرنا من خلال الخطوط المضيئة في ماضينا، من أجل أن نصنع مستقبلنا جميعاً على أساس وحي الله وتعاليم رسوله(ص) التي انطلق بها أئمة أهل البيت(ع) الذين جسّدوا في كلماتهم وتعاليمهم وأعمالهم وسيرتهم كلَّ ما انطلق به الكتاب وما تحرّكت به السُّنّة.
الإمام الجواد(ع): معجزة الإمامة
والإمام الجواد(ع)، هو الذي انفتح على خطِّ الإمامة مبكراً، بحيث يمكن أن يَصْدُق عليه ما صدق على "يحيى"(ع) في نبوّته {واتَيْناهُ الحُكْمَ صبيّاً}[مريم:12]، وعاش بعد وفاة أبيه الإمام عليّ بن موسى الرضا(ع) مسؤوليّة الإمامة، حيث يمكننا أن نسمّيه بـ"الإمام المعجزة"، لأنَّ إمامته انفتحت على كلِّ الواقع وهو بعدُ في سنِّ الصِّبا، حيث حيّر العقول بعلمه الوافر وإجاباته عن أعقد المسائل، وقدرته على تبيان حكم الله في شريعته..
وقد استطاع(ع) منذ حداثة سنِّه أن يُظهر ثبات الإمامة وصلابتها، حيث يروي محمد ابن طلحة فيقول: "لما تُوفّي والده الرِّضا(ع) وقدم الخليفة المأمون إلى بغداد بعد وفاته (أي الرِّضا) بسنة، اتفق أنَّه خرج إلى الصَّيد، فاجتاز بطرف البلد في طريقه، والصبيان يلعبون ومحمد (الجواد) واقفٌ معهم، وكان عمره يومئذٍ إحدى عشرة سنة فما حولها. فلما أقبل المأمون انصرف الصبيان هاربين، ووقف أبو جعفر محمد(ع) فلم يبرح مكانه، فقرب منه الخليفة، فنظر إليه، وكأنَّ الله عزَّ وعلا ألقى عليه مسحةً من قبول، فوقف الخليفة، وقال له: يا غلام، ما منعك من الانصراف مع الصبيان؟ فقال له محمد (الجواد) مسرعاً: "يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطريق ضيقٌ لأوسّعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظني بك حَسَنٌ إنّك لا تضرُّ من لا ذنب له، فوقفت"(1).
إنّ هذه الكلمات العاقلة المتزنة تدلّ على وعي عميق للأمور التي تترك تأثيرها على الإنسان في مواجهته للسلطة لتدفعه إلى الخوف والهرب منها، فلماذا يخاف إذا لم تكن له جريمة يعاقب عليها؟ ولماذا يتراجع عن موقعه في الطريق إذا كان يتسع لمرور الآخرين من دون أن يضيّق عليهم بمكانه ليزول عنها؟! وإذا كان الحاكم متوازناً عادلاً في أحكامه وعلاقته بالناس، فلماذا يخشى منه إذا كان بريئاً من كل ذنب؟! هذا بالإضافة إلى شجاعة الموقف وجرأة الخطاب وصلابة الإرادة، مما لا يصدر من صبي يختزن عقل الصبا في شخصيته، بل إن ذلك يكشف عن عقل مفكر واسعٍ منفتح على الواقع من خلال ملكة قدسية ربانية.. وهذه هي الملكة التي فرضت احترامه على المأمون وعلى الناس المحيطين به، كما نرى ذلك فيما بعد.
وممن روى النصّ عن أبي الحسن الرضا(ع) على ابنه أبي جعفر الجواد(ع) بالإمامة، "عليّ بن جعفر وصفوان بن يحيى ومعمر بن خلاد والحسين بن بشّار وابن أبي نصر البزنطي وابن قياما الواسطي والحسن بن الجهم وأبو يحيى الصنعائي والخيرائي ويحيى بن حبيب الزيّات في جماعة كثيرة يطول بذكرهم الكتاب"(2). وجاء في تاريخ المسعودي بإسناده عن محمد بن الحسين بن أسباط، قال: "خرج عليّ أبو جعفر، فجعلت أنظر إليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فقال لي: يا علي بن أسباط، إنَّ الله احتجَّ في الإمامة بمثل ما احتجَّ به في النبوّة، فقال: {وآتيناه الحُكمَ صبيّاً} وقال لما بلغ أشدَّه: {آتيناهُ حكماً وعلماً}.. فقد يجوز أن يُؤتى الحكم صبياً ويؤتاه ابن أربعين"(3).
وروى الشيخ المفيد في كتاب (الإرشاد): "وكان المأمون قد شُغِف بأبي جعفر(ع) لِما رأى من فضله من صِغَر سنِّه، وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوِه فيه أحدٌ من مشايخ أهل الزمان، فزوّجه ابنته أمَّ الفضل وحملها(ع) معه إلى المدينة، وكان متوفِّراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قَدْره. روى الحسن بن محمد بن سليمان، عن عليِّ بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه، عن الريّان بن شبيب قال: لما أراد المأمون أن يزوّج ابنته أمَّ الفضل أبا جعفر محمد بن عليٍّ(ع)، بلغ ذلك العباسيّين، فَغَلُظَ عليهم واستكبروه، وخافوا أن ينتهيَ الأمر معه إلى ما انتهى مع الرِّضا(ع) (بأن أعطاه ولاية العهد)، فخاضوا في ذلك، واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه، فقالوا له: ننشدُك اللهَ يا أمير المؤمنين، ألاّ تُقيمَ على هذا الأمر الذي قد عزمتَ عليه من تزويج ابن الرِّضا، فإنَّا نخاف أن يَخرج به عنا أمرٌ قد ملّكناه الله، ويُنْزَع منا عِزٌّ قد ألبسناه اللهُ، وقد عرفتَ ما بيننا وبين هؤلاء القوم (من بني هاشم) قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون (العباسيّون) قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنا في وهلةٍ من عملك مع الرضا ما عملت، حتى كفانا الله المهمَّ من ذلك، فاللهَ الله أن ترُدَّنا إلى غمٍّ انحسر عنّا، واصرِفْ رأيك عن ابن الرضا، واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يَصْلُح لذلك دون غيره.
فقال لهم المأمون: أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب، فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم، وأمّا ما كان يفعله مَن كان قبلي بهم، فقد كان قاطعاً للرحم، أعوذ بالله من ذلك، وواللهِ ما ندمتُ على ما كان مني من استخلاف الرّضا، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى، وكان أمر الله قَدَراً مقدوراً، وأما أبو جعفر محمد بن عليّ فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صِغَر سنِّه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، فيعلموا أنَّ الرأي ما رأيتُ فيه.
فقالوا: إنَّ هذا الصبيَّ وإن راقك منه هَدْيُه، فإنَّه صبيٌّ لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدّب ويتفقّه في الدنيا، ثم اصنع ما تراه بعد ذلك، فقال لهم: ويحكم، إنني أعْرَفُ بهذا الفتى منكم، وإنَّ هذا من أهل بيتٍ عِلمُهم من الله وموادّه وإلهامه، لم يزل آباؤهُ أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدِّ الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفتُ من حاله.
قالوا له: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فَخَلِّ بيننا وبينه لِنَنْصِبَ من يسأله بحضرتك عن شيءٍ من فقه الشريعة، فإن أصابَ في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراضٌ في أمره، وظهر للخاصة والعامة سديدُ رأي أمير المؤمنين، وإن عجز عن ذلك فقد كُفينا الخطب في معناه.
فقال لهم المأمون: شأنكم وذاك متى أردتم، فخرجوا من عنده وأجمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم، وهو يومئذ قاضي القضاة، على أن يسأله مسألةً لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموالٍ نفيسة على ذلك، وعادوا إلى المأمون، فسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك.
واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه، وحضر معهم يحيى بن أكثم، وأمر المأمون أن يُفرَش لأبي جعفر(ع) دَسْتٌ (أي جانب من البيت) وتُجعل له فيه مِسْوَرَتان (متكأ)، فَفُعِل ذلك، وخرج أبو جعفر(ع)، وهو يومئذٍ ابن تسع سنين وأشهر، فجلس بين المسورتين، وجلس يحيى ابن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم (أخذ كلٌّ مكانه حسب رتبته الرسميَّة)، والمأمون جالسٌ في دَسْتٍ متصلٍ بدست أبي جعفر(ع).
فقال يحيى بن أكثم للمأمون: يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك، فأقبل عليه يحيى بن أكثم، فقال: أتأذن لي ـ جُعلت فداك ـ في مسألة؟ فقال له أبو جعفر(ع): "سل إن شئت" قال يحيى: ما تقول في مُحْرِم "الإنسان أثناء الإحرام في الحجّ) قَتلَ صيداً؟
فقال له أبو جعفر: "قتله في حلٍّ أو حَرَم؟ عالماً كان المُحْرِم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حُرّاً كان العبد أم عبداً؟ صغيراً كان أم كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيدُ أم من غيرها؟ من صِغار الصيد كان أم من كبارها؟ مُصِرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتلُه للصيد أم نهاراً؟ مُحرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان مُحرماً".
فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجزُ والانقطاع، ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره، فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم نظر إلى أهل بيته، وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟
ثم أقبل على أبي جعفر(ع)، فقال له: أتخطب يا أبا جعفر؟ قال: "نعم يا أمير المؤمنين"، فقال له المأمون: أُخْطُبْ، جُعلت فداك لنفسك، فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجُك أمَّ الفضل ابنتي وإن رَغَم قومٌ لذلك. ثم قال له المأمون: فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألةٍ كما سألك. فقال أبو جعفر ليحيى: "أسألك". قال: ذلك إليك، فإن عرفتُ جوابَ ما تسألني عني وإلاَّ استفدتُه منك.
فقال أبو جعفر(ع): "خبِّرْني عن رجلٍ نظر إلى امرأةٍ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار حُلّت له، فلما زالت الشمس حَرُمت عليه، فلما كان وقت العصر حُلّت له، فلما غربت الشمس حَرُمت عليه، فلما دخل عليه وقت العشاء بالآخرة حلّت له، فلما كان انتصافُ الليل حَرُمَت عليه، فلما طلع الفجر حلّت له، ما حالُ هذه المرأة، وبماذا حلّت له وحرُمت عليه؟".
فقال له يحيى: لا والله ما أهتدي إلى جواب هذه المسألة، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تُفيدناه.
فقال له أبو جعفر(ع): "هذه أمَةٌ لرجلٍ من الناس، نظر إليها أجنبيٌّ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلما كان الظهر أعتقها فَحَرُمَت عليه، فلما كان وقتُ العصر تزوّجها فحلّت له، فلما كان وقتُ المغرب ظاهر منها فَحرُمت عليه، فلما كان وقتُ العشاء الآخرة كفّر عن الظِهار فحلّت له، فلما كان نصف الليل طلّقها واحدةً فَحَرُمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلّت له".
فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم أحدٌ يجيب عن هذه المسألة بمثلِ هذا الجواب أو يعرفُ القول في ما تقدّم من السؤال؟
قالوا: لا والله، إنَّ أمير المؤمنين أعلمُ وما رأى"(4).
وهذا ما يجعلنا نقول إنَّه "الإمام المعجزة"، لأنَّه بهذا العلم الواسع الذي اختصّه الله به وألهمه إيّاه، كان معجزةً في ذلك حتى صَغُر كبار علماء زمانه أمامه.
وإننا نسجّل عدة ملاحظات في هذه الرواية:
الملاحظة الأولى: أن بني العباس كانوا حريصين على بقاء الخلافة فيهم، ولذلك كانوا شديدي الحساسية بأية علاقة بين الخلافة وبين أيّ شخص من أهل البيت(ع)، حذراً من أن تؤدي إلى التفاف الناس حوله من خلال هذه العلاقة، أو انفعال الخليفة بقيمته الروحية والعلمية التي قد تجتذبه إلى تأهيله للخلافة من بعده، كما حدث ذلك في الموقف من الإمام علي الرضا(ع).. وهذا ما واجه به المأمون قرابته، بأن عرّفهم قيمة أهل البيت وتميّزهم عليهم بالعلم والروحية والتقوى والقرب من الله، ما يجعلهم الأَوْلَى بالخلافة في عناصرها الحيوية المميزة، وتحدّث إليهم عن المظالم التي قام بها الخلفاء من قبله ضدّ أهل البيت مما لا يجوز القيام به على أساس العدل، ولذلك استعاذ بالله أن يفعل فعلهم في هذا الاتجاه، ثم أكّد موقفه من إعطاء ولاية العهد للإمام الرضا(ع) وإصراره عليه على أن يكون هو الخليفة لولا أنّ الإمام رفض ذلك.. وقد قدّر الله لهذا الأمر أن لا يتم بوفاته.
الملاحظة الثانية: أن موقف المأمون يدلّ على أن أهل البيت(ع) قد فرضوا أنفسهم على المجتمع بما يتميزون به من الصفات والفضائل، حتى على موقع الخلافة الذي لا يرى الأشخاص إلا من خلال علاقتهم بالمُلك الذي يحيط به، فلا ينظر بعين الموضوعية للأشياء، ما يجعل موقفه في دائرة العصبية الذاتية لا في دائرة النظرة العادلة، كما يدلّ على إنصاف المأمون في نظرته إلى الإمام الجواد(ع)، أو إحساسه بالحاجة إلى أن يتخلّص من الماضي القريب في تعامله مع الإمام الرضا(ع) في وفاته، بلحاظ ما يُنسب إليه من التسبب فيه.
الملاحظة الثالثة: أن الإمام الجواد(ع) انطلق في سعة علمه ليؤكّد للمجتمعين حوله في موقع التحدّي ممن يشير إليهم الناس بالمعرفة والإحاطة والموقع التنفيذي للحكم والقضاء في مركز السلطة، بأنه يملك العلم الذي لا يخطىء في فكر، والفقه الرحب الذي لا يضيق بمسألة بالرغم من صغر سنه الذي أوحى إليهم بأنه لا يملك تحليل الفكر أو الإجابة عن سؤال، وأنه إذا كان متّصفاً بالهدى والخُلق كنتيجةٍ لتربيته، فإنه لا يتّصف بالمعرفة العلمية التي تحتاج إلى المزيد من الوقت والدراسة الطويلة للحصول عليها.. فكانت المفاجأة الصدمة لهم أن تغلّب على أكبر قاضٍ في البلد بالرغم من اتفاقهم معه على تحضير المسائل الصعبة التي تكشف قلة علمه حسب زعمهم، وكانت الغلبة له في هذا الحوار، بحيث تحوّل السائل المتحدي إلى مسؤول لا يملك التوازن أمام تحدي الإمام(ع) له.
الملاحظة الرابعة: أن الأئمة من أهل البيت(ع) كانوا يقبلون التحدي ولا يضيقون به، فينفتحون على الحوار ويستجيبون للأسئلة التي تطرح عليهم في الحال من دون حاجة إلى وقتٍ يتأملون فيه، أو إلى دراسة يراجعون فيها الكتاب هنا وهناك.. ما يوحي بأنّ العلم لديهم يتسع لكل علامات الاستفهام في أذهان السائلين.. وهذا هو الذي يؤهّلهم للإمامة التي تملك موقع القيادة الذي لا يملكه الآخرون، كما جاء على لسان الخليل بن أحمد الفراهيدي في تقديمه الإمام علي(ع) على غيره بقوله: "احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل أنه أمام الكل". وهذا هو الدرس الذي ينبغي للقيادات الإسلامية أن تتمثّله في ساحة المواجهة الثقافية للقوى المضادة من المثقفين، وذلك بأن تملك العلم الواسع الذي يتيح لها القدرة على قبول التحدي في أيّ حوارٍ أو سؤال، حتى يؤكدوا الحجة في الموقف والغلبة في الصراع، من أجل إخضاع الآخرين للحق بالضغط العلمي الواسع.
حول حداثة سنّ الجواد(ع) وخلافته لأبيه
1 ـ جاء في الأحاديث عن عبد الله بن جعفر قال: دخلت على الرِّضا(ع) أنا وصفوان بن يحيى، وأبو جعفر(ع) قائمٌ قد أتى له ثلاث سنين، فقلنا له: جعلنا الله فداك، إنْ ـ وأعوذ بالله ـ حَدَثَ حَدَثٌ، فمن يكون بعدك؟ قال: ابني هذا ـ وأومأ إليه ـ فقلنا له: وهو في هذه السنّ؟ قال: نعم، وهو في هذه السنّ، إنَّ الله تبارك وتعالى احتجَّ بعيسى وهو ابنُ سنتين"(5).
2 ـ في الإرشاد: "أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمّد، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن الخيراني عن أبيه، قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن الرضا(ع) بخراسان، قال قائلٌ: يا سيدي، إن كان كونٌ فإلى مَن؟ قال: "إلى أبي جعفر ابني"، فكأنّ القائل استصغر سنَّ أبي جعفر(ع)، فقال أبو الحسن(ع): "إنَّ الله بعثَ عيسى بن مريم رسولاً نبيّاً صاحب شريعة مُبْتَدَأةٍ في أصغرَ من السنِّ الذي فيه أبو جعفر(ع)"(6).
3 ـ أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاّد قال: سمعت الرضا(ع) وذكر شيئاً (من علامات الإمام وأشباهه) فقال: "ما حاجتكم إلى ذلك، هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيّرته مكاني" وقال: "إنَّا أهلُ بيتٍ يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القُذّة بالقُذّة"(7).
ونلاحظ في هذه النصوص أنّ الإمام الرضا(ع) الذي كان يؤكّد مستوى الإمامة في شخصيّة الإمام الجواد(ع) وهو في السنّ المبكرة من عمره، أراد أن يبيّن للناس الذين يسألونه عن الإمام من بعده، أنّ في الإمامة عنصراً غيبياً لا يخضع للوسائل العادية المتعارفة لدى الناس، وأنّ عليهم أن يتمثَّلوا ذلك في الملكات القدسية في مستقبل أمره مما يتعرفون فيه الدليل على ذلك.
وجاء في الكافي بسنده عن محمد بن الحسن بن عمار قال: "كنت عند علي بن جعفر بن محمد جالساً بالمدينة، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما سمع من أخيه ـ يعني أبا الحسن ـ إذ دخل أبو جعفر محمد بن علي الرضا المسجد ـ مسجد رسول الله(ص) ـ فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء فقبّل يده وعظّمه، فقال له أبو جعفر: يا عم، اجلس رحمك الله، فقال: يا سيدي، كيف أجلس وأنت قائم، فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه، جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عم أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال: اسكتوا! إذا كان الله عزّ وجلّ ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهّل هذه الشيبة وأهَّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه أُنكر فضله؟ نعوذ بالله مما تقولون بل أنا له عبد"(8).
إنّ هذه الشهادة من الثقة الجليل علي بن جعفر ـ وهو مَن هو في فضله ووثاقته وكبر سنّه ـ تدل على أنّ إمامة الإمام الجواد كانت في موقع الوضوح والتسليم عند كبار بني هاشم، ولذلك كان تعظيمه له وتواضعه لمقامه الإمامي بكلمته "وأنا له عبد"، هي أكبر شاهد على ذلك.. أما أولئك الذين كانوا محيطين بعليّ بن جعفر، فقد لاحظوا المسألة من حيث كبر السن وتقدّم درجة النسب لأنه عم أبيه، ولكنه ردّ عليهم بأنّ القضية هي قضية اللطف الإلهي الذي أعطاه مركز الإمامة ففضّله عليه، ولم يعط ذلك له، كأنه يقول لهم إنّ ميزان الإمامة لا يخضع للاعتبارات التي تسيطر على ذهنياتكم في مسألة التقويم.
من رسائل الإمام الرضا(ع) إلى ولده الجواد(ع)
عندما كان الإمام الرضا(ع) في خراسان، والإمام الجواد(ع) في المدينة، كتب إليه: "بسم الله الرحمن الرحيم، أبقاك الله طويلاً وأعاذك من عدوِّك يا ولدي، فداك أبوك، قد فسّرت لك مالي وأنا حيٌّ سويٌّ، رجاء أن ينمّيك الله بالصلة لقرابتك وموالي موسى وجعفر (الكاظم والصادق)، وقال الله: {مَن ذا الذي يُقرضُ الله قرضاً حسَناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة}[البقرة:245]، وقال: {لينفق ذو سَعَةٍ من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله}[الطلاق:7]، وقد أوسع الله عليك كثيراً يا بنيّ، فداك أبوك، لا تستر دوني الأمور لحبِّها فتخطىء حظَّك والسلام"(9).
إنَّ هذه الرسالة تريد للإمام الجواد(ع) وهو في هذه السنّ المبكرة أن يتحمّل مسؤولية قرابته بالصلة، تأكيداً لصلة الرحم وممارسته لدوره في القيام مقام أبيه في غيبته عن المدينة، وأن يتابع له الأخبار لإرسالها إليه، ونلاحظ قوله(ع): "فداك أبوك" التي تُوحي بعمق المحبة والعاطفة الأبويّة، لا سيما وأنَّ الإمام الجواد(ع) كان وحيده الذي يملأ شغاف قلبه.
وفي رسالة له أيضاً: "يا أبا جعفر، بلغني أنَّ الموالي إذا ركبتَ أخرجوك من الباب الصغير، وإنَّما ذلك من بخلٍ بهم لئلاّ ينال منك أحدٌ خيراً، فأسألك بحقّي عليك، لا يكن مدخلك ومخرجُك إلاَّ من الباب الكبير، وإذا ركبت فليكن معك ذهبٌ وفضّةٌ، ثم لا يسألك أحدٌ إلاّ أعطيته، ومن سألك من عمومتك أن تبرّه فلا تُعطه أقلَّ من خمسين ديناراً والكثير إليك، ومَن سألك من عمّاتك فلا تعطها أقلَّ من خمسةٍ وعشرين ديناراً والكثير إليك، إنّي أريد أن يرفعك الله، فأنفق ولا تخشَ من ذي العرش إقتاراً"(10).
وهذه الرسالة تؤكّد على الإمام الجواد(ع) ألاّ يخضع للمحيطين به من الخدم والأتباع الذين كانوا يتعقّدون من سؤال الناس، ولا سيما الأقرباء له، في حاجاتهم، حتى يعزلوه عن المجتمع ويبعدوه عن العلاقة الإنسانية بأفراده مما يحتاجه في موقع إمامته المستقبليّ، فأراد له أن يتمرّد على هؤلاء الموالي المحيطين به، وينفتح على الناس بالعطاء من موقع ثقته بالله الذي يعوّض على المنفقين ما أنفقوه من المال ويرفع درجتهم عنده وعند الناس.
مسؤوليّات الإمامة وتوجيهاتها
ورغم صغر سنِّ الإمام الجواد(ع)، والذي عاش حوالي الخمسة والعشرين سنة، فقد روى عنه جمعٌ من العلماء، وقد عدّدهم السيد الأمين رحمه الله فقال: "قال الخطيب (البغدادي) في تاريخ بغداد: أسند محمد بن علي (الجواد) الحديث عن أبيه (الرضا).. وفي المناقب: كان بوّابه عثمان بن سعيد السمّان، ومن ثقاته أيوب بن نوح بن درّاج الكوفي، وجعفر بن محمد بن يونس الأحول، والحسين بن مسلم بن الحسن، والمختار بن زياد العبدي البصري، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب الكوفي، ومن أصحابه شاذان بن الخليل النيسابوري، ونوح بن شعيب البغدادي، ومحمد بن أحمد المحمودي، وأبو يحيى الجرجاني، وأبو القاسم إدريس القمّي، وعلي بن محمد، وهارون بن الحسن بن محبوب، وإسحاق بن إسماعيل النيسابوري، وأبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، وأبو علي بن بلال، وعبد الله بن محمد الحصيني، ومحمد بن الحسن بن شمون البصري. وقال (صاحب المناقب) في موضع آخر: وقد روى عنه المصنفون نحو أبي بكر أحمد بن ثابت في تاريخه، وأبي إسحاق الثعلبي في تفسيره، ومحمد بن منده بن مهربذ في كتابه"(11).
وهكذا انطلق الإمام الجواد(ع) يعيش مع أصحابه ومع الناس من حوله مسؤوليّة الإمامة في توجيه النّاس وفي تعويدهم على التسامح والانفتاح حتى مع الذين يختلفون معه في الرأي، لا سيما إذا كانوا من الأقرباء.. وقد كتب شخصٌ إليه وقال له: إنَّ أبي ناصب من النواصب خبيث الرأي يبغضكم ويسبُّكم ويعاديكم، وقد لقيت منه شِدّة وجهداً، فرأيك في الدعاء لي وما ترى ـ جُعلت فداك ـ أفترى أن أكاشفه أو أداريه؟ فكتب إليه الإمام الجواد(ع): "قد فهمت كتابك وما ذكرته من أمر أبيك، ولست أدع الدعاء لك إن شاء الله، والمداراة خيرٌ من المكاشفة ـ يعني ما دام أنَّه أبوك فحاول معه باللطف والحسنى ـ فلعله يميل إليك، وإلى ما أنت فيه بعد ذلك، ومع العُسر يسرٌ، فاصبر فإنَّ العاقبة للمتقين، ثبّتك الله على ولاية مَن تولّيت، نحن وأنتم في وديعة الله الذي لا تضيع ودائعه"(12)، ويقول هذا الرجل إنَّ أباه بعد ذلك انفتح عليه وأصبح لا يخالفه في أيِّ شيء من أموره، وذلك بفضل دعاء الإمام وتوجيهه له.
ويروي بعض أصحابه وهو: "أبو هاشم الجعفري" يقول: "سمعت أبا جعفر يقول: إنَّ في الجنّة باباً ـ والذي يحبُّ الجنّة فليقرأ هذه الكلمة جيّداً وليعمل بها ـ يُقال له المعروف، لا يدخله إلاّ أهل المعروف". فحمدت الله في نفسي ـ فالظاهر أنَّ هذا الرجل كان وجيهاً يقضي حوائج الناس، وفرحت بما أتكلّف من حوائج الناس، فنظر إليّ وقال لي: نعم ـ وكأنّه عرف ما في نفسه ـ تمّ على ما أنت عليه، فإنّ أهل المعروف في دنياهم هم أهل المعروف في الآخرة"، فإذا كنت من أهل المعروف في الدنيا، فإنَّ الله يجعلك من أهل المعروف الذين يدخلون من باب "المعروف" إلى الجنّة.
وقد ورد عن الصدوق بإسناده عن علي بن مهزيار قال: "قلت لأبي جعفر الثاني (الجواد)(ع): قوله عزَّ وجلّ: {والليلِ إذا يغشى* والنّهارِ إذا تجلّى} [الليل:1ـ2]، وقوله عزَّ وجلّ: {والنّجمِ إذا هوى} [النجم:1]، وما أشبه هذا، فقال: إنَّ الله عزَّ وجلّ يُقسم من خلقه بما يشاء، وليس لخلقه أن يُقسموا إلا به عزَّ وجلّ"(13).
وعن الكليني بسنده إلى عثمان بن سعيد من أهل همدان عن أبي ثمامة، قال: "قلت لأبي جعفر الثاني(ع): إنّي أريد أن ألزم مكّة أو المدينة وعليَّ دَيْنٌ، فما تقول؟ فقال: ارجع فأدّه إلى مؤدي دَيْنك وانظرْ أن تلقى الله عزَّ وجلَّ وليس عليك دَيْن، إنَّ المؤمن لا يخون"(14).
إنَّ الإمام الجواد(ع) يؤكّد بأنَّ مجاورة مكّة والمدينة لا تبرّر لهذا الإنسان أن يترك دَيْنَه بدون وفاء، لأنَّ ذلك يمثّل خيانة، والمؤمن لا يخون.
وفي توجيهه(ع) لطبيعة الاستماع إلى الآخرين والانتباه جيداً إلى ما يقولون وما يطرحون من أفكار ومفاهيم ومبادىء، يقول(ع): "من أصغى إلى ناطق فقد عبده ـ فعندما تستغرق في كلام متكلّم بحيث تشدّ كل فكرك وقلبك إليه، فهذا نوع من العبادة ـ فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عبد الله ـ فهو عندما يتحدث إليك عمّا قال الله ورسوله، فأنت تعبد الله بإصغائك إلى هذا الناطق، لأنك تنجذب إلى كلام الله ورسوله ـ وإن كان الناطق ينطق على لسان إبليس فقد عبد إبليس"، فيتحدث بالفتنة والجريمة والخطايا والشر، حتى يثير الناس ويوجّههم إلى ما لا يرضي الله.. لذلك، عندما تنجذبون إلى أيّ خطيب، فعليكم أن تعرفوا من يمثل هذا الخطيب؟ هل يمثّل كلام الله أو أنه يمثّل كلام الشيطان؟
وفي رواية عنه(ع) عن خصال المؤمن، يقول(ع): "المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال: توفيق من الله، وواعظ من نفسه ـ وذلك بأن يفيض عليه من ألطافه بما يفتح عقله، ويغني قلبه، ويأخذ به في خط الهداية، ليملك الوعي والاتزان والاستقامة، فيحاول أن يحاسب نفسه، ويفكر في ما مضى عليه من الزمان؛ هل ما مضى عليه خير أم شر؟ فإن كان خيراً فإنَّه يزداد منه، وإنْ كان شرّاً فإنَّه يُقلع عنه، ولا بدَّ لهذه المسألة من المزيد من الموضوعيّة العقلانية التي تدفعه إلى التمرّد على هواه، وإلى وعي الواقع المحيط به في حساب السلبيّات والإيجابيات على مستوى المصير ـ وقبول مَنْ ينصحه". هناك أناسٌ يأتون إليك لينصحوك في أمر دينك ودنياك، ويبيّنوا لك أخطاءك وليرشدوك إلى الصراط المستقيم، فعليك أن تقبل نصيحة مَنْ ينصحك وتعظ نفسَك بنفسك وتطلب التوفيق من الله.
حتى لا تكون عدوّاً لله
ثم يقول(ع): "لا تكن ولياً لله في العلانية وعدوّاً له في السرّ"، بحيث تكون أمام النّاس مؤمناً خيّراً تحمل "السبحة" بيدك وتسبِّح الله، ولكن إذا خلوت مع نفسك فإنك تصبح عدوّاً لله من خلال أعمالك التي لا يرضاها الله تعالى. ومن هنا، ينبغي للإنسان أن يكون الصادق في علاقته بالله، بحيث تلتقي علانيته بسرّه فلا تنفصل عنها، وذلك بالازدواجيّة بين السرّ والعلن، لأنَّ ذلك يوحي بفقدان التوازن ويؤدي به إلى خسارة المصير، لأنَّه يضع نفسه في دائرة النفاق، وهذا ما يجعله في موقع سخط الله الذي يعامل الناس على واقع أمورهم في الباطن الذي تتمثّل فيه حقيقة الشخصيّة.
وورد عنه(ع): "كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة"، بحيث يدافع عنهم ويحفظ أسرارهم ويبرّر لهم خيانتهم.. فهذه من أعظم الخيانة، لأنَّه لا فرق بين من يخون وبين من يكون قوّة للخائن، لأنَّ الخيانة تتمثّل في الذهنية الخيانيّة التي تتجاوز السلوك الإنساني في نفسه إلى الامتداد في الواقع بمساعدة الخائنين.
ويعلّمنا الإمام(ع) عندما نتحرّك مع الزمن ألا ننسب الأشياء إلى الزمن، فقد جاء أحد الأشخاص إلى الإمام عندما تزوّج »أم الفضل« بنت المأمون فقال له: "يا مولاي، لقد عظمت علينا بركة هذا اليوم، فقال(ع): يا أبا هاشم، لقد عظمت بركة الله علينا فيه ـ فلا تنسب البركة إلى اليوم، فإنَّ اليوم لا يملك أن يؤخِّر أو يقدّم، ولكن إذا جاءتك البركات في أيِّ يومٍ وزمان فانسبها إلى الله تعالى، لأنَّه هو الذي يعطي ويمنع ـ فقال الرجل: نعم يا مولاي، فما نقول في اليوم؟ قال(ع): تقول فيه خيراً يصيبك"، عليك أن تتفاءل بالأيام، وليكن تفاؤلك من خلال ثقتك بالله تعالى الذي هو عند حُسن ظنِّ عبده المؤمن، فإذا ظنَّ به خيراً أعطاه الخير ثواباً منه لحسن ظنِّه به.
الغضب لله في مواجهة الانحراف
وفي روايته عن أمير المؤمنين عليٍّ(ع) أنَّه قال لأبي ذر عندما أُبعد من المدينة، وهو يريد أن يهوِّن عليه مشكلته وبلاءه وابتعاده عن مدينة رسول الله(ص) التي قضى فيها كلَّ عمره الإسلاميّ: "إنما غضبت لله عزَّ وجلّ فارْجُ مَن غضبت له ـ إنَّك يا أبا ذرّ لم تغضب لنفسك، لتكون المسألة مسألة شخصيّة تعيش فيها حالة اليأس والقنوط والإحباط، ولكنك غضبت لله، والله هو المهيمن على الأمر كلِّه، غضبت لأنَّك رأيت أنَّ الله يُعصى فنهيت عن المنكر، ورأيتَ الله لا يُطاع فأمرت بالمعروف.. ولذا، فإنَّ القضية هي مع الله، فارْجُ مَن غضبت له..
وهذا درسٌ لكلِّ إنسان مصلح عامل عندما يضطهده الناس المنحرفون أو الظالمون، فإنَّه عندما يغضب لله، سينال منه التعسّف والقسوة والتشويه من خلال غضبه لله، ولذا، عليه ألاَّ يسقط، بل عليه أن يرجوَ الله سبحانه ـ إنَّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ـ الفرق بينك وبين هؤلاء، أنهم انطلقوا في دنيا انحرفوا فيها عن الخط، وكنت تريد أن تعيدهم إلى الخطِّ، ولو أعدتهم إلى خطِّ الاستقامة بعيداً عن خطِّ الانحراف لفقدوا كثيراً من امتيازاتهم الماديّة والمعنوية التي صنعوها لأنفسهم، أما أنت، فلم تنطلق من دنيا تريدها أو من منصب فقدته، أو من مال لم تحصل عليه، وإنَّما انطلقت من خوفك على الدين أن ينحرف به الناس عن الخطِّ المستقيم.. ثم أراد له(ع) أن يفتح له ولكلِّ العاملين في سبيل الله كلَّ أبواب الأمل، فقال(ع): ـ لو أنَّ السموات والأرض كانتا على عبد رتقاً ثم اتّقى الله عزَّ وجلَّ لجعل الله منها مخرجاً ـ ثم قال له(ع) والكلمة لنا جميعاً ـ : لا يؤنسنّك إلاَّ الحقّ ولا يوحشنّك إلاَّ الباطل".
إنَّ أهل الحقّ عندما ينفضُّ الناس عنهم، فإنّهم لا يستوحشون، لأنَّ الحقّ هو الأنيس لهم، والله هو الحقّ، وما يدعون من دونه هو الباطل، أما إذا عاش الإنسان الباطل، فإنَّه لو كان كلُّ الناس معه، فإنَّه يعيش الوحدة، لأنَّ الباطل عندما يحيط به، فإنَّه يعيش الغربة القاتلة.
في عين الله رغم كلِّ التحديات
وهذا أمرٌ لا بدَّ لكلِّ العاملين والمجاهدين في سبيل الله أن يتمثّلوه في أنفسهم، وذلك بأن يكون الحقُّ هو الأنيس الذي يأنسون به، وأن يكون الباطل هو الوحشة التي يستوحشون منها، حتى ينطلقوا في أملٍ كبير في الحياة، وهو ما كان أمير المؤمنين عليٌّ(ع) يقوله: "لا يزيدني كثرةُ الناس حولي عزّةً ولا تفرّقهم عني وحشة"(15). وكان(ع) يقول للنّاس كلِّهم: "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله"(16). ونستوحي من موقف الإمام علي(ع) ـ حسب الرواية ـ في تحدّيه للسلطة بالوقوف مع أبي ذرّ الغفاري في دعمه له بالرغم من نهي السلطة عن ذلك، ما يُوحي إلينا بأن نقف مع المضطهدين من أهل الحقّ عندما يتعرّضون للاضطهاد من السلطة.
وهكذا نجد أنَّ الإمام الجواد(ع) قال له رجلٌ: "أوصني، فقال: أوَتقبل؟ قال: نعم، قال(ع): توسّد الصبر ـ عليك أن تنام على فراش الصبر، بحيث إذا واجهتك الحياة في تحدياتها وبلائها فلا تسقط ـ واعتنق الفقر ـ فإذا داهمك الفقر فلا تعمل على أساس أن تسقط، بل اصبر أمام تحديات الألم والحرمان حتى يفرجها الله تعالى ـ وارفض الشهوات ـ لأنَّها تقودك إلى الابتعاد عن الحق وفقدان التوازن ودخول النّار ـ وخالف الهوى ـ فلا تجعل كلَّ طموحك في الحياة أن تحقّق هوى نفسك، ولكن ادرس هوى نفسك، فإن كان يصدُّك عن الحقّ وينحرف بك عن الله تعالى فخالفه ـ واعلم أنَّك لن تخلو من عين الله".
في أيِّ مكان كنت أنت في رقابة الله، وأنت في الوقت نفسه برعاية الله، لذلك تحرّك في الحياة على أساس أن تراقب نفسك في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، لأنَّ الله يراقبك، وإذا جاءك اليأس والإحباط، فاعلم أنَّك بعين الله ورعايته، فانظر كيف يكون موقفك ومسيرك.
وفي حادثة حصلت مع الإمام الجواد(ع)، أنَّه حُمِل له بزٌّ ـ وهو القماش ـ له قيمةٌ كبيرة، فسُلِب في الطريق، فكتب إليه الذي كان يحمله ليعلمه بذلك، فوقّع بخطه الشريف: "إنَّ أنفسنا وأموالنا من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودَعة ـ فأنفسنا التي خلقها الله هي عارية مستعارةٌ أودعها الله عندنا إلى وقت معلوم، وأموالنا أيضاً أعارنا الله إيّاها في فترةٍ من عمرنا ـ يُمتّع بما متّع منها في سرور وغبطة ـ فما دام أنَّ الله تعالى قد مهّل لنا فيها، فسوف نستمتع بنفوسنا وأموالنا في غبطةٍ ومصلحة ـ ويُؤخَذ ما أُخذ منها في أجرٍ وحسبة ـ وعندما يأخذها الله، فإنَّنا نحتسبها عند الله ليعطينا الأجرَ في ذلك ـ فمن غلب جزعه على صبره حبط أجره ونعوذ بالله من ذلك"(17).
وفي هذا الحديث عظة للمؤمن أن لا يعيش السقوط النفسي والحزن القلبي أمام الخسارة المادية، بل أن يرتفع بوعيه للحياة أنها قد تحمل للإنسان الربح من خلال الظروف الملائمة، كما قد تحمل له الخسارة التي تحدث بسبب الظروف القلقة، فيتقبل هذا أو ذاك من دون انفعال خارج عن حدود التوازن، بل يلجأ إلى إيمانه بالله الذي يوحي إليه بأن المال عارية في يد الإنسان من الله وموهبة إلهية له، وأن الله قد يستردها بين وقت وآخر تبعاً للسنن الكونية والتاريخية التي أودعها الله في حياة الإنسان في تأثيرها السلبي أو الإيجابي عليه، الأمر الذي يحقق له التوازن الشعوري أمام الأحداث، على هدى الآية الكريمة في قوله تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم..} [الحديد:23]، وهذا هو الذي يجعله في موقف الإنسان الصابر الذي يلجأ إلى الله في إيمانه ليمنحه قوة الصبر، لا الإنسان الجازع الذي يعيش الضعف في نفسه بما يجعله يسقط أمام التحديات، وهو ما لا يريده الله للإنسان الذي يتحمل مسؤولية الحياة في كل قضاياه في حاجته إلى قوة الإرادة ووعي الواقع وصلابة الموقف.
تعليمه وتوجيهه لأصحابه
كتب إلى أحد أصحابه وكان متولياً لأعماله (في نشر أفكار أهل البيت وجمع الحقوق الشرعية): "بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي (علي بن مهزيار الأهوازي) أحسن الله جزاك وأسكنك جنّته، ومنعك من الخزي في الدنيا والآخرة، وحشرك الله معنا، يا عليّ، قد بلوتُك وخيّرتك في النصيحة والطاعة والخدمة والتوقير والقيام بما يجب عليك، فلو قلت إنّي لم أرَ مثلك، لرجوت أن أكون صادقاً، فجزاك الله جنّات الفردوس نُزُلاً، فما خفي عليّ مقامك ـ فهو(ع) يتابع أعمال مواليه حتى وهم في الأمصار البعيدة ـ ولا خدمتك في الحرّ والبرد، في الليل والنهار، فأسأل الله إذا جمع الخلائق للقيامة أن يحبوك برحمة تغتبط بها إنَّه سميع الدعاء"(18).
إنّ هذا الكتاب يدلّ على أنّ الإمام الجواد(ع) كان في أسلوبه التشجيعي للمخلصين من أصحابه، يؤكد لهم الثقة بهم والتقويم لأعمالهم ولدرجاتهم في الإخلاص والنصيحة والطاعة، ليزدادوا بذلك إخلاصاً، وليشعروا بأنّ القيادة الإسلامية الإمامية غير بعيدةٍ عن كلّ ممارساتهم الصحيحة الخالصة، وهذا ما ينبغي للقياديين أن ينهجوه ويقتدوا به في عملية إيحاء بالتقدير للقاعدة في متابعاتها ومبادراتها الخيّرة.
تشجيع الإمام الجواد(ع) على الإحسان
يطلب منه أحد الموالين أنَّ والياً للعباسيِّين يتولّى أهل البيت(ع)، وكان هذا الشخص ممن أثقل عليهم دفع الخراج للسلطة، فطلب من الإمام الجواد أن يكتب إليه ليخفّف عنه كونه من "محبّيكم"، فأخذ القرطاس وكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فإنَّ موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً، وإنَّ لك من عملك ما أحسنتَ فيه، فأحسنْ إلى إخوانك، واعلم أنَّ الله عزَّ وجلّ سائلُك عن مثاقيل الذرّ والخردل"(19)
إن هذه الرسالة توحي بأنّ وصيّة الإمام لهذا الوالي بالإحسان إلى إخوانه لم تقتصر على الجانب الشخصي في الوصية، بل تعدّتها إلى المنهج الذي لا بد للوالي أن يتبعه في موقع ولايته في الإحسان في عمله، فلا يكون الموقع السلطوي لديه شأناً شخصياً يزهو به وامتيازاً يرتفع به عن الناس، بل مسؤولية في ممارسته الإحسان في عمله بكلِّ الوسائل والأساليب التي يجد فيها إخوانه والناس الآخرون حركة الإحسان إليهم في ذلك، بما يفرضه الموقع من خدمتهم، كما أنّ الوصية أرادت له أن يكون دقيقاً في حساباته في ما اؤتمن عليه من خلال إيمانه بأنّ الله سوف يسأله عن أقلّ الأشياء حتى عن مثاقيل الذرّ والخردل، كتعبير عن أصغر الأمور في حساب المسؤولية.. وهذا ما يوحي بأنّ الإمام الجواد(ع) كان يتابع شيعته الذين يتولّون مسؤوليّة رسميّة في مواقعهم في سلطة الخلافة، ليوجّههم إلى أن يكونوا النموذج الأمثل للمؤمن المسؤول في الإحسان في عمله وفي محاسبة نفسه وفي الإحسان إلى إخوانه.
المصادر:
(1) كشف الغمة، ج:4، ص:187.
(2) الإرشاد للشيخ المفيد، ص:297.
(3) إثبات الوصيّة، ص:311.
(4)الإرشاد للشيخ المفيد، ص:281 وما يليها ـ طبعة بيروت.
(5)كفاية الأثر، ص:324.
(6) الإرشاد، ص:279.
(7) الإرشاد، ص:276.
(8) الكافي، ج:1، ص:233ز
(9) تفسير العياشي، ج:1، ص:131.
(10)عيون أخبار الرضا، ج:2، ص:8.
(11)في رحاب أئمة أهل البيت، ج:4، ص:169 ـ 170.
(12)بحار الأنوار، ج:5، ص:55.
(13)الغيبة، ج:3، ص:376.
(14)الكافي، ج:5، ص:94.
(15)نهج البلاغة، الكتاب:36.
(16)نهج البلاغة، الخطبة:201.
(17)تحف العقول، ص:479.
(18)كتاب الغيبة، ص:226.
(19)الكافي، ج:5، ص:111.
اللهم صل على محمد وعلى آله أجمعين
الإمام محمد بن علي الجواد(ع)
الإمامة المعجزة
من أئمة أهل البيت(ع) الإمام محمد بن علي الجواد(ع)، ونحن إذ نتحدّث عن حياته(ع)، فلكي نتعلّم كيف نعيش الإسلام من خلال هذه الصفوة الطيّبة من أهل البيت(ع)، وكيف نواجه حاضرنا من خلال الخطوط المضيئة في ماضينا، من أجل أن نصنع مستقبلنا جميعاً على أساس وحي الله وتعاليم رسوله(ص) التي انطلق بها أئمة أهل البيت(ع) الذين جسّدوا في كلماتهم وتعاليمهم وأعمالهم وسيرتهم كلَّ ما انطلق به الكتاب وما تحرّكت به السُّنّة.
الإمام الجواد(ع): معجزة الإمامة
والإمام الجواد(ع)، هو الذي انفتح على خطِّ الإمامة مبكراً، بحيث يمكن أن يَصْدُق عليه ما صدق على "يحيى"(ع) في نبوّته {واتَيْناهُ الحُكْمَ صبيّاً}[مريم:12]، وعاش بعد وفاة أبيه الإمام عليّ بن موسى الرضا(ع) مسؤوليّة الإمامة، حيث يمكننا أن نسمّيه بـ"الإمام المعجزة"، لأنَّ إمامته انفتحت على كلِّ الواقع وهو بعدُ في سنِّ الصِّبا، حيث حيّر العقول بعلمه الوافر وإجاباته عن أعقد المسائل، وقدرته على تبيان حكم الله في شريعته..
وقد استطاع(ع) منذ حداثة سنِّه أن يُظهر ثبات الإمامة وصلابتها، حيث يروي محمد ابن طلحة فيقول: "لما تُوفّي والده الرِّضا(ع) وقدم الخليفة المأمون إلى بغداد بعد وفاته (أي الرِّضا) بسنة، اتفق أنَّه خرج إلى الصَّيد، فاجتاز بطرف البلد في طريقه، والصبيان يلعبون ومحمد (الجواد) واقفٌ معهم، وكان عمره يومئذٍ إحدى عشرة سنة فما حولها. فلما أقبل المأمون انصرف الصبيان هاربين، ووقف أبو جعفر محمد(ع) فلم يبرح مكانه، فقرب منه الخليفة، فنظر إليه، وكأنَّ الله عزَّ وعلا ألقى عليه مسحةً من قبول، فوقف الخليفة، وقال له: يا غلام، ما منعك من الانصراف مع الصبيان؟ فقال له محمد (الجواد) مسرعاً: "يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطريق ضيقٌ لأوسّعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظني بك حَسَنٌ إنّك لا تضرُّ من لا ذنب له، فوقفت"(1).
إنّ هذه الكلمات العاقلة المتزنة تدلّ على وعي عميق للأمور التي تترك تأثيرها على الإنسان في مواجهته للسلطة لتدفعه إلى الخوف والهرب منها، فلماذا يخاف إذا لم تكن له جريمة يعاقب عليها؟ ولماذا يتراجع عن موقعه في الطريق إذا كان يتسع لمرور الآخرين من دون أن يضيّق عليهم بمكانه ليزول عنها؟! وإذا كان الحاكم متوازناً عادلاً في أحكامه وعلاقته بالناس، فلماذا يخشى منه إذا كان بريئاً من كل ذنب؟! هذا بالإضافة إلى شجاعة الموقف وجرأة الخطاب وصلابة الإرادة، مما لا يصدر من صبي يختزن عقل الصبا في شخصيته، بل إن ذلك يكشف عن عقل مفكر واسعٍ منفتح على الواقع من خلال ملكة قدسية ربانية.. وهذه هي الملكة التي فرضت احترامه على المأمون وعلى الناس المحيطين به، كما نرى ذلك فيما بعد.
وممن روى النصّ عن أبي الحسن الرضا(ع) على ابنه أبي جعفر الجواد(ع) بالإمامة، "عليّ بن جعفر وصفوان بن يحيى ومعمر بن خلاد والحسين بن بشّار وابن أبي نصر البزنطي وابن قياما الواسطي والحسن بن الجهم وأبو يحيى الصنعائي والخيرائي ويحيى بن حبيب الزيّات في جماعة كثيرة يطول بذكرهم الكتاب"(2). وجاء في تاريخ المسعودي بإسناده عن محمد بن الحسين بن أسباط، قال: "خرج عليّ أبو جعفر، فجعلت أنظر إليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فقال لي: يا علي بن أسباط، إنَّ الله احتجَّ في الإمامة بمثل ما احتجَّ به في النبوّة، فقال: {وآتيناه الحُكمَ صبيّاً} وقال لما بلغ أشدَّه: {آتيناهُ حكماً وعلماً}.. فقد يجوز أن يُؤتى الحكم صبياً ويؤتاه ابن أربعين"(3).
وروى الشيخ المفيد في كتاب (الإرشاد): "وكان المأمون قد شُغِف بأبي جعفر(ع) لِما رأى من فضله من صِغَر سنِّه، وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوِه فيه أحدٌ من مشايخ أهل الزمان، فزوّجه ابنته أمَّ الفضل وحملها(ع) معه إلى المدينة، وكان متوفِّراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قَدْره. روى الحسن بن محمد بن سليمان، عن عليِّ بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه، عن الريّان بن شبيب قال: لما أراد المأمون أن يزوّج ابنته أمَّ الفضل أبا جعفر محمد بن عليٍّ(ع)، بلغ ذلك العباسيّين، فَغَلُظَ عليهم واستكبروه، وخافوا أن ينتهيَ الأمر معه إلى ما انتهى مع الرِّضا(ع) (بأن أعطاه ولاية العهد)، فخاضوا في ذلك، واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه، فقالوا له: ننشدُك اللهَ يا أمير المؤمنين، ألاّ تُقيمَ على هذا الأمر الذي قد عزمتَ عليه من تزويج ابن الرِّضا، فإنَّا نخاف أن يَخرج به عنا أمرٌ قد ملّكناه الله، ويُنْزَع منا عِزٌّ قد ألبسناه اللهُ، وقد عرفتَ ما بيننا وبين هؤلاء القوم (من بني هاشم) قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون (العباسيّون) قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنا في وهلةٍ من عملك مع الرضا ما عملت، حتى كفانا الله المهمَّ من ذلك، فاللهَ الله أن ترُدَّنا إلى غمٍّ انحسر عنّا، واصرِفْ رأيك عن ابن الرضا، واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يَصْلُح لذلك دون غيره.
فقال لهم المأمون: أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب، فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم، وأمّا ما كان يفعله مَن كان قبلي بهم، فقد كان قاطعاً للرحم، أعوذ بالله من ذلك، وواللهِ ما ندمتُ على ما كان مني من استخلاف الرّضا، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى، وكان أمر الله قَدَراً مقدوراً، وأما أبو جعفر محمد بن عليّ فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صِغَر سنِّه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، فيعلموا أنَّ الرأي ما رأيتُ فيه.
فقالوا: إنَّ هذا الصبيَّ وإن راقك منه هَدْيُه، فإنَّه صبيٌّ لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدّب ويتفقّه في الدنيا، ثم اصنع ما تراه بعد ذلك، فقال لهم: ويحكم، إنني أعْرَفُ بهذا الفتى منكم، وإنَّ هذا من أهل بيتٍ عِلمُهم من الله وموادّه وإلهامه، لم يزل آباؤهُ أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدِّ الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفتُ من حاله.
قالوا له: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فَخَلِّ بيننا وبينه لِنَنْصِبَ من يسأله بحضرتك عن شيءٍ من فقه الشريعة، فإن أصابَ في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراضٌ في أمره، وظهر للخاصة والعامة سديدُ رأي أمير المؤمنين، وإن عجز عن ذلك فقد كُفينا الخطب في معناه.
فقال لهم المأمون: شأنكم وذاك متى أردتم، فخرجوا من عنده وأجمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم، وهو يومئذ قاضي القضاة، على أن يسأله مسألةً لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموالٍ نفيسة على ذلك، وعادوا إلى المأمون، فسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك.
واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه، وحضر معهم يحيى بن أكثم، وأمر المأمون أن يُفرَش لأبي جعفر(ع) دَسْتٌ (أي جانب من البيت) وتُجعل له فيه مِسْوَرَتان (متكأ)، فَفُعِل ذلك، وخرج أبو جعفر(ع)، وهو يومئذٍ ابن تسع سنين وأشهر، فجلس بين المسورتين، وجلس يحيى ابن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم (أخذ كلٌّ مكانه حسب رتبته الرسميَّة)، والمأمون جالسٌ في دَسْتٍ متصلٍ بدست أبي جعفر(ع).
فقال يحيى بن أكثم للمأمون: يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك، فأقبل عليه يحيى بن أكثم، فقال: أتأذن لي ـ جُعلت فداك ـ في مسألة؟ فقال له أبو جعفر(ع): "سل إن شئت" قال يحيى: ما تقول في مُحْرِم "الإنسان أثناء الإحرام في الحجّ) قَتلَ صيداً؟
فقال له أبو جعفر: "قتله في حلٍّ أو حَرَم؟ عالماً كان المُحْرِم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حُرّاً كان العبد أم عبداً؟ صغيراً كان أم كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيدُ أم من غيرها؟ من صِغار الصيد كان أم من كبارها؟ مُصِرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتلُه للصيد أم نهاراً؟ مُحرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان مُحرماً".
فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجزُ والانقطاع، ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره، فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم نظر إلى أهل بيته، وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟
ثم أقبل على أبي جعفر(ع)، فقال له: أتخطب يا أبا جعفر؟ قال: "نعم يا أمير المؤمنين"، فقال له المأمون: أُخْطُبْ، جُعلت فداك لنفسك، فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجُك أمَّ الفضل ابنتي وإن رَغَم قومٌ لذلك. ثم قال له المأمون: فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألةٍ كما سألك. فقال أبو جعفر ليحيى: "أسألك". قال: ذلك إليك، فإن عرفتُ جوابَ ما تسألني عني وإلاَّ استفدتُه منك.
فقال أبو جعفر(ع): "خبِّرْني عن رجلٍ نظر إلى امرأةٍ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار حُلّت له، فلما زالت الشمس حَرُمت عليه، فلما كان وقت العصر حُلّت له، فلما غربت الشمس حَرُمت عليه، فلما دخل عليه وقت العشاء بالآخرة حلّت له، فلما كان انتصافُ الليل حَرُمَت عليه، فلما طلع الفجر حلّت له، ما حالُ هذه المرأة، وبماذا حلّت له وحرُمت عليه؟".
فقال له يحيى: لا والله ما أهتدي إلى جواب هذه المسألة، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تُفيدناه.
فقال له أبو جعفر(ع): "هذه أمَةٌ لرجلٍ من الناس، نظر إليها أجنبيٌّ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلما كان الظهر أعتقها فَحَرُمَت عليه، فلما كان وقتُ العصر تزوّجها فحلّت له، فلما كان وقتُ المغرب ظاهر منها فَحرُمت عليه، فلما كان وقتُ العشاء الآخرة كفّر عن الظِهار فحلّت له، فلما كان نصف الليل طلّقها واحدةً فَحَرُمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلّت له".
فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم أحدٌ يجيب عن هذه المسألة بمثلِ هذا الجواب أو يعرفُ القول في ما تقدّم من السؤال؟
قالوا: لا والله، إنَّ أمير المؤمنين أعلمُ وما رأى"(4).
وهذا ما يجعلنا نقول إنَّه "الإمام المعجزة"، لأنَّه بهذا العلم الواسع الذي اختصّه الله به وألهمه إيّاه، كان معجزةً في ذلك حتى صَغُر كبار علماء زمانه أمامه.
وإننا نسجّل عدة ملاحظات في هذه الرواية:
الملاحظة الأولى: أن بني العباس كانوا حريصين على بقاء الخلافة فيهم، ولذلك كانوا شديدي الحساسية بأية علاقة بين الخلافة وبين أيّ شخص من أهل البيت(ع)، حذراً من أن تؤدي إلى التفاف الناس حوله من خلال هذه العلاقة، أو انفعال الخليفة بقيمته الروحية والعلمية التي قد تجتذبه إلى تأهيله للخلافة من بعده، كما حدث ذلك في الموقف من الإمام علي الرضا(ع).. وهذا ما واجه به المأمون قرابته، بأن عرّفهم قيمة أهل البيت وتميّزهم عليهم بالعلم والروحية والتقوى والقرب من الله، ما يجعلهم الأَوْلَى بالخلافة في عناصرها الحيوية المميزة، وتحدّث إليهم عن المظالم التي قام بها الخلفاء من قبله ضدّ أهل البيت مما لا يجوز القيام به على أساس العدل، ولذلك استعاذ بالله أن يفعل فعلهم في هذا الاتجاه، ثم أكّد موقفه من إعطاء ولاية العهد للإمام الرضا(ع) وإصراره عليه على أن يكون هو الخليفة لولا أنّ الإمام رفض ذلك.. وقد قدّر الله لهذا الأمر أن لا يتم بوفاته.
الملاحظة الثانية: أن موقف المأمون يدلّ على أن أهل البيت(ع) قد فرضوا أنفسهم على المجتمع بما يتميزون به من الصفات والفضائل، حتى على موقع الخلافة الذي لا يرى الأشخاص إلا من خلال علاقتهم بالمُلك الذي يحيط به، فلا ينظر بعين الموضوعية للأشياء، ما يجعل موقفه في دائرة العصبية الذاتية لا في دائرة النظرة العادلة، كما يدلّ على إنصاف المأمون في نظرته إلى الإمام الجواد(ع)، أو إحساسه بالحاجة إلى أن يتخلّص من الماضي القريب في تعامله مع الإمام الرضا(ع) في وفاته، بلحاظ ما يُنسب إليه من التسبب فيه.
الملاحظة الثالثة: أن الإمام الجواد(ع) انطلق في سعة علمه ليؤكّد للمجتمعين حوله في موقع التحدّي ممن يشير إليهم الناس بالمعرفة والإحاطة والموقع التنفيذي للحكم والقضاء في مركز السلطة، بأنه يملك العلم الذي لا يخطىء في فكر، والفقه الرحب الذي لا يضيق بمسألة بالرغم من صغر سنه الذي أوحى إليهم بأنه لا يملك تحليل الفكر أو الإجابة عن سؤال، وأنه إذا كان متّصفاً بالهدى والخُلق كنتيجةٍ لتربيته، فإنه لا يتّصف بالمعرفة العلمية التي تحتاج إلى المزيد من الوقت والدراسة الطويلة للحصول عليها.. فكانت المفاجأة الصدمة لهم أن تغلّب على أكبر قاضٍ في البلد بالرغم من اتفاقهم معه على تحضير المسائل الصعبة التي تكشف قلة علمه حسب زعمهم، وكانت الغلبة له في هذا الحوار، بحيث تحوّل السائل المتحدي إلى مسؤول لا يملك التوازن أمام تحدي الإمام(ع) له.
الملاحظة الرابعة: أن الأئمة من أهل البيت(ع) كانوا يقبلون التحدي ولا يضيقون به، فينفتحون على الحوار ويستجيبون للأسئلة التي تطرح عليهم في الحال من دون حاجة إلى وقتٍ يتأملون فيه، أو إلى دراسة يراجعون فيها الكتاب هنا وهناك.. ما يوحي بأنّ العلم لديهم يتسع لكل علامات الاستفهام في أذهان السائلين.. وهذا هو الذي يؤهّلهم للإمامة التي تملك موقع القيادة الذي لا يملكه الآخرون، كما جاء على لسان الخليل بن أحمد الفراهيدي في تقديمه الإمام علي(ع) على غيره بقوله: "احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل أنه أمام الكل". وهذا هو الدرس الذي ينبغي للقيادات الإسلامية أن تتمثّله في ساحة المواجهة الثقافية للقوى المضادة من المثقفين، وذلك بأن تملك العلم الواسع الذي يتيح لها القدرة على قبول التحدي في أيّ حوارٍ أو سؤال، حتى يؤكدوا الحجة في الموقف والغلبة في الصراع، من أجل إخضاع الآخرين للحق بالضغط العلمي الواسع.
حول حداثة سنّ الجواد(ع) وخلافته لأبيه
1 ـ جاء في الأحاديث عن عبد الله بن جعفر قال: دخلت على الرِّضا(ع) أنا وصفوان بن يحيى، وأبو جعفر(ع) قائمٌ قد أتى له ثلاث سنين، فقلنا له: جعلنا الله فداك، إنْ ـ وأعوذ بالله ـ حَدَثَ حَدَثٌ، فمن يكون بعدك؟ قال: ابني هذا ـ وأومأ إليه ـ فقلنا له: وهو في هذه السنّ؟ قال: نعم، وهو في هذه السنّ، إنَّ الله تبارك وتعالى احتجَّ بعيسى وهو ابنُ سنتين"(5).
2 ـ في الإرشاد: "أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمّد، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن الخيراني عن أبيه، قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن الرضا(ع) بخراسان، قال قائلٌ: يا سيدي، إن كان كونٌ فإلى مَن؟ قال: "إلى أبي جعفر ابني"، فكأنّ القائل استصغر سنَّ أبي جعفر(ع)، فقال أبو الحسن(ع): "إنَّ الله بعثَ عيسى بن مريم رسولاً نبيّاً صاحب شريعة مُبْتَدَأةٍ في أصغرَ من السنِّ الذي فيه أبو جعفر(ع)"(6).
3 ـ أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاّد قال: سمعت الرضا(ع) وذكر شيئاً (من علامات الإمام وأشباهه) فقال: "ما حاجتكم إلى ذلك، هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيّرته مكاني" وقال: "إنَّا أهلُ بيتٍ يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القُذّة بالقُذّة"(7).
ونلاحظ في هذه النصوص أنّ الإمام الرضا(ع) الذي كان يؤكّد مستوى الإمامة في شخصيّة الإمام الجواد(ع) وهو في السنّ المبكرة من عمره، أراد أن يبيّن للناس الذين يسألونه عن الإمام من بعده، أنّ في الإمامة عنصراً غيبياً لا يخضع للوسائل العادية المتعارفة لدى الناس، وأنّ عليهم أن يتمثَّلوا ذلك في الملكات القدسية في مستقبل أمره مما يتعرفون فيه الدليل على ذلك.
وجاء في الكافي بسنده عن محمد بن الحسن بن عمار قال: "كنت عند علي بن جعفر بن محمد جالساً بالمدينة، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما سمع من أخيه ـ يعني أبا الحسن ـ إذ دخل أبو جعفر محمد بن علي الرضا المسجد ـ مسجد رسول الله(ص) ـ فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء فقبّل يده وعظّمه، فقال له أبو جعفر: يا عم، اجلس رحمك الله، فقال: يا سيدي، كيف أجلس وأنت قائم، فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه، جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عم أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال: اسكتوا! إذا كان الله عزّ وجلّ ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهّل هذه الشيبة وأهَّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه أُنكر فضله؟ نعوذ بالله مما تقولون بل أنا له عبد"(8).
إنّ هذه الشهادة من الثقة الجليل علي بن جعفر ـ وهو مَن هو في فضله ووثاقته وكبر سنّه ـ تدل على أنّ إمامة الإمام الجواد كانت في موقع الوضوح والتسليم عند كبار بني هاشم، ولذلك كان تعظيمه له وتواضعه لمقامه الإمامي بكلمته "وأنا له عبد"، هي أكبر شاهد على ذلك.. أما أولئك الذين كانوا محيطين بعليّ بن جعفر، فقد لاحظوا المسألة من حيث كبر السن وتقدّم درجة النسب لأنه عم أبيه، ولكنه ردّ عليهم بأنّ القضية هي قضية اللطف الإلهي الذي أعطاه مركز الإمامة ففضّله عليه، ولم يعط ذلك له، كأنه يقول لهم إنّ ميزان الإمامة لا يخضع للاعتبارات التي تسيطر على ذهنياتكم في مسألة التقويم.
من رسائل الإمام الرضا(ع) إلى ولده الجواد(ع)
عندما كان الإمام الرضا(ع) في خراسان، والإمام الجواد(ع) في المدينة، كتب إليه: "بسم الله الرحمن الرحيم، أبقاك الله طويلاً وأعاذك من عدوِّك يا ولدي، فداك أبوك، قد فسّرت لك مالي وأنا حيٌّ سويٌّ، رجاء أن ينمّيك الله بالصلة لقرابتك وموالي موسى وجعفر (الكاظم والصادق)، وقال الله: {مَن ذا الذي يُقرضُ الله قرضاً حسَناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة}[البقرة:245]، وقال: {لينفق ذو سَعَةٍ من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله}[الطلاق:7]، وقد أوسع الله عليك كثيراً يا بنيّ، فداك أبوك، لا تستر دوني الأمور لحبِّها فتخطىء حظَّك والسلام"(9).
إنَّ هذه الرسالة تريد للإمام الجواد(ع) وهو في هذه السنّ المبكرة أن يتحمّل مسؤولية قرابته بالصلة، تأكيداً لصلة الرحم وممارسته لدوره في القيام مقام أبيه في غيبته عن المدينة، وأن يتابع له الأخبار لإرسالها إليه، ونلاحظ قوله(ع): "فداك أبوك" التي تُوحي بعمق المحبة والعاطفة الأبويّة، لا سيما وأنَّ الإمام الجواد(ع) كان وحيده الذي يملأ شغاف قلبه.
وفي رسالة له أيضاً: "يا أبا جعفر، بلغني أنَّ الموالي إذا ركبتَ أخرجوك من الباب الصغير، وإنَّما ذلك من بخلٍ بهم لئلاّ ينال منك أحدٌ خيراً، فأسألك بحقّي عليك، لا يكن مدخلك ومخرجُك إلاَّ من الباب الكبير، وإذا ركبت فليكن معك ذهبٌ وفضّةٌ، ثم لا يسألك أحدٌ إلاّ أعطيته، ومن سألك من عمومتك أن تبرّه فلا تُعطه أقلَّ من خمسين ديناراً والكثير إليك، ومَن سألك من عمّاتك فلا تعطها أقلَّ من خمسةٍ وعشرين ديناراً والكثير إليك، إنّي أريد أن يرفعك الله، فأنفق ولا تخشَ من ذي العرش إقتاراً"(10).
وهذه الرسالة تؤكّد على الإمام الجواد(ع) ألاّ يخضع للمحيطين به من الخدم والأتباع الذين كانوا يتعقّدون من سؤال الناس، ولا سيما الأقرباء له، في حاجاتهم، حتى يعزلوه عن المجتمع ويبعدوه عن العلاقة الإنسانية بأفراده مما يحتاجه في موقع إمامته المستقبليّ، فأراد له أن يتمرّد على هؤلاء الموالي المحيطين به، وينفتح على الناس بالعطاء من موقع ثقته بالله الذي يعوّض على المنفقين ما أنفقوه من المال ويرفع درجتهم عنده وعند الناس.
مسؤوليّات الإمامة وتوجيهاتها
ورغم صغر سنِّ الإمام الجواد(ع)، والذي عاش حوالي الخمسة والعشرين سنة، فقد روى عنه جمعٌ من العلماء، وقد عدّدهم السيد الأمين رحمه الله فقال: "قال الخطيب (البغدادي) في تاريخ بغداد: أسند محمد بن علي (الجواد) الحديث عن أبيه (الرضا).. وفي المناقب: كان بوّابه عثمان بن سعيد السمّان، ومن ثقاته أيوب بن نوح بن درّاج الكوفي، وجعفر بن محمد بن يونس الأحول، والحسين بن مسلم بن الحسن، والمختار بن زياد العبدي البصري، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب الكوفي، ومن أصحابه شاذان بن الخليل النيسابوري، ونوح بن شعيب البغدادي، ومحمد بن أحمد المحمودي، وأبو يحيى الجرجاني، وأبو القاسم إدريس القمّي، وعلي بن محمد، وهارون بن الحسن بن محبوب، وإسحاق بن إسماعيل النيسابوري، وأبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، وأبو علي بن بلال، وعبد الله بن محمد الحصيني، ومحمد بن الحسن بن شمون البصري. وقال (صاحب المناقب) في موضع آخر: وقد روى عنه المصنفون نحو أبي بكر أحمد بن ثابت في تاريخه، وأبي إسحاق الثعلبي في تفسيره، ومحمد بن منده بن مهربذ في كتابه"(11).
وهكذا انطلق الإمام الجواد(ع) يعيش مع أصحابه ومع الناس من حوله مسؤوليّة الإمامة في توجيه النّاس وفي تعويدهم على التسامح والانفتاح حتى مع الذين يختلفون معه في الرأي، لا سيما إذا كانوا من الأقرباء.. وقد كتب شخصٌ إليه وقال له: إنَّ أبي ناصب من النواصب خبيث الرأي يبغضكم ويسبُّكم ويعاديكم، وقد لقيت منه شِدّة وجهداً، فرأيك في الدعاء لي وما ترى ـ جُعلت فداك ـ أفترى أن أكاشفه أو أداريه؟ فكتب إليه الإمام الجواد(ع): "قد فهمت كتابك وما ذكرته من أمر أبيك، ولست أدع الدعاء لك إن شاء الله، والمداراة خيرٌ من المكاشفة ـ يعني ما دام أنَّه أبوك فحاول معه باللطف والحسنى ـ فلعله يميل إليك، وإلى ما أنت فيه بعد ذلك، ومع العُسر يسرٌ، فاصبر فإنَّ العاقبة للمتقين، ثبّتك الله على ولاية مَن تولّيت، نحن وأنتم في وديعة الله الذي لا تضيع ودائعه"(12)، ويقول هذا الرجل إنَّ أباه بعد ذلك انفتح عليه وأصبح لا يخالفه في أيِّ شيء من أموره، وذلك بفضل دعاء الإمام وتوجيهه له.
ويروي بعض أصحابه وهو: "أبو هاشم الجعفري" يقول: "سمعت أبا جعفر يقول: إنَّ في الجنّة باباً ـ والذي يحبُّ الجنّة فليقرأ هذه الكلمة جيّداً وليعمل بها ـ يُقال له المعروف، لا يدخله إلاّ أهل المعروف". فحمدت الله في نفسي ـ فالظاهر أنَّ هذا الرجل كان وجيهاً يقضي حوائج الناس، وفرحت بما أتكلّف من حوائج الناس، فنظر إليّ وقال لي: نعم ـ وكأنّه عرف ما في نفسه ـ تمّ على ما أنت عليه، فإنّ أهل المعروف في دنياهم هم أهل المعروف في الآخرة"، فإذا كنت من أهل المعروف في الدنيا، فإنَّ الله يجعلك من أهل المعروف الذين يدخلون من باب "المعروف" إلى الجنّة.
وقد ورد عن الصدوق بإسناده عن علي بن مهزيار قال: "قلت لأبي جعفر الثاني (الجواد)(ع): قوله عزَّ وجلّ: {والليلِ إذا يغشى* والنّهارِ إذا تجلّى} [الليل:1ـ2]، وقوله عزَّ وجلّ: {والنّجمِ إذا هوى} [النجم:1]، وما أشبه هذا، فقال: إنَّ الله عزَّ وجلّ يُقسم من خلقه بما يشاء، وليس لخلقه أن يُقسموا إلا به عزَّ وجلّ"(13).
وعن الكليني بسنده إلى عثمان بن سعيد من أهل همدان عن أبي ثمامة، قال: "قلت لأبي جعفر الثاني(ع): إنّي أريد أن ألزم مكّة أو المدينة وعليَّ دَيْنٌ، فما تقول؟ فقال: ارجع فأدّه إلى مؤدي دَيْنك وانظرْ أن تلقى الله عزَّ وجلَّ وليس عليك دَيْن، إنَّ المؤمن لا يخون"(14).
إنَّ الإمام الجواد(ع) يؤكّد بأنَّ مجاورة مكّة والمدينة لا تبرّر لهذا الإنسان أن يترك دَيْنَه بدون وفاء، لأنَّ ذلك يمثّل خيانة، والمؤمن لا يخون.
وفي توجيهه(ع) لطبيعة الاستماع إلى الآخرين والانتباه جيداً إلى ما يقولون وما يطرحون من أفكار ومفاهيم ومبادىء، يقول(ع): "من أصغى إلى ناطق فقد عبده ـ فعندما تستغرق في كلام متكلّم بحيث تشدّ كل فكرك وقلبك إليه، فهذا نوع من العبادة ـ فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عبد الله ـ فهو عندما يتحدث إليك عمّا قال الله ورسوله، فأنت تعبد الله بإصغائك إلى هذا الناطق، لأنك تنجذب إلى كلام الله ورسوله ـ وإن كان الناطق ينطق على لسان إبليس فقد عبد إبليس"، فيتحدث بالفتنة والجريمة والخطايا والشر، حتى يثير الناس ويوجّههم إلى ما لا يرضي الله.. لذلك، عندما تنجذبون إلى أيّ خطيب، فعليكم أن تعرفوا من يمثل هذا الخطيب؟ هل يمثّل كلام الله أو أنه يمثّل كلام الشيطان؟
وفي رواية عنه(ع) عن خصال المؤمن، يقول(ع): "المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال: توفيق من الله، وواعظ من نفسه ـ وذلك بأن يفيض عليه من ألطافه بما يفتح عقله، ويغني قلبه، ويأخذ به في خط الهداية، ليملك الوعي والاتزان والاستقامة، فيحاول أن يحاسب نفسه، ويفكر في ما مضى عليه من الزمان؛ هل ما مضى عليه خير أم شر؟ فإن كان خيراً فإنَّه يزداد منه، وإنْ كان شرّاً فإنَّه يُقلع عنه، ولا بدَّ لهذه المسألة من المزيد من الموضوعيّة العقلانية التي تدفعه إلى التمرّد على هواه، وإلى وعي الواقع المحيط به في حساب السلبيّات والإيجابيات على مستوى المصير ـ وقبول مَنْ ينصحه". هناك أناسٌ يأتون إليك لينصحوك في أمر دينك ودنياك، ويبيّنوا لك أخطاءك وليرشدوك إلى الصراط المستقيم، فعليك أن تقبل نصيحة مَنْ ينصحك وتعظ نفسَك بنفسك وتطلب التوفيق من الله.
حتى لا تكون عدوّاً لله
ثم يقول(ع): "لا تكن ولياً لله في العلانية وعدوّاً له في السرّ"، بحيث تكون أمام النّاس مؤمناً خيّراً تحمل "السبحة" بيدك وتسبِّح الله، ولكن إذا خلوت مع نفسك فإنك تصبح عدوّاً لله من خلال أعمالك التي لا يرضاها الله تعالى. ومن هنا، ينبغي للإنسان أن يكون الصادق في علاقته بالله، بحيث تلتقي علانيته بسرّه فلا تنفصل عنها، وذلك بالازدواجيّة بين السرّ والعلن، لأنَّ ذلك يوحي بفقدان التوازن ويؤدي به إلى خسارة المصير، لأنَّه يضع نفسه في دائرة النفاق، وهذا ما يجعله في موقع سخط الله الذي يعامل الناس على واقع أمورهم في الباطن الذي تتمثّل فيه حقيقة الشخصيّة.
وورد عنه(ع): "كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة"، بحيث يدافع عنهم ويحفظ أسرارهم ويبرّر لهم خيانتهم.. فهذه من أعظم الخيانة، لأنَّه لا فرق بين من يخون وبين من يكون قوّة للخائن، لأنَّ الخيانة تتمثّل في الذهنية الخيانيّة التي تتجاوز السلوك الإنساني في نفسه إلى الامتداد في الواقع بمساعدة الخائنين.
ويعلّمنا الإمام(ع) عندما نتحرّك مع الزمن ألا ننسب الأشياء إلى الزمن، فقد جاء أحد الأشخاص إلى الإمام عندما تزوّج »أم الفضل« بنت المأمون فقال له: "يا مولاي، لقد عظمت علينا بركة هذا اليوم، فقال(ع): يا أبا هاشم، لقد عظمت بركة الله علينا فيه ـ فلا تنسب البركة إلى اليوم، فإنَّ اليوم لا يملك أن يؤخِّر أو يقدّم، ولكن إذا جاءتك البركات في أيِّ يومٍ وزمان فانسبها إلى الله تعالى، لأنَّه هو الذي يعطي ويمنع ـ فقال الرجل: نعم يا مولاي، فما نقول في اليوم؟ قال(ع): تقول فيه خيراً يصيبك"، عليك أن تتفاءل بالأيام، وليكن تفاؤلك من خلال ثقتك بالله تعالى الذي هو عند حُسن ظنِّ عبده المؤمن، فإذا ظنَّ به خيراً أعطاه الخير ثواباً منه لحسن ظنِّه به.
الغضب لله في مواجهة الانحراف
وفي روايته عن أمير المؤمنين عليٍّ(ع) أنَّه قال لأبي ذر عندما أُبعد من المدينة، وهو يريد أن يهوِّن عليه مشكلته وبلاءه وابتعاده عن مدينة رسول الله(ص) التي قضى فيها كلَّ عمره الإسلاميّ: "إنما غضبت لله عزَّ وجلّ فارْجُ مَن غضبت له ـ إنَّك يا أبا ذرّ لم تغضب لنفسك، لتكون المسألة مسألة شخصيّة تعيش فيها حالة اليأس والقنوط والإحباط، ولكنك غضبت لله، والله هو المهيمن على الأمر كلِّه، غضبت لأنَّك رأيت أنَّ الله يُعصى فنهيت عن المنكر، ورأيتَ الله لا يُطاع فأمرت بالمعروف.. ولذا، فإنَّ القضية هي مع الله، فارْجُ مَن غضبت له..
وهذا درسٌ لكلِّ إنسان مصلح عامل عندما يضطهده الناس المنحرفون أو الظالمون، فإنَّه عندما يغضب لله، سينال منه التعسّف والقسوة والتشويه من خلال غضبه لله، ولذا، عليه ألاَّ يسقط، بل عليه أن يرجوَ الله سبحانه ـ إنَّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ـ الفرق بينك وبين هؤلاء، أنهم انطلقوا في دنيا انحرفوا فيها عن الخط، وكنت تريد أن تعيدهم إلى الخطِّ، ولو أعدتهم إلى خطِّ الاستقامة بعيداً عن خطِّ الانحراف لفقدوا كثيراً من امتيازاتهم الماديّة والمعنوية التي صنعوها لأنفسهم، أما أنت، فلم تنطلق من دنيا تريدها أو من منصب فقدته، أو من مال لم تحصل عليه، وإنَّما انطلقت من خوفك على الدين أن ينحرف به الناس عن الخطِّ المستقيم.. ثم أراد له(ع) أن يفتح له ولكلِّ العاملين في سبيل الله كلَّ أبواب الأمل، فقال(ع): ـ لو أنَّ السموات والأرض كانتا على عبد رتقاً ثم اتّقى الله عزَّ وجلَّ لجعل الله منها مخرجاً ـ ثم قال له(ع) والكلمة لنا جميعاً ـ : لا يؤنسنّك إلاَّ الحقّ ولا يوحشنّك إلاَّ الباطل".
إنَّ أهل الحقّ عندما ينفضُّ الناس عنهم، فإنّهم لا يستوحشون، لأنَّ الحقّ هو الأنيس لهم، والله هو الحقّ، وما يدعون من دونه هو الباطل، أما إذا عاش الإنسان الباطل، فإنَّه لو كان كلُّ الناس معه، فإنَّه يعيش الوحدة، لأنَّ الباطل عندما يحيط به، فإنَّه يعيش الغربة القاتلة.
في عين الله رغم كلِّ التحديات
وهذا أمرٌ لا بدَّ لكلِّ العاملين والمجاهدين في سبيل الله أن يتمثّلوه في أنفسهم، وذلك بأن يكون الحقُّ هو الأنيس الذي يأنسون به، وأن يكون الباطل هو الوحشة التي يستوحشون منها، حتى ينطلقوا في أملٍ كبير في الحياة، وهو ما كان أمير المؤمنين عليٌّ(ع) يقوله: "لا يزيدني كثرةُ الناس حولي عزّةً ولا تفرّقهم عني وحشة"(15). وكان(ع) يقول للنّاس كلِّهم: "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله"(16). ونستوحي من موقف الإمام علي(ع) ـ حسب الرواية ـ في تحدّيه للسلطة بالوقوف مع أبي ذرّ الغفاري في دعمه له بالرغم من نهي السلطة عن ذلك، ما يُوحي إلينا بأن نقف مع المضطهدين من أهل الحقّ عندما يتعرّضون للاضطهاد من السلطة.
وهكذا نجد أنَّ الإمام الجواد(ع) قال له رجلٌ: "أوصني، فقال: أوَتقبل؟ قال: نعم، قال(ع): توسّد الصبر ـ عليك أن تنام على فراش الصبر، بحيث إذا واجهتك الحياة في تحدياتها وبلائها فلا تسقط ـ واعتنق الفقر ـ فإذا داهمك الفقر فلا تعمل على أساس أن تسقط، بل اصبر أمام تحديات الألم والحرمان حتى يفرجها الله تعالى ـ وارفض الشهوات ـ لأنَّها تقودك إلى الابتعاد عن الحق وفقدان التوازن ودخول النّار ـ وخالف الهوى ـ فلا تجعل كلَّ طموحك في الحياة أن تحقّق هوى نفسك، ولكن ادرس هوى نفسك، فإن كان يصدُّك عن الحقّ وينحرف بك عن الله تعالى فخالفه ـ واعلم أنَّك لن تخلو من عين الله".
في أيِّ مكان كنت أنت في رقابة الله، وأنت في الوقت نفسه برعاية الله، لذلك تحرّك في الحياة على أساس أن تراقب نفسك في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، لأنَّ الله يراقبك، وإذا جاءك اليأس والإحباط، فاعلم أنَّك بعين الله ورعايته، فانظر كيف يكون موقفك ومسيرك.
وفي حادثة حصلت مع الإمام الجواد(ع)، أنَّه حُمِل له بزٌّ ـ وهو القماش ـ له قيمةٌ كبيرة، فسُلِب في الطريق، فكتب إليه الذي كان يحمله ليعلمه بذلك، فوقّع بخطه الشريف: "إنَّ أنفسنا وأموالنا من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودَعة ـ فأنفسنا التي خلقها الله هي عارية مستعارةٌ أودعها الله عندنا إلى وقت معلوم، وأموالنا أيضاً أعارنا الله إيّاها في فترةٍ من عمرنا ـ يُمتّع بما متّع منها في سرور وغبطة ـ فما دام أنَّ الله تعالى قد مهّل لنا فيها، فسوف نستمتع بنفوسنا وأموالنا في غبطةٍ ومصلحة ـ ويُؤخَذ ما أُخذ منها في أجرٍ وحسبة ـ وعندما يأخذها الله، فإنَّنا نحتسبها عند الله ليعطينا الأجرَ في ذلك ـ فمن غلب جزعه على صبره حبط أجره ونعوذ بالله من ذلك"(17).
وفي هذا الحديث عظة للمؤمن أن لا يعيش السقوط النفسي والحزن القلبي أمام الخسارة المادية، بل أن يرتفع بوعيه للحياة أنها قد تحمل للإنسان الربح من خلال الظروف الملائمة، كما قد تحمل له الخسارة التي تحدث بسبب الظروف القلقة، فيتقبل هذا أو ذاك من دون انفعال خارج عن حدود التوازن، بل يلجأ إلى إيمانه بالله الذي يوحي إليه بأن المال عارية في يد الإنسان من الله وموهبة إلهية له، وأن الله قد يستردها بين وقت وآخر تبعاً للسنن الكونية والتاريخية التي أودعها الله في حياة الإنسان في تأثيرها السلبي أو الإيجابي عليه، الأمر الذي يحقق له التوازن الشعوري أمام الأحداث، على هدى الآية الكريمة في قوله تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم..} [الحديد:23]، وهذا هو الذي يجعله في موقف الإنسان الصابر الذي يلجأ إلى الله في إيمانه ليمنحه قوة الصبر، لا الإنسان الجازع الذي يعيش الضعف في نفسه بما يجعله يسقط أمام التحديات، وهو ما لا يريده الله للإنسان الذي يتحمل مسؤولية الحياة في كل قضاياه في حاجته إلى قوة الإرادة ووعي الواقع وصلابة الموقف.
تعليمه وتوجيهه لأصحابه
كتب إلى أحد أصحابه وكان متولياً لأعماله (في نشر أفكار أهل البيت وجمع الحقوق الشرعية): "بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي (علي بن مهزيار الأهوازي) أحسن الله جزاك وأسكنك جنّته، ومنعك من الخزي في الدنيا والآخرة، وحشرك الله معنا، يا عليّ، قد بلوتُك وخيّرتك في النصيحة والطاعة والخدمة والتوقير والقيام بما يجب عليك، فلو قلت إنّي لم أرَ مثلك، لرجوت أن أكون صادقاً، فجزاك الله جنّات الفردوس نُزُلاً، فما خفي عليّ مقامك ـ فهو(ع) يتابع أعمال مواليه حتى وهم في الأمصار البعيدة ـ ولا خدمتك في الحرّ والبرد، في الليل والنهار، فأسأل الله إذا جمع الخلائق للقيامة أن يحبوك برحمة تغتبط بها إنَّه سميع الدعاء"(18).
إنّ هذا الكتاب يدلّ على أنّ الإمام الجواد(ع) كان في أسلوبه التشجيعي للمخلصين من أصحابه، يؤكد لهم الثقة بهم والتقويم لأعمالهم ولدرجاتهم في الإخلاص والنصيحة والطاعة، ليزدادوا بذلك إخلاصاً، وليشعروا بأنّ القيادة الإسلامية الإمامية غير بعيدةٍ عن كلّ ممارساتهم الصحيحة الخالصة، وهذا ما ينبغي للقياديين أن ينهجوه ويقتدوا به في عملية إيحاء بالتقدير للقاعدة في متابعاتها ومبادراتها الخيّرة.
تشجيع الإمام الجواد(ع) على الإحسان
يطلب منه أحد الموالين أنَّ والياً للعباسيِّين يتولّى أهل البيت(ع)، وكان هذا الشخص ممن أثقل عليهم دفع الخراج للسلطة، فطلب من الإمام الجواد أن يكتب إليه ليخفّف عنه كونه من "محبّيكم"، فأخذ القرطاس وكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فإنَّ موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً، وإنَّ لك من عملك ما أحسنتَ فيه، فأحسنْ إلى إخوانك، واعلم أنَّ الله عزَّ وجلّ سائلُك عن مثاقيل الذرّ والخردل"(19)
إن هذه الرسالة توحي بأنّ وصيّة الإمام لهذا الوالي بالإحسان إلى إخوانه لم تقتصر على الجانب الشخصي في الوصية، بل تعدّتها إلى المنهج الذي لا بد للوالي أن يتبعه في موقع ولايته في الإحسان في عمله، فلا يكون الموقع السلطوي لديه شأناً شخصياً يزهو به وامتيازاً يرتفع به عن الناس، بل مسؤولية في ممارسته الإحسان في عمله بكلِّ الوسائل والأساليب التي يجد فيها إخوانه والناس الآخرون حركة الإحسان إليهم في ذلك، بما يفرضه الموقع من خدمتهم، كما أنّ الوصية أرادت له أن يكون دقيقاً في حساباته في ما اؤتمن عليه من خلال إيمانه بأنّ الله سوف يسأله عن أقلّ الأشياء حتى عن مثاقيل الذرّ والخردل، كتعبير عن أصغر الأمور في حساب المسؤولية.. وهذا ما يوحي بأنّ الإمام الجواد(ع) كان يتابع شيعته الذين يتولّون مسؤوليّة رسميّة في مواقعهم في سلطة الخلافة، ليوجّههم إلى أن يكونوا النموذج الأمثل للمؤمن المسؤول في الإحسان في عمله وفي محاسبة نفسه وفي الإحسان إلى إخوانه.
المصادر:
(1) كشف الغمة، ج:4، ص:187.
(2) الإرشاد للشيخ المفيد، ص:297.
(3) إثبات الوصيّة، ص:311.
(4)الإرشاد للشيخ المفيد، ص:281 وما يليها ـ طبعة بيروت.
(5)كفاية الأثر، ص:324.
(6) الإرشاد، ص:279.
(7) الإرشاد، ص:276.
(8) الكافي، ج:1، ص:233ز
(9) تفسير العياشي، ج:1، ص:131.
(10)عيون أخبار الرضا، ج:2، ص:8.
(11)في رحاب أئمة أهل البيت، ج:4، ص:169 ـ 170.
(12)بحار الأنوار، ج:5، ص:55.
(13)الغيبة، ج:3، ص:376.
(14)الكافي، ج:5، ص:94.
(15)نهج البلاغة، الكتاب:36.
(16)نهج البلاغة، الخطبة:201.
(17)تحف العقول، ص:479.
(18)كتاب الغيبة، ص:226.
(19)الكافي، ج:5، ص:111.